ملاذ الطفولة وعصا الوطن

جمال حافظ واعي

 1

 اية جغرافية تلك التي تلفحك بسياطها وتخدّر حواسك وانت الجوّال في الاقاليم ، المتحول عن دارتك الى المساحات المكشوفة ، انت هنا تتناهبك السعة ولكنك هناك في تلك البقعة النائية ، الاستثناء المكاني الاول الذي لا تزاحمه خرائط كولمبس ولا بوصلة ماركو بولو ولا مراصد فاسكودي غاما ، في الملاذ الذي هو امتداد للرحم ، بيت الطفولة او مهدك المتحرك.

انه السحر الذي يتلبسك من حيث لا تشعر ، يحل في كيانك المستسلم له بلا مريدين ولا وسائط ، الثقب الذي ابصرت من خلاله العالم وماعداه ثقوب تطل على الفراغ الموحش ، فالامكنة لا تختلف الا بديكورها الخارجي ودرجة سطوع الاضواء اما قريتك الروحية ، ملاذك الاليف فهو وحده المغمور بـ (( الاضواء المستديمة )) ، الخصوبة المحتشدة خارج قوانين الطبيعة وشماتة الفصول وهونسخة اصلية غير قابلة للاستنساخ ولا تسري عليه متواليات الطبيعة في الولادة والشيخوخة والذبول لأنه انزلاق متصل خارج حدود الزمان ، وهو ليس بناء متشكلا ولكنه روح هائمة تمنحك نورها الخفي.

 

2

 الملاذ الاول ارخبيلات من الدهشة وتاريخ من التورية وبراءة تجاور الاسطورة .

الملاذ مفهوم روحي اما الوطن فهو مفهوم سياسي ، الملاذ نشيد تكتبه حواسك الغائرة اما الوطن فهو بيانات سياسية يكتبها الاخر ، الملاذ امتدادك في هذا العالم اما الوطن فقد لا تكون لك حصة فيه حتى وان سالت منك انهار من الدم وقد تخرج منه عاريا ، الملاذ هو ارثك المأهول بالاحلام الجميلة التي لا ينافسك فيها احد اما الوطن فغالبا ما يتوارثه اللصوص ، الملاذ كعبتك التي تطوف حولها او تطوف حولك لا فرق اما الوطن فتصفعك لافتاته وممنوعاته التي تمنع السير هنا وهناك ، الملاذ هو المرآة التي ترى بها وجودك اما الوطن فتحجبك عنه جدرانه ومصداته ومتاريسه وخنادقه المتقابلة ، الملاذ ذو بعد واحد والوطن استطالات ، الملاذ رياح مطهرة والوطن رياح مثقلة بشتى التفاصيل ، الملاذ واحة للمكاشفة والوطن مضامير للتخفي، الملاذ طريق سالك لا ريب فيه والوطن طرائق وعرة ومطبات واستدارات مجنونة ، الملاذ تراتيل خالصة والوطن هتافات وتلقين يومي ، الملاذ انا والوطن نحن ، الملاذ تفرد والوطن اشتباك ، الملاذ ركن قصي تأوي اليه بلا ضجة والوطن طاولات مستديرة وخلافات لا اول لها ولا اخر، الملاذ سؤال الاعماق والوطن سؤال العقل السياسي المناور.

 

3

 عندما تستكلب السياسة يضيع الوطن والملاذ معا ، فما السياسة عندنا الا الوجه الاخر للضياع ، حتى اماكن الوطن خضعت للتصنيف السياسي فهناك اماكن درجة اولى وهناك اماكن درجة ثانية وهناك اماكن منحطة ومشبوهة ، وغالبا ما يسألك البعض : من اي مكان انت في الوطن ؟ ليحدد فيما بعد انتماءك الى واحد من هذه الاصناف !!

اليست هذه هي الحقيقة التي دأبت السياسة على ترسيخها وعلى امتداد الازمان ؟!

افنينا اعمارنا ونحن لا نعرف مَنْ نكون في هذا الوطن ، اهو لنا ام لغيرنا ، وقد اكتشفنا بعد فوات الاوان انه ليس لنا بل لغيرنا وما نحن الا نوع جديد من المرتزقة لم يصنفه تاريخ الاوطان بعد ؟!

ففي الكثير من زوايا وارصفة الوطن يكون وجودك مشبوها ومحل شك وريبة وتساؤل واستجوابات : ماذا تفعل هنا ولماذا اتيت وعن اي شيء تبحث وهل يعرفك احد – يحدث هذا في زمن السلم فكيف في زمن الحروب - فأنت متهم في السر وفي العلن لأنك تجاوزت حدودك في الوطن الذي حدد مرتسماته - ملاّكه الحقيقيون وورثته – وتخطيت الحدود التي لم يرخص لك بتخطيها ، اجل للوطن حدود داخلية لأبنائه وخطوط ليس من حق البعض عبورها وعبورها يعني التسلل الى الاماكن المحرمة التي تخص سادته...

على امتداد تاريخ سلالاتنا كنا وقود الوطن – نحن فقراؤه – الوقود الذي يتدفأ به الاخرون في محارقه التي لا تنتهي ، كنا اشبه بلقطاء في شجرة انسابه ودماؤنا شبهة وخلاصتنا في نظرهم تاريخ من التآمر ، فما الذي جنيناه من الوطن غير قوافل الموتى وطوابير من الارامل واليتامى والمشردين ؟!

 

4

 

(( قرية صغيرة هي طفولتك

 

مع ذلك

 

لن تقطع تخومها

 

 مهما اوغلت في السفر. )) ادونيس

 

استراليا

[email protected] 

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس  13/تموز /2006 -15  /جمادي الاخرى/1427