لكيلا يعود المسلمون جاهلية آبائهم الأولين (4)

أو

(لكي يعود المسلمون أمة متحضرة)

محمد سعيد المخزومي

 لقد أكثر الباحثون واستغرق المحللون في الشأن السياسي لهذه الأمة على ما فيها من عوامل التطور والنهوض الحضاري فأكثروا الحديث وأسهبوا في الأطروحات حتى جاءا لهذه الأمة البائسة بمشاريع الاستبداد القومي الذي يبيد على أساس التمايز العرقي، ومشاريع العنف الطائفي الذي يذبح على الهوية ويمحو على الاعتقاد، وما بينهما العديد من مشاريع الترهل الاجتماعي والفساد الأخلاقي للإنسان والمجتمع والحياة على حد سواء.

ولم يفلحوا جميعهم في إصابة كبد الحقيقة، ولم تجنِِِِِ الأمة منها إلا  الدماء والدمار والتقهقر والانحدار، على رغم ما فيها من عوامل التمكين الحضاري الذي لو كانت بيد غيرها من الأمم لقادت العالم إلى شاطئ السلام حقيقة لا بالزعم والوهم .

والسبب في ذلك كله يعود إلى فقدان المتصدين الفكر الصائب والإخلاص الصادق، وغفلة العاملين وجهل العامة من هذه الأمة إلى حقيقة ما يجب العمل به حتى صار مثلها مثل من توافرت لديه أدوات لبناء بيت شامخ جميل ثم يتركها ليشتري أدوات بأبهض الأثمان ويبني له بيتا كارتونيا أو زجاجيا لا يسمن ولا يغني من جوع .

فالخلل يكمن في البُناة المتصدين لهذه المهمة الحضارية لجهلهم بمستلزمات الحضارة ومناهج التحضر، فأبقوا هذه الأمة متخلفة، متشرذمة، متشتتة يذبح فيها القويُ الشرسُ المسالمَ المتوطنَ لكي تبقى على مستوى معين من الجهل الفكري والتردي الثقافي والانحدار الاقتصادي ثم يطلب من الضحية أن يتصالح مع الوحوش الضارية تحت مسميات سياسية منافقه تقول حقا لترمي به في مطحنة الاستبداد القومي والطائفي من جديد .

من هنا كان على الواعين من هذه الأمة مسؤولية خطيرة إن لم يضطلعوا لها سيصبحون لعنة التاريخ والأجيال والمستقبل الأبدي الذي لا يزول، وتلك هي توعية الأمة إلى حقيقة ما يجب العمل به من أجل إنقاذ البشرية المعذبة وهذه الأمة البائسة التي اُركست في أوحال التيه منذ قرون، فعلى المفكرين والعلماء والمتصدين أن يكتشفوا ويكشفوا للأمة الأسرار التي يجب العمل بها ليصبحوا أمة متحضرة على هذا الكوكب. 

الأمر الذي اضطرنا إلى هذا البحث فقلنا كان السر الأول الذي يمكن أن يجمع بين حبات مفردات عوامل التحضر الكامنة في هذه الأمة الإسلامية  هو وعيها لحقيقة الوحدة والاجتماع  والتآلف كما سماها خالقهم (جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) ([1]) وليس لتهالكوا وتناحروا وتقاتلوا كما هو عليه حال التقدميات الوطنية المتحضرة (؟) المعاصرة

فكان السر الأول: في قوّة المسلمين يكمن في وحدتهم، لأن هذه الأمة أمة مسلمة .

وأن وجود أقليات دينية فيها لا يلغي كونها أمة   مسلمة وقد يكابر ويغالط البعض في ذلك فنقول له هل يقبل أحد من مسلم إذا ما أنكر مسيحية العالم الغربي لمجرد وجود أقلية دينية مسلمة؟ فهل يصح أن نلغي مسيحية العالم الغربي لمجرد وجود أقليات دينية فيه ؟  

أما السرُّ الثاني: لوحدة المسلمين فيكمن في عقلانيتهم تلك العقلانية التي تضع الامور محالها في الحياة من دون حيف أو جور.حتى إذا أكملنا البحث فيما سبق قلنا أن:

السرُّ الثالث: وهو أن عقلانية المسلمين لن تتحقق إلا في نبذهم فكر التطرف وثقافة العنف ، لأن العنف يفسد على العنيف حياته وعلى الآخرين حياتهم ومستقبلهم ويهدم استقرار المجتمع على رأسه، بينما كان

السرُّ الرابع:  من أسرار النهوض الحضاري من هذا التردي والذي يمكّن المسلمين في نبذهم فكر العنف والتخلص من ثقافة التطرف هو العودة إلى ثقافة الرفق والسلم والعمل عليها من حيث الفهم والسلوك والممارسة. ولكي تتمكن الأمة من العودة إلى ثقافة الرفق ومناهج السلم عليهم لا بد من الوقوف على : العودة إلى أئمة السلم من هنا كان :

السرُّ الخامس: وهو أن العودة إلى ثقافة السلم تكمن في العودة إلى نبي الحياة وأهل بيت السلام والتعلم منهم مناهج الحياة وثقافة البناء لا ثقافة الهدم والقتل والإبادة . الأمر الذي يلزمنا البحث في :

السرُّ السادس: وهو الكفيل بعودة المسلمين إلى نبي الحياة وأهل بيته ويتجلى في طاعتهم هذا النبي وأهل بيته والتعلم منهم مناهج الحياة وحماية الإنسان والإنسانية، وإلا فلا يمكن تصديق دعوى محبتهم من دون الطاعة لهم.

حتى إذا انتهينا من تلك المباحث كان علينا البحث في مفاد :

السرُّ السابع:

 وهو أن حقيقة محبة المسلمين لله والرسول وأهل البيت تتطلب منهم الثورة على الفكر الأموي المتوغل فيهم

المتتبع للقرآن والسنة النبوية ومناهج أهل البيت لم يجد فيها ما يأمر بالعف أو يشجع عليه أو يحارب الرفق، بل تجد تلك المناهج عاملة ومؤكدة على أن: (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) ([2]) وما الحروب التي تعرض لها الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  إلا  حروب دفاعية اضطرارية حصرها الرسول في زمان معين ومكان محدد فلم يسنح بها لتمتد إلى سنين وعقود كما هو الحال في الحروب المعهودة في العالم قديما وحديثا، ولخروج الأمر عن موضوع بحثنا اقتضت الإشارة والتنويه على هذه العجالة  .

وهنا نتسائل من أين ورث المسلمون العنف والإقصاء والتطرف باسم الدين ؟

الواقع أن العنف الطائفي والسياسي والاقتصادي والفكري والثقافي نشأ في المسلمين طارئا على الدين الحنيف، وأن منابعه بالدرجة الرئيسة هي السياسة الأموية، ذلك أن تاريخ ممارسة العنف عند المسلمين ابتدأ واستمر ولم ينتهي في صب حممه وحقده على رسول الله من خلال نصب العداوة وحروب الإبادة على أهل بيته وشيعتهم على طول التاريخ حتى أيامنا المعاصرة التي نعيش .

ومن الخطأ الفاضح والجهل اللائح عند عموم المفكرين العرب من إسلاميين وغير إسلاميين – مع تقديري لهم -  هو تجاهلهم التاريخ الإسلامي وخصوصا سياسات الأمويين والعباسيين وغيرها ودورها في خلق الشخصية التي عليها هذه الأمة، وحينما نعالج الواقع المعاصر ونستقرئ أحداثه من وحي النظر إلى التاريخ يعتقدون انه بحث قديم لأمور عفا عليها الدهر ومضت ولا يحتاج الأمر إلى نبش الماضي، وكأن لم يكن الحاضر ابناً للماضي ولا المستقبل ابناًَ للحاضر وكأن لم تكن الدورات الحضارية لحركة التاريخ في صعود المجتمعات وسقوطها هي التي تتوالد في رحم التاريخ على ما فيه من صفحات مشرقة مشرّفة، وأخرى سوداء مظلمة.  

وذلك من حيث أن السياسة الأموية قد دأبت على تزييف الدين وتمرين المسلمين على (العنف) الذي جعلوا (ضحيته) المفضلة (والميدان) المناسب له هم (أهل بيت رسول الله وشيعتهم)، ولا ينسى التاريخ أن يذكر لنا حقد معاوية على الرسول وتدبيره الخطط من أجل الإطاحة به صلى الله عليه وآله وسلم، ولأنه لم يستطع الانتقام منه مباشرة لما سيؤدي الأمر به إلى انقلاب المسلمين عليه فكان لابد له من الانتقام منه في أهل بيته الذين يمثلون امتداده الطبيعي في الحياة، من هنا استفحل التطرف بإسم الدين ضد الشيعة إلى يومنا هذا.

يقول: (المطرف بن المغيرة بن شعبة دخلت مع أبي على معاوية و كان أبي يأتيه فيتحدث معه ثم ينصرف إلي فيذكر معاوية وعقله ويعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ورأيته مغتما فانتظرته ساعة وظننت أنه لأمر حدث فينا فقلت ما لي أراك مغتما منذ الليلة فقال يا بني جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم!

 قلت: وما ذاك ؟

قال: قلت له (لمعاوية) وقد خلوت به إنك قد بلغت سنا يا أمير المؤمنين (؟!) فلو أظهرت عدلا وبسطت خيرا فإنك قد كبرت ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم فو الله ما عندهم اليوم شي‏ء تخافه وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه.

فقال: هيهات هيهات أي ذكر أرجو بقاءه؟! مَلَكَ أخو تيم فعدل وفعل ما فعل فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلا أن يقول قائل أبو بكر.

ثم ملك أخو عدي فاجتهد وشمر عشر سنين فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلا أن يقول قائل عمر.

وإن إبن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات أشهد أن محمدا رسول الله فأي عمل يبقى وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك لا والله إلا دفنا دفنا) ([3])

  من هذا التصريح الخطير يتبين أن معاوية كان مغتاضا جدا من أن يبقى ذكر رسول الله على المآذن خالدا مقابل ذكر أبي بكر وعمر الذي لم يرفع على المآذن ولم يبق خالدا إلا من أن يقال قال أبو بكر وقال عمر، وإنما يريدهم أن تكون لهم سنّة مقابل سنّة رسول الله الذي كان يسميه إبن أبي كبشة ولم يتحمل أن يقول رسول الله ( وقد كانت الجاهلية تسمي النبي بهذا الإسم لأن الله قد فداه بذبح عظيم" ، وبالتالي فيجب عليه وعلى من يليه على منهجه أن يدفن ذكر رسول الله فقال (ألا دفنا دفنا)، وقد حدد أن الذي يبقي ذكر النبي وسنته هو أهل بيته وهذا هو محور القضية التي أراد إعلانها معاوية في هذا البيان الخطير.

وقد هلك معاوية، وفهم هذا البيان الخطير من كان يكره أهل البيت وهو المغيرة بن شعبه ومع هذا سمى معاوية (أكفر الناس) وعرف مبتغاه من تأسيس منهج الانتقام من أهل البيت وشيعتهم.

ولكن هل فهمت الأمة في هذا الزمن المعاصر فضلا عن الزمن الغابر بيان معاوية الخطير ؟ّ

وهل أدركت أن مراد المشروع الأموي هو تغيير مسار السنّة التي أرادها الرسول إلى السنة التي يريد إرساء قواعدها زعماء جاهلية الحزب الأموي القومي العربي ؟

ولكي تفهم الأمة تاريخها وما كان يٌدبّر لها لا بد من بيان الحقائق التاريخية المؤسسة لواقع الأمة حتى هذا اليوم وذلك من خلال معرفة الامور التالية:

 

الأمر الأول

تحذير رسول الله من تغيير السنة النبوية

إن معنى السنة هي الطريقة المتبعة من قبل جيل أو أجيال من الناس أو أمة، وقد اصطلح على منهاج الرسول قولا وفعلا وتقريرا بالسنة واُطلق عليها السنة النبوية أو  سنة رسول الله صلى الله عليه وآله سلم.

ثم إن التاريخ لم يبق ساكتا عن التصريح بأن السنة النبوية قد تعرضت إلى التغيير والتحريف، وذلك من خلال ما أبدع فيه الأمويون وحكام الجور على وضع أحاديث ونسبتها إلى رسول الله  حتى سميت تلك الظاهرة بظاهرة وضع الحديث.

وكان البارعون في وضع الحديث هم الأمويون، حيث بدأوا بتشخيص أحاديث نبوية جمّة أرادوا بتغييرها تغيير المنطلقات والثوابت التي أرادها رسول الله من الإنسانية عموما والأمة خصوصا إلى منطلقات وثوابت تخدم مناهج الانقلاب الجاهلي على الإسلام والتي اعتمدها الأمويون على طول التاريخ، حتى نجحوا في تربية الأجيال عليها إلى هذا اليوم، فكانت التربية على تلك الأحاديث قد شكّلتْ معالم سنّة جديد، تلك هي معالم سنّة الانقلاب الجديد على الإسلام ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم .

وممن قد روى هذه التربية على هذه السنة الأموية هو سليم بن قيس الهلالي ممن صحب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام حيث قال خطبنا أمير المؤمنين وقال فيما قال: ( إني سمعت رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم" يقول كيف أنتم إذا لبستكم فتنةٌ يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير يجري الناس عليها ويتخذونها سنةً فإذا غير منها شي‏ءٌ قيل قد غيرت السنة) ([4])

وقال قيس قلت لأمِيرِ المؤمِنِين عليه السلام: (إِني سمِعت مِن سلمان والمِقدادِ وأبِي ذر شيئاً مِن تفسِيرِ القرآنِ وأحادِيث عن نبِي اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) غير ما فِي أيدِي الناسِ ثم سمِعت مِنك تصدِيق ما سمِعت مِنهم ورأيت فِي أيدِي الناسِ أشياء كثِيرةً مِن تفسِيرِ القرآنِ ومِن الأحادِيثِ عن نبِي اللهِ( صلى الله عليه وآله وسلم) أنتم تخالِفونهم فِيها وتزعمون أن ذلِك كله باطِلٌ أفَترى الناس يكذِبون على رسولِ اللهِ ( صلى الله عليه وآله وسلم)  متعمدِين ويفسرون القرآن بِآرائِهِم ؟

قال: فأقبل علي فقال: قد سألت فافهمِ الجواب إِن فِي أيدِي الناسِ حقاً وباطِلاَ وصِدقاً وكذِباً وناسِخاً ومنسوخاً وعاماً وخاصاً ومحكماً ومتشابِهاً وحِفظاً ووهماً وقد كُذِب على رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) على عهدِهِ حتى قام خطِيباً فقال أيها الناس قد كثرت علي الكذابة فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده مِن النارِ ثم كُذِب عليهِ مِن بعدِهِ.. ) ([5])

ولأن البحث طويل وموسع، لا بد أن نأتي على شاهد في هذا المقام فنقول أن السنة النبوية قد تعرضت إلى التغيير الجاهلي والتحريف الأموي، وهذا ما لا ينكره أحد من الشيعة ولا السنة على حد سواء، وأن الذي اضطلع بهذا التحريف هم الأمويون كما سنبينه في بحث الأمر الثاني.

الأمر الثاني

إعلان معاوية معالم السنة الأموية في نصبها العداوة لأهل البيت

كانت السنة الأموية قد اضطلعت بحربها الشعواء على أهل بيت رسول الله وخصوصا أمير المؤمنين لأنه الأقرب إلى نبي الإسلام بلا منازع أو معترض إلا من نشبت في جوانحه الثقافة الأموية، وقد ذكر المؤرخون في هذا المجال: أن معاوية أمر الناس بالعراق والشام وغيرهما بسب علي "عليه السلام" والبراءة منه. وخطب بذلك على منابر الإسلام وصار ذلك سنة في أيام بني أمية.

  وقال: (أبو عثمان الجاحظ أن معاوية كان يقول في آخر خطبة الجمعة اللهم إن أبا تراب ألحد في دينك وصد عن سبيلك فالعنه لعنا وبيلا وعذبه عذابا أليما، وكتب بذلك إلى الآفاق فكانت هذه الكلمات يشار بها على المنابر)

  وأن هشام بن عبد الملك لما حج خطب بالموسم فقام إليه إنسان فقال يا أمير المؤمنين إن هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب فقال اكفف فما لهذا جئنا.

وذكر المبرد في الكامل أن خالد بن عبد الله القسري لما كان أمير العراق في خلافة هشام كان يلعن عليا (ع) على المنبر فيقول اللهم العن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم صهر رسول الله (ص) على ابنته وأبا الحسن والحسين ثم يقبل على الناس فيقول هل كنيت.

 وروى أبو عثمان : أن قوما من بني أمية قالوا لمعاوية يا أمير المؤمنين إنك قد بلغت ما أملت فلو كففت عن لعن هذا الرجل ؟

فقال: لا والله حتى يربو عليه الصغير ويهرم عليه الكبير ولا يذكر له ذاكر فلا ) ([6])  

 

وهذا معنى قولنا أن الأمويين أرادوا تغيير السنة النبوية إلى سنة أموية حيث أن السنة هي التي تعني تعويد الأمة على منهاج معيّن يصبح عندها عادة مألوفة وسيرة مستحبة غير منكرة على الإطلاق تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل وهذا ما قد حصل فعلا.

الأمر الثالث

تأكيد الوقائع التاريخية لهذه السنة الأموية

وهنا لابد لنا من تسليط الضوء على بعض الشواهد المؤكدة على وجود هذه السنة الجاهلية في ثقافة المسلمين على طول التاريخ، ومنها:

الشاهد الأول: القرآن يلعن الشجرة الملعونة

لقد روى المؤرخون والمفسرون في تفسير قوله تعالى : ( وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ) الروايات المستفيضة ومنهم ابن أبي الحديد في قوله إن المفسرين قالوا : (إنه "ص" رأى بنى أمية ينزون على منبره نزو القردة، هذا لفظ رسول الله صلى الله عليه وآله الذي فسر لهم الآية به، فساءه ذلك ثم قال : الشجرة الملعونة بنو أمية وبنو المغيرة ) ([7])

 

وقال المدائني : عن الإمام الحسن عليه السلام انه قال: ( إن رسول الله صلى الله عليه وآله رفع له ملك بني أمية، فنظر إليهم يعلون منبره واحدا فواحدا، فشق ذلك عليه فأنزل الله تعالى في ذلك قرآنا قال له : ( وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن )) ([8])

وروى الزبير بن بكار في ( الموفقيات ) ما يناسب هذا عن المغيرة بن شعبة قال : قال لي عمر يوما : يا مغيرة هل أبصرت بهذه عينك العوراء منذ أصيبت ؟

قلت : لا .

قال : أما والله ليعورن بنو أمية الإسلام كما أعورت عينك هذه، ثم ليعمينه حتى لا يدرى أين يذهب ولا أين يجئ ؟) ([9]) .

ورغم هذا الوضوح في نص القرآن عن رؤيا رآها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المنام وقد غاضته وأفزعته إلا أن يد وضاع الحديث ومحرفي الكلم قد غيّروا ذلك بغية تغيير المفاهيم على الناس فقال بعضهم (هي رويا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس قال والشجرة الملعونة في القرآن قال هي شجرة الزقوم ) ([10])

وهنا يجب الالتفات إلى مدى جهد الأمويين في تسخيف عقول المسلمين حيث أن كلمة الرؤيا تقتضي المشاهدة في المنام  بينما مجريات وقائع الإسراء كان حقيقة ويقضة وليست مناما قط . وما ذلك الا دفاعا عن معاوية والشجرة الأموية.

حتى أن ابن حجر في معرض إنكاره هذا التفسير قال: (وذكر عبد الله بن احمد بن أبي طاهر في أخبار المعتضد أن احمد بن الطيب هو الذي أشار على المعتضد بلعن معاوية على المنابر وإنشاء التواقيع إلى البلاد بذلك ومما ذكر فيها من المجازفة انه لا اختلاف بين أحد أن هذه الآية نزلت في بنى أمية والشجرة الملعونة في القرآن، قال وفي الحديث المشهور المرفوع أن معاوية في تابوت من نار في اسفل درك منها ينادى يا حنان يا منان فيجاب الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) ([11]) .

وبعد أن يذكر هذا التفسير ينهض ابن حجر مدافعا عن معاوية فيقول : (قلت، وهذا باطل موضوع ظاهر الوضع) ([12]) ويعتبره موضوعا لأن معاوية من الأئمة الذين أمر الله بطاعتهم ثم يتشبث بالدفاع المستميت عن معاوية وإسقاط الحديث الصحيح فيقول: ( إنْ لم يكن احمد بن الطيب وضعه وإلا فغيره من الروافض ) ([13])  ويقصد بالروافض شيعة آل محمد.

فالمهم عنده وجوب التماس العذر لمعاوية ولو بإسقاط حديث رسول الله الصحيح متنا وسندا، ورغم هذا فهو ينقل عن ابن النديم مدحه لأبن الطيب بقوله: ( وقال النديم كان علمه اكثر من عقله وذكر له كتبا في المنطق والنجوم وغير ذلك ) ([14]) ولكن لما اقتضت الضرورة مدح معاوية والدفاع عن الشجرة الملعونة اجبر نفسه على الطعن على شخص ذكر توثيقه بنفسه، ثم أوجد لنفسه مخرجا يوصل إلى طريق مسدود وهو أولا طعن بتفسير رسول الله للحديث وثانيا طعن بالثقة عنده وهو الراوي وإن لم يكن الراوي هو الواضع لا بد أن يفترض شخصا في الفراغ ليتهمه لأن المهم عنده الدفاع عن مشروع معاوية والأمويين ليكون الأهم إبقاء هذه الأمة مغفلة بالمشروع  الأموي إلى هذا اليوم.

والنتيجة فقد وضع وضاع الحديث من الأمويون النواصب والخوارج الأحاديث الجمة في التمجيد بالشجرة الملعونة التي لعنها الله تعالى في القرآن الكريم وظهرت فيها الأحاديث الصحيحة التي منها ما روي (وأخرجه ابن مردويه عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت لمروان بن الحكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبيك وجدك إنكم الشجرة الملعونة في القرآن ) ([15])

ومع هذا الوضوح كله ترى كتب الحديث والرجال عند عموم المسلمين تعمد إسقاط حديث الرسول وتفسير القرآن بالرأي وحسب مشتهيات الأمويين دفاعا عن (العنف) الأموي ومنهاج السنة الأموية التي يريده معاوية من الأمة  .

الشاهد الثاني : الرسول يلعن مؤسسي السنة الأموية

لم تترك السنة النبوية المطهرة من أن تضع لكل أمر من أمور المسلمين معالمه الواضحة كيلا يختلف عليها إثنان أبدا، وهذه هي حضارية المشروع النبوي الشريف إذ لم يترك من شيء إلا  وقد وضع معالمه كاملة وملامحه واضحة شاملة.

ومن هذه الأمور معالم الإنقلاب الذي سيتعرض له الإسلام ومشروع الإطاحة بالرسول وبيان هوية زعماء الإنقلاب المشؤوم.

يقول إبن أبي الحديد والمتوفى سنة 656 هجرية: وروى شيخنا أبو عبد الله البصري المتكلم عن نصر بن عاصم الليثي عن أبيه قال أتينا مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والناس يقولون نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله .

فقلت: ما هذا؟

 قالوا: معاوية قام الساعة فأخذ بيد أبي سفيان فخرجا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  لعن الله التابع والمتبوع، رُبَّ يوم لأمتي من معاوية ذي الأستاه ! قالوا يعني كبير العجز .

 وقال وروى العلاء بن جرير أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لمعاوية لتتخذن يا معاوية البدعة سنة والقبيح حسنا أكلك كثير وظلمك عظيم ) ([16])

 وهذه النصوص وغيرها تبين أن معاوية قد وضع البدع واعتمدها سنة لتجري عليها الأمة.

الشاهد الثالث: الحديث يحذر من السنة الأموية

وهنا نأتي على شاهد واحد وإلا فإن الشواهد كثيرة ومنها ما روى المتقي الهندي الحنفي عن ابن مسعود قال : (كيف بكم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير، يتخذها الناس سنة، إذا ترك منها شئ قيل : تركت السنة ؟ قيل : يا أبا عبد الرحمن ؟ ومتى ذلك ؟ قال : إذا كثرت جهالكم وقلّت علماؤكم، وكثرت خطباؤكم وقلّت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم وقلّت أمناؤكم، وتفقه لغير الدين والتمست الدنيا بعمل الآخرة ) ([17]) وظاهر قول ابن مسعود هو حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تشهد عليه قرائن الأحاديث النبوية في هذا المقام .

الشاهد الرابع: السنة الأموية تضع الأحاديث في عداوة أهل البيت

قال ابن أبي الحديد: ( وقال أبو جعفر الإسكافي وروي أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروى أن هذه الآية نزلت في علي (عليه السلام) : " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد .

وأن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم - قاتل علي بن أبي طالب - وهي " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة"  الله فلم يقبل فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل فبذل أربعمائة فقبل ) ([18])

وهذا يبين أن معاوية كان قد اشترى بعضا ممن يتسمون بالصحابة بالثمن الأوكس ليفسروا له القرآن حسب المقاسات الأموية ليوجهوا عقول الأمة حسب الإرادة  الأموية كذلك.

 

الشاهد الخامس: بعض أهل زمان معاوية أنكروا عليه سنته في سب أمير المؤمنين

ومنها ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : (كنت عند معاوية وقد نزل بذي طوى فجاءه سعد بن أبي وقاص فسلم عليه فقال معاوية يا أهل الشام هذا سعد وهو صديق لعلي قال فطأطأ القوم رءوسهم وسبوا عليا (عليه السلام) فبكى سعد فقال له معاوية ما الذي أبكاك ؟

قال: ولم لا أبكي لرجل من أصحاب رسول الله ص يسب عندك ولا أستطيع أن أغير وقد كان في علي خصال لأن تكون في واحدة منهن أحب إلي من الدنيا وما فيها:

أحدها أن رجلا كان باليمن فجفاه علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال لأشكونك إلى رسول الله فقدم على رسول الله (صلى اله عليه وآله وسلم) فسأله عن علي فثنى عليه فقال أنشدك بالله الذي أنزل علي الكتاب واختصني بالرسالة أعن سخط تقول ما تقول في علي ؟

قال: نعم يا رسول الله .

قال: ألا تعلم أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟

قال بلى ؟

قال فمن كنت مولاه فعلي مولاه.

والثانية أنه بعث يوم خيبر عمر بن الخطاب إلى القتال فهزم وأصحابه فقال (صلى اله عليه وآله وسلم) لأعطين الراية غدا إنسانا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فغدا المسلمون وعلي أرمد فدعاه فقال خذ الراية فقال يا رسول الله إن عيني كما ترى فتفل فيها فقام فأخذ الراية ثم مشى بها حتى فتح الله عليه .

والثالثة أنه خلفه في بعض مغازيه فقال علي (عليه السلام) يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان فقال رسول الله (صلى اله عليه وآله وسلم) أ ما ترى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي .

والرابعة سد الأبواب في المسجد إلا باب علي .

والخامسة نزلت هذه الآية إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً فدعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا وحسنا وحسينا وفاطمة (عليهم السلام) فقال اللهم هؤلاء أهلي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) ) ([19]) .

ومن هذا يتبين أن حواريي معاوية من أهل الشام كانوا معه حينما نزل بذي طوى وكان عنده ابن عباس ولما جاء سعد بن أبي وقاص فاخبرهم معاوية بصداقته لعلي عليه السلام طأطأوا رؤوسهم خجلا من ابن أبي وقاص ومن ابن عباس، وليس خجلا من سب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لأن سبّه سنة أموية تعلموها من الإسلام الأموي الذي غرسه فيهم معاوية.

الأمر الرابع

قضاة السنة الأموية يأمر بتضعيف المحدثين من الصحابة والتابعين الشيعة

ومن أجل أن يستكمل المشروع القومي الجاهلي انقلابه على رسول الله ومنهجه لابد من إحكام منهج الإقصاء التام  لإمتداداته على طول التاريخ والذي يكمن في إقصاء أهل البيت وكل من يواليهم ويحبهم ويتبعهم ويقول بهم، وهذا يستلزم توجيه الأمور دينيا لتكون الحرب مقدسة مقبولة لدى العامة من هذه الأمة، وليكون قتال أهل البيت وشيعتهم جهادا في نظر الجهال (؟!) ، الأمر الذي يلزمنا أن نذكر مرور هذه القضية الخطرة على مرحلتين أساسيتين ممنهجتين بطرق منهجية تمتد مع الزمن:

المرحلة الأولى: التنصيص الأموي على إسقاط  رواية الشيعي

يذكر محققوا أهل السنة وحصوصا المعتزلة ومنهم إبن أبي الحديد أنه: (كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق : أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة)([20]). ثم بعث مرسوما ملكيا انقلابيا إلى كل البلاد بوجوب إقصاء كل شيعي من العطاء ومحاربته في رزقه أو فيما يسمى بعرف اليوم الحرب أو الحصار الاقتصادي وهذا ما دأبت عليه الحكومات الأموية الطائفية في العراق حتى يومنا هذا.

حيث:( كتب " معاوية " إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه )([21]).

ثم شفع معاوية ذلك القرار بقرار ثانٍ ينص على تشديد العنف ضد أهل البيت وشيعتهم فقال فيما قال فيه: (من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به وأهدموا داره)([22])

ثم كثر وضع الحديث لصالح الصحابة الثلاثة أبو بكر (رض) وعمر (رض) وعثمان (رض)، وألغى كل حديث نبوي ورد في الإمام علي وأهل البيت وشيعته، ومشت عليه الأمة والعلماء والمحدثون والفقهاء ورجال الحديث وأئمة الجرح والتعديل حتى ذكر بعض العلماء المنصفين من أهل السنة من غير الأمويين ولا المتأثرين بالفكر الأموي والسنة الأموية ومنهم ابن أبي الحديد والمدرسة التي ينتمي إليها حيث قال:

(فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة. وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون، والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا مجالسهم ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها . فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي عليه السلام فازداد البلاء والفتنة فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض.)([23]).

المرحلة الثانية: التقنين العلمي للإرادة الأموية

 وفي هذه المرحلة جاء علماء الحديث ومصنفوا الرواة من أهل الجرح والتعديل فوضعوا دائرة حمراء كبيرة على كل راو شيعي يروي في أهل البيت أو من أهل البيت وعن لأهل البيت عليهم السلام أو يروي ما يعري زعماء الانقلاب  الجاهلي على رسول الله وأهل بيته، أو يروي الأحاديث الصحيحة التي رووها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فأصدروا أمرا بإلغاء رواية كل محدث يروي عن أهل البيت حديثا لا ينسجم والتطلعات الأموية.

حتى أن ثبّت رجال الحديث والجرح والتعديل في كتبهم مصطلحات ارسوا قواعدها في علم الحديث وجرت مجرى العلوم المنهجية التي يجب أن يتسالم عليها كل من يريد التعلم على معرفة علمي الرجال والحديث، ومن تلك المصطلحات أن فلانا (رافضي)، أو (رافضي خبيث)،أو أن (فلانا ثقة لكنه رافضي)، أو أن (فلانا صدوقا إلا انه يترفض)، أو (فلانا صدوق في نفسه خبيث في دينه)، وبالطبع فإن معنى الترفض هو محبة أهل البيت وموالاتهم ورفضهم أعدائهم ومن يريد النيل منهم الأمر الذي يرضي الله تعالى لأن موالاتهم فريضة واجبة لا تتحقق إلا  بالبراءة من عدوهم كما قال تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا  المودة في القربى) ([24])، كما ذلك يرضي الرسول الذي قال : (علي مني وأنا من علي ) ([25]).

وقد اخرج محب الدين الطبري في ذخائر العقبى الأحاديث التالية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

 (من احب عليا فقد احبني ومن احبني فقد احب الله ومن ابغض عليا فقد أبغضني ومن أبغضني فقد ابغض الله عز وجل ) أخرجه المخلص الذهبي . وأخرجه غيره من حديث عمار بن ياسر رضى الله عنه وزاد فيه : ومن تولاه فقد تولاني ومن تولاني فقد تولى الله .

وعن ابن عباس رضى الله عنه قال:

اشهد بالله لسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله ومن سب الله عز وجل أكبه الله على منخريه ) أخرجه أبو عبد الله الحلاني .

وخرج الإمام احمد " بن حنبل" من حديث أم سلمة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من سب عليا فقد سبنى ) .

وعن أبى ذر الغفاري رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ( من أطاعك فقد أطاعني ومن أطاعني أطاع الله ومن عصاك فقد عصاني ) أخرجه الإمام أبو بكر الإسماعيلي في معجمه ، وخرجه الخجندي وزاد فيه: (ومن عصاني فقد عصى الله ) .

وعنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( يا علي من فارقني فقد فارق الله ومن فارقك فقد فارقني ) خرجه احمد في المناقب .. ) ([26])

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال سمعت رسول الله (ص)  يقول: ( الناس من شجر شتى وأنا وعلي من شجرة واحدة) ([27])

وقال : (إن ابنتي فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها) ([28]) وقال: ( إنما فاطمة بضعة مني فمن أغضبها  فقد أغضبني  ) ([29]

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (فاطمة بضعة مني يقبضني ما اقبضها ويبسطني ما ابسطها وان الأنساب تنقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري) ([30])

وهذا التراث التاريخي الثر والبحر الزاخر من أحاديث السنة النبوية الشريفة التي ضمتها كتب أهل السنة من الأحاديث الصحيحة الصريحة قد تعرض إلى كارثتين كبيرتين لا يستوعبها إلا من احب نبيه فوفقه الله لبحث الأمور بروح سامية عن إتّباع الهوى لأن الهوى يصد عن الحق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أخوف ما أخاف على أمتي طول الأمل واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصد عن الحق) ([31]).

ومن يتنزه عن الهوى سيوفقه الله للبحث بروح تتشوق إلى لقاء النبي بوجه ابيض فيما يتعلق بسنته وبأهل بيته، وهذا ما يضطرنا إلى البحث في الحقائق الأساسية التالية:

الحقيقة الأولى: خضوع الأحاديث النبوية إلى النسف الأموي تحت عنوان الموضوعات

كما أسلفنا أن تلك الأحاديث النبوية قد تعرضت إلى تصفية خطيرة تحت عنوان قواعد البحث العلمي فصار من الواجب على من يريد دراسة علم الحديث أن يمشي على خطوها ويتبع أثرها، تلك التصفية التي جاءت تحت عنوان الموضوعات الذي اضطلع به أولئك العلماء ممن اختصوا وتخصصوا في إسقاط الأحاديث التي تحمل فيها أي ذكر لأهل البيت أو منقبة لهم جميعا وعلى وجه الخصوص أمير المؤمنين عليه السلام، كما بيّنا ونبين فيما بعد .

الحقيقة الثانية: حذف تلك الأحاديث النبوية من المصادر القديمة في الطبعات الحديثة

إذ أن الباحث القدير حينما يذهب إلى الطبعات المعاصرة للكتب الحديثية لأهل السنة والمطبوعة في بيروت أو السعودية وأمثالها، والحاوية على مناقب أمير المؤمنين وأهل البيت عليهم السلام يجدها وقد تعرضت إلى التحريف البيّن، لأن الحذف نوع واضح من التحريف الصريح لما يمثل كونه ابرز معاني التجرؤ على المصدر والمؤلف والموضوع والقارئ الذي يراد له التعمية على الحقائق المدونة في الموسوعات الحديثية تلك.

الحقيقة الثالثة: تأسيس قوانين السنة الأموية للحرب على أهل البيت وشيعتهم

وذلك عند البحث العلمي الموضوعي النزيه يتبين أن الأمويين قد سنوا قوانين إقصائية قاسية وصارمة ضد رسول الله في أهل بيته وشيعتهم ومن احبهم وكل من والاهم، والأحاديث النبوية في حقهم ، ومن تلك القوانين ما يلي :

اولا : قانون الإطاحة بأهل البيت عليهم السلام 

حيث كتب معاوية في سنه هذا القانون الذي جرى فيما بعد مجرى السنة أن: ( بعث معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليا ويبرؤن منه ويقعون فيه وفي أهل بيته )([32]) وهذا واضح في سن سنة اللعن لأهل البيت عليهم السلام والبراءة ممن لم يلعن أهل البيت الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

ثانيا: قانون الإطاحة بشيعة أهل البيت عليهم السلام

إذْ كتب معاوية في قانونه الذي سنه لهذه الأمة أن يطيح بكل من يوالي  أهل البيت عليهم السلام ويحبهم ويتشيع لهم فقال: (انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه)([33]).

ثالثا: قانون خلق أحاديث ضد أمير المؤمنين عليه السلام

وبهذا القانون أمر معاوية أن توضع مقابل الأحاديث النبوية التي يرويها الصحابة في علي بن أبي طالب عليه السلام ، أحاديث مماثلة تنسب الفضل ذاته إلى الصحابة الذين يريدهم معاوية قميصا ينتفع به فقال: (ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحب إلي وأقر لعيني وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته وأشد إليهم من مناقب عثمان وفضله)([34])

رابعا: قانون إسقاط شهادة شيعة أهل البيت عليهم السلام

وبنفس الدستور الذي أصدره معاوية لتسير عليه الأمة على مر الأجيال قد سنّ قانونا يقضي بوجوب أن يسقط القضاة والفقهاء وعامة الأمة شهادة كل من عرف بولاءه لأهل البيت رسول الله فقد(كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق : (أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة)([35]).

خامسا: قانون الإٌبادة التامة لكل من يتهم بالتشيع

وبنفس الدستور الأموي سنّ قانونا جرى مجرى السنة في هذه الأمة يقضي بشرعية الإبادة لشيعة أهل البيت عليهم السلام ومحبيهم فقال: (من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به وأهدموا داره)([36])

وبالجمع ما بين تلك الحقائق السالف ذكرها وقوانين السنة التي سنّها الأمويون في المسلمين والتي كانت منطلقة من منطلقات سياسية في بادئ الأمر ثم اتخذت بعد حين طابعا دينيا عملت عليه هيئات علماء المسلمين والفقهاء البلاطيين يتبين أن كتب الموضوعات إنما كانت قد وضعت وفق الإرادة الأموية كي تسن سنة بإسم رسول الله غير السنة التي سنها النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأمته، لتصبح سنة أموية باسم السنة النبوية وبمباركة من علماء المسلمين وفقهاء الدين وأئمة الفتوى السائرين بركب السلاطين، وإلى غيرها من المسميات لغرض إحكام التعمية على فكر عموم الأمة ولتنطلي عليهم مخططات السنة الأموية التي قالها مؤسسها: (ألا دفنا دفنا) . .

وبالتالي فان الشيعة الذين يُتهمون بالرفض لم يُتهموا إلا لأنهم يأتمرون  بأمر الرسول ويتبعون أهل بيته ويطيعون أوامره وأوامر الله  فيهم، ولأن هذا ما لا يروق للفكر الأموي والإرادة الأموية فيجب عندئذ على عموم الأمة أن تكون مطيعة لمنطلقات هذا الفكر الذي وضعه الأمويون فيهم لغرض الإطاحة بأهل البيت وشيعتهم وليتخذ طابع الدين والسنة والقداسة والشرعية والقربة إلى الله زورا وبهتانا.

 

بناءا على الحقائق السابقة فإن ما يجري في العراق اليوم فضلا عن الأمس يثبت حقيقة ما كان قد أراده الأمويون من تربية العامة من هذه الأمة على بغض أهل البيت وإقصاء شيعتهم سياسيا وتصفيتهم جسديا وذبحهم والتنكيل بهم وتشريدهم وملاحقتهم تحت كل حجر ومدر، وهذا ما لا يحتاج إلى دليل أكثر من الوقائع اليومية الواردة على صفحات الإعلام المحلي والإقليمي والعالمي ، حتى أن ما  معدله المائة ضحية من شيعة أهل البيت عليهم السلام يوميا يُقتل في العراق. 

وقد نشرت شبكة الإعلام العراقي  خلال في الشهر السادس من عام 2006 ميلادي خبر ما وصل للطب العدلي أن ستة الآف إنسان شيعي قد قتل في العراق    ليكون ( عدد الضحايا للشهر الواحد اكثر من ألف ثلاث مائة) و أبسط دليل واضح على نشاط السنة الأموية واستفحال الثقافة  الأموية المتسترة تحت ستار التسنن .

وخير مثال على ذلك تجد إمام علماءهم (هيئة علماء المسلمين في العراق) صرح مقابل مطالبة الشيعة بنظام حكومة الولايات المعروف بالفيدرالية وهو الأمر الذي عمل به الإسلام  خلال القرون السالفة، ولكون الشيعة هم المطالبين به فتجده لا يعترض على هذا المبدأ بالنسبة إلى الأكراد، لكنه يسجل اعتراضه ضد الشيعة المطالبين بنفس المنطق الذي يطالب ويعمل به الأكراد الآن، فكان خطابه شديدا للدرجة التي لم يصبر إلا في أن يعلن تشدقه بذات المنطق الأموي الذي عمل به الأمويون تاريخيا، فيقول إذا طالب الشيعة بالفيدرالية فإنما سنقطع عنهم الماء لأن ماء الفرات يمر في مناطقنا، وهذا نص ما نقلته وسائل الإعلام العراقي بالقول:

(فقد ورد في الرسالة التي وجهتها ( الهيئة ) للشعب العراقي ما يلي : ( فإذا كان النفط في الجنوب مثلاً فالماء في الوسط والشمال يمكن حبسه حتى يُبادَل برميلٌ من النفط ببرميلٍ من الماء، ويمكن أن ينفرِط عقده فيغرق الجنوب كله )، وهذا هو عين المنهج الأموي والمنطق الذي اتبعه معاوية مع المسلمين بقيادة أمير المؤمنين علي عليه السلام يوم قطع الماء بصفين على المسلمين، ونفس الشيء عمله ابنه يزيد على الإمام الحسين عليه السلام،  وهو  ذات المنطق الذي  اتبعه الأمويون على طول التاريخ ومن هذه الحقائق الكثير.

وبعد هذه الوقائع ألا يدل الأمر على حقيقة المنهج الأموي الذي ينتهجه أئمة علماء السنة في عراق اليوم ؟

وهل هذا يحتاج إلى دليل أدل من الوقائع الحالية لإثبات مخالب الثقافة الأموية المتعشعشة في فكر علماء أهل السنة إلا المنصفين منهم ؟

الأمر السادس

 إشارة أمير المؤمنين إلى نشاط الحركة السفيانية الأموية المعاصرة

ابن أبي الحديد وهو من أهل السنة ممن لم يكن أموي النزعة ولم يتلوث بالثقافة السفيانية وكان من تلامذة علامة أهل السنة الشيخ أبو جعفر الإسكافي الذي تعرض إلى هجوم كاسح وحرب شعواء من قبل الخوارج والنواصب بسبب ذكره الحقائق التي أرادها المنهج الأموي ونفذها النواصب والخوارج في التعمية على الأمة والتحريف في المفاهيم والحرب على أهل البيت عليهم السلام وقد كتب كتابا سماه (كتاب المعيار والموازنة في الإمامة ).

فذكر ابن أبي الحديد تأكيدات أمير المؤمنين عليه السلام  وإخباره عن ملامح الحركة الأموية المعاصرة التي نحن فيها فقال: (روى الحرث بن حصيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجذ قال علي (عليه السلام): نحن وآل أبي سفيان قوم تعادوا في الله والأمر يعود كما بدا ) ([37])

ثم أخبر عما سيؤول إليه أمر الأمة مع معاوية قائلا: (وروى صاحب كتاب الغارات عن الأعمش عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله يقول سيظهر على الناس رجل من أمتي عظيم السرة واسع البلعوم يأكل ولا يشبع يحمل وزر الثقلين يطلب الإمارة يوما فإذا أدركتموه فابقروا بطنه، قال وكان في يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قضيب قد وقع طرفه في بطن معاوية ) ([38])  

وفي قوله عليه السلام (والأمر يعود كما بدا) بيان واضح  على أن الثقافة الأموية التي ربى عليها معاوية وحزبه الدموي الأمة على بغض أهل البيت عليهم السلام سوف تستفحل عند السياسيين من أهل السنة على طول التاريخ ممن يتعشقون إلى المنهج الأموي من أجل التسلط والهيمنة على الحكم لا من أجل الدين والتدين، فيعملون على استخدام وتوظيف العامة من مسلمي هذه الأمة لمآربهم، مستغلين النزعة الأموية التي تربى عليها علماؤهم، فينشطون بإسم الدين في حربهم على أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، وهذه هي حقيقة ما نراه اليوم بأم أعيننا .

الأمر السابع

 مسؤولية أهل السنة التخلص من الفكر الأموي الذي يستوظفهم في حربه لنبي الإسلام

بعد الذي تبين من البحوث من أن أهل السنة متورطون بعلماء الدين الذين بين ظهرانيهم ليعملوا على امتداد التاريخ وفق المنطق  الأموي والثقافة الدموية بل وحسب منطلقات الانقلاب الأموي على الإسلام لتحريف سنة رسول الله، وصناعة فقهاء دين أمويي الفكر ورجال فتوى دمويي النزعة، ورجال سياسة يريدون أن يجعلوا (مال الله دولا وعباد الله خولا) ، ثم  ليجعلوا الناس من أهل السنة في مواجهة مع الله ورسوله وأهل بيته، وهذا أمر خطير يجب على إخوانا الشرفاء من أهل السنة الالتفات إليه .

الأمر الذي يوجب عليهم وجوبا دينيا الثورة على مخالب الفكر الأموي المتغلغل في الثقافة الإسلامية لدى أهل السنة ممن لا اعتقد أن الكثير منهم لا يريدون أن يكونوا أعداءً لله ولرسوله ولأهل بيته من خلال الانتقام من أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم ومحبيهم.  

كما يجب عليهم وجوبا حضاريا الثورة على الفكر الأموي لدمويته التي لا تتناسب وحضارية ما يدعونه من محبتهم الله ورسوله وكونهم من إتباع سنته المطهرة، تلك السنة المنزهة عن العنف والدموية والجاهلية والقتل والإبادة التي يتعرض لها كل إنسان من مسلم أو غير مسلم فضلا عمن يحب أهل بيت نبي الإسلام.

 

ومن كل ما تقدم يتبين ضرورة الثورة على الفكر الأموي وتطهير الفكر والثقافة الإسلامية من براثن ومخالب النزعة الأموية الكاشفة عن أموية الأهداف التي عُمّيت على الكثيرين من هذه الأمة قديما وحديثا.

أما كيف يمكن لهذه الأمة التخلص من هذه (الثقافة الأموية)، فهذا ما سنأتي عليه من خلال تسليطنا الضوء على (السر السابع) من أسرار السبيل الوحيد المؤدي إلى تمكين الأمة من سلوك  مناهج التحضر الذي يجعلها أرقى أمم العالم  ولتسعد بها البشرية ولا تشقى . 

  


[1] - سورة الحجرات / آية 13

[2]- سورة المائدة / آية 32

[3]  - شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج5 ص129

[4] - الكافي ج : 8 ص : 62

[5] - الكافي ج : 1 ص : 63

[6] - شرح‏نهج‏البلاغة ج : 4 ص : 57

[7] - شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 9   ص 220

[8] - شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 61   ص 16

[9] - شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 21   ص 82

[10] - صحيح البخاري - البخاري ج 4   ص 250

[11] - لسان الميزان - ابن حجر ج 1   ص 190

[12] - المصدر السابق .

[13]  - المصدر السابق .

- [14] المصدر السابق .

[15] - در المنثور - جلال الدين السيوطي ج 4   ص 191, وكذلك فتح القدير - للشوكاني ج 3   ص 240

[16] - بحار الأنوار ج : 33 ص :         216 

[17] - كنز العمال - المتقي الهندي ج 11   ص 254

[18] - بحار الأنوار ج : 33 ص : 215

[19] - بحار الأنوار ج : 33 ص : 218 

[20] -  المصدر السابق ج 33   ص 192 / وشرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج11، ص: 44

[21] -  المصدر السابق.

[22] - المصدر السابق.

[23] - المصدر السابق.

[24] - سورة الشورى / آية 23

[25] - العمدة بن البطريق  ص203 يرويه عن المناقب لإبن المغازلي ص227

[26] - ذخائر العقبى- احمد بن عبد الله الطبري  ص 65

[27] - نظم درر السمطين للزرندي الحنفي ص79

[28]- كنز العمال ج12 ص112

[29]- المصدر السابق.

- [30]  الجامع الصغير للسيوطي ج2 ص209

[31] - تاريخ دمشق لإبن عساكر ج 52  ص243

[32] - شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ج: 11، ص:46/ و بحار الأنوار  ج 33   ص 192

[33] - المصدر السابق.

[34] - المصدر السابق.

[35] -  بحار الأنوار ج 33   ص 192 / وشرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج11، ص: 44

[36] - المصدر السابق.

[37]  - شرح نهج البلاغة ج4 ص80

[38] -  بحار الأنوار ج : 33 ص : 216 

شبكة النبأ المعلوماتية-الاثنين 3/تموز /2006 -/جمادي الاخرى/1427