لكيلا يعود المسلمون جاهلية آبائهم الأولين (3)

  محمد سعيد المخزومي 

لو تصفحت تاريخ البشرية لن تجد إنسانا من نبي أو غير نبي كان وما زال هو ومنهجه اكمل سلما وأوفر رفقا من رسول الله  صَلَّى الله عَلَيةِ وَآلِهِ وَسَلَّم ، ويكفيك مدح لله له بما لم يمدح أحدا بمثل ما مدحه يوم قال له (وإنك لعلى خلق عظيم) ([1])  .

وما الرفق إلا من معالي الأخلاق وقممها التي مدحه الله بها. ولأنه صلى الله عليه وآله وسلم القمة في الأخلاق فلابد من العودة إليه والعمل منهجه لتتعلم الأمة والإنسانية معها معالم الرفق ومكارم الأخلاق منه.  

كما لن يمكن استيعاب منهجه كاملا إلا من خلال الوقوف على حقيقة ما قد ورثه منه أهل بيته من مناهج للحياة وفي مقدمتها مناهج الرفق في الفكر والمنطق، والقول والفعل، والعمل والتعامل .

وبعيدا عن البحث العقائدي والحقائق التاريخية في هذا المقام يجب على المسلمين جميعا الإذعان بأن لا أحد من المسلمين قديما أو حديثا اكثر تجسيدا لمنهج الرفق واحترام الإنسانية في الحياة من أئمة أهل بيت رسول الله عليهم السلام؟ وهذا أمر لن ينكر أحد من المطلعين المسلمين فضلا عن عامتهم إلا من ولع قلبه في بغض أهل البيت عليهم السلام.

وأنا أتحدى بقولي أن لا أحد من المهاجرين والأنصار أو من الصحابة والتابعين اقرب إلى رسول الله في تطبيق منهج الرفق والسلم من أهل بيته ؟

ولم يحدثنا التاريخ عن رجل مثل أمير المؤمنين عليه السلام  في رفقه بالإنسان والإنسانية ؟

ولا أدل من دليل على هذا من حقائق التاريخ التي عقلها المسيحيون قبل المسلمين فكتبوا عن عدالة أمير المؤمنين عليه السلام  وإنسانيته.

كما لم يحدثنا التاريخ أن أحدا من البشر يقابله جيش أعداءه كالإمام الحسين عليه السلام فيجدهم وقد ألهب العطش أحشاءهم، وكانت تمثل تلك فرصة تاريخية للنصر المؤزر في منطق العسكر قديما وحديثا لإمكانية استخدام الماء والعطش كسلاح يحسم المعركة مع العدو في ساعات الحاجة إليه، لكننا نجد الإمام الحسين يأمر أصحابه ليسقوهم الماء الذي يملكون وهو في أمس الحاجة إليه لكونهم في صحراء خالية وأمام مصير مجهول ومفاجئات كثيرة.

وبعد أن يروون أعدائهم  يأمرهم بأن يرشّفوا خيول الأعداء ترشيفا، ثم يذهب إلى ابعد من ذلك فيأتي إلى أحدهم ليسقيه الماء بيده الشريفة ثم يكون ذلك الرجل واحدا من العشرة الذين انتدبوا ليوطأ صدر الإمام يوم عاشوراء.

فأية رحمة وإنسانية ورفق اكثر واكمل وأتم مما هي عند أهل بيت الرحمة والرفق وأئمة الخير والإنسانية.

لاشك إن هؤلاء الرجال هو الذي يجب أن يأتم المسلمون بهم حقا، ويتدرب عليهم غير المسلمين وليتعلموا منهم علوم الحياة ودروس الرفق، وفنون السلم، ومناهج السلام ، ومعايير احترام الإنسان. وهذا هو مناط السر الخامس من أسرار النهوض الحضاري الذي يجب أن تعمل عليه الأمة

بعد أن كشفنا عن أن :

السر الأول: في قوّة المسلمين يكمن في وحدتهم:

والسرُّ الثاني: لوحدة المسلمين يكمن في عقلانيتهم .

ثم السرُّ الثالث: وهو عقلانية المسلمين الذي يكمن في نبذهم فكر التطرف والعنف .

بينما السرُّ الرابع:  في خصوص نبذ المسلمين فكر العنف وثقافة التطرف يكمن في العودة إلى ثقافة الرفق.

 فنقول بعد مناقشة تلك الأسرار السابقة أن :

السرُّ الخامس: في العودة إلى ثقافة السلم يكمن في العودة إلى نبي الحياة وأهل بيت السلام

وبالتالي فإن النتيجة الحتمية التي يجب الإذعان بها والتسليم لها وعدم المكابرة عليها هي إذا ما أراد المسلمون التخلص من ثقافة العنف التي علقت في مناهجهم ونشبت مخالبها في عقولهم، عليهم العودة إلى ثقافة السلم والتعلم على مناهج الرفق وتربية النفوس على احترام الإنسانية التي لا يتقنها حق الإتقان إلا رسول الله وأهل بيته، وما باقي الناس كلهم إلا تلامذة يتعلمون من هذا البيت علوم الحياة والمعارف التي بين يدي الإنسانية من أول الخليقة حتى انتهاءها.

وتلك حقيقة على الجميع قبولها وعدم  التكبر والمكابرة عليها لأنه سيكون تكبرا على الله الذي قال ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) ([2])  فطهرهم حتى قرن طاعتهم بطاعته يوم أعلن للبشرية أن (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ([3])  وبيّن حقيقة (أولي الأمر) الذين يجب ان يتولاهم المسلمون فقال:  (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) ([4])  وقد أجمع المفسرون أن الراكعين هم علي ابن أبي طالب وحده دون غيره وسماه بالجماعة تكريما له لأنه الأمة الكاملة حقا ولما سيكون من ذريته من أئمة للمسلمين وهداة للبشرية أجمعين .

ومن المغالطة القول أن (الولاية) هنا تعني المحبة المجردة عن الطاعة والامتثال، إذ لو كانت بمعنى المحبة المجردة عن الطاعة فلم يكن هناك من داع لهذا التخصيص الذي أخرج الله به الولاية من كل أحد إلا له ولرسوله وللمؤمنين الذين كانت سمتهم تلك الساعة أنهم ( يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون).

ذلك أنه تعالى قد نص قبلها على ولاية المؤمنين التي تعني المحبة دون الطاعة بقوله (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) ([5]) .

من هنا كانت آية إقران ولاية الرسول بالمؤمنين - الذي صفتهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهم راكعون-  بولاية الله دالة على أنها في خصوص الطاعة وتؤكد على وجوب الامتثال لهؤلاء اللائمة .

هذا إضافة إلى أن أهل البيت هم خلاصة الدين الذي باهَلَ بهم رسول الله نصارى نجران ممتثلا أمر الله في قوله له: (فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) ([6])  

 وبهذا النص يكون خلاصة جبهة رجال المسلمين الذين بارز بهم الرسول منحصرة فيمن جمعتهم كلمة (أنفسنا) وأن جميع أنفس أمة الرسول هي نفسه الشريفة ونفس أمير المؤمنين علي لا غير، أما أبناء معسكر الدين بأكمله فقد كانوا الحسن والحسين لا ثالث معهم، وأما نساء جبهة الله التي باهل بها الرسول هي فاطمة الزهراء وحدها دون غيرها.

ومن هذه النتيجة فقد كان الدين والقيم والمُثُل والعلم والعمل ومكارم الأخلاق ومناهج السلم ومبادئ الرفق وقوانين السلام كلها متمثلة بهذه الثلة دون غيرها من الصحابة والتابعين وعامة المسلمين.

وتأسيسا على هذه الحقيقة فيجب على المسلمين إلائتمام بهذه الثلة لمعرفة حقيقة ما نزل من عند الله والتعلم منها مناهج الحياة وعلى رأسها مناهج الرفق والسلم والخير والصلاح والعمل والبناء.

أما كيف يمكن للمسلمين العودة إلى مناهج السلم والرفق التي جاء بها الرسول وبين مناهجها العلمية والعملية أئمة المسلمين من أهل بيته كي يمكنهم العمل بموجب أسرار الحضارة وإتقان مفاتيح في الحياة ؟

فذلك هو مفاد:

السرُّ السادس

واللازم لعودة المسلمين إلى نبي الحياة وأهل بيته يكمن في طاعتهم لهم

إذ من الطبيعي حينما يسمع المسلمون بهذا سيقول قائلهم أننا نحب أهل بيت رسول الله ما خلا النواصب والخوارج الذين يكفرون بهم ويحاربون من احبهم ووالاهم.

وهذا كلام جميل يمكن أن يقال على الألسن والأفواه إلا أن الحقيقة تحاكم كل إدعاء إلى المنطق النبوي القائل (أن على كل حق حقيقة) ([7])   لتقوم تلك الحقيقة شاهدا على ذاك الشيء فيما إذا كان حقا أم لا ؟

فحينما تصدر أية دعوى من قول أو فعل أو غيره يجب أن يكون لها ما يثبت صدقها في الواقع الخارجي ليمثل الحقيقة الدالة على ذلك الحق من دعوى أو غيرها.

وإلا فإن أية دعوى تفتقر لذلك المصداق الخارجي أو يكون لها مصداق مغاير لتلك الدعوى ستخرج بها عن كونها حقا، وأن كل ما خرج عن كونه حقا فهو باطل محض .

وبهذا فإن دعوى المسلمين بأنهم محبوا أهل بيت نبيهم يحتاج إلى دليل أو حقيقة لتثبت كون هذه الدعوى حقا .

ذلك أن الحقيقة والمصداق الخارجي خلاف ذلك ودالة على النقيض منه، لأن دعوى محبة أهل البيت عليهم السلام تقتضي أن يتبع الحبيب محبوبه كما قال تَعالى لنبيه: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ([8])  فمن يحب الله ولا يتبع نبيه ويبغض خليفته العامل بأمره فليس من المحبة في شيء .

وكذلك الحقيقة القرآنية القائلة بوثاقة العلاقة بين المحبة والطاعة على ما حكاه عن خليفة نبي الله موسى بقوله (ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري)  ([9]) تؤكد العلاقة بين المحبة والطاعة لخليفة النبي المنصوص عليها، وأن تجاهله لن يلغي مقامه، وأن الشاهد هو الحاكم .

وكيفما كان الأمر فالمحبة تقتضي الاتباع  والاتباع يعني الطاعة ،  فإذا احب الإنسان أهل البيت عليهم السلام ولم يتبعهم ولم يطعهم فقد كذب في دعواه المحبة بموجب تلك الحقائق القرآنية التي لا جدال ولا مراء فيها.

وبناءا على ذلك فيجب على المسلمين جميعا أن يحبوا الله ورسوله وأهل بيته محبة يتبعونهم بها وينتهجون مناهجهم ويحبون محبهم  حتى يتمكنوا أن يتعلموا منهم مناهج السلم وترك العنف والتقرب من معالم السلام والألفة والمحبة للإنسان والإنسانية التي تتمثل وتتجسد في النبي وأهل بيته الذين تعلموا منه معالم الحياة بما لا يخفى على ذي لب سديد، وعقل رشيد. وما نراه اليوم من ذبح للإنسانية لمجرد المحبة لأهل البيت فذلك مما يخالف دعوى أن المسلمين يحبون أهل البيت وأنه يتوددون لهم .

أما ما الذي يمنع المسلمين عموما من محبة الرسول وأهل بيته محبة الطاعة والمتابعة رغم دعوى الجميع لتلك المحبة ؟

هذا ما سنأتي عليه خلال بحثنا للسر السابع من الأسرار الكفيلة بالمسلمين لكي يعودوا إلى حاضرة الإنسانية والحياة وليس الجاهلية والقتل والتدمير والفساد، وذلك في الحلقة القادمة بعون الله .


[1] - سورة القلم / آية 4

[2] - سورة الأحزاب/ آية 33

[3] - سورة النساء / آية 59

[4] - سورة المائدة / آية 55

[5] - سورة التوبة / آية 71

[6] - سورة آل عمران / آية 61

[7] - الكافي  ج1 ص96

[8] - سورة آل عمران/ آية 30

[9] - سورة طة /آية 90

شبكة النبأ المعلوماتية-الثلاثاء  27/حزيران /2006 -29  /جمادي الاول/1427