لكيلا يعود المسلمون جاهلية آبائهم الأولين (2)

محمد سعيد المخزومي

الأمة بجسمها الكبير وتمكينها الوفير تتهالك عليها الأمم من اجل استثمارها لما توفر لها من عوامل إستحمار فكري تعرضت له الأمة عبر التاريخ، ولو كانت على درجة عالية من الوعي لما صارت نهبا تتهاوى عليه الأمم حتى صارت خاوية على ما فيها من عوامل تمكين مادي سال عليها لعاب المشاريع المستبدة للحكومات وتداعت الأمم المتحدة لأجلها، وذلك لضعفها وتفرقها .

ومن أجل نهوض حضاري يتناسب وحجم ما فيها من إمكانات مادية وثروات فكرية وموارد قوة ذاتية لابد لها من عامل يجمع عناصر القوة المتبعثرة فكان العامل هو التآلف والاجتماع والوحدة ليكونوا أقوياء على ارض الواقع لا على سطح الشعار المعسول الخادع، من هنا كان :

السر الأول في قوّة المسلمين يكمن في وحدتهم.

تلك الوحدة التي تستوجب أن يكون لها ما يوجدها على أرض الواقع بالفعل، لابد من العمل على عنصر جوهري يبعث فيها روح الوحدة الحقيقية الصادقة لا السرابية التي تنطوي على مآرب حزبية أو طائفية أنانية تستهدف استحمار الإنسان وامتطائه .

فكان العنصر ذلك هو عقلانية المسلمين ورشدهم في فهم الحقائق والوقائع والمنطق والتاريخ، ليكنوا حضاريين يبنون ولا يهدمون، يبعثون الحياة في الإنسان ولا يبيدون، ويؤسسون لاستقرار المجتمع ولا يفسدون.

ومن هذه الحقيقة ينطلق القول بأن: 

السرُّ الثاني: لوحدة المسلمين يكمن في عقلانيتهم

فالسر الثاني من الأسرار التي يجب على المسلمين إدراكها هي أن وحدتهم لن تتحقق إلا بالتعقل في كل الأمور، وذلك يعني تحكيم الإنسان عقله في الأمور كلها من دون أن يضع لنفسه أو ميله وهواه هيمنة على مقاليد الأمور، كما يجب معرفة أن السبب في جهلهم وتجهيلهم هو انعدام حاكمية العقل في التصرف والتفكير، وعند اتخاذ قرار أو انتهاج منهج أو موالاة شخص أو طاعة إمام وزعيم، وكذلك عند تشخيص بين الأئمة والتفريق بين إمام الجور والضلال منها وبين إمام العدل والهدى، حتى يعرف لمن يطيع، وبمن يقتدي، وبسبيل من يهتدي .

 

وتأسيسا على هذا فيجب الإذعان إلى الحقيقة القائلة: أن عدم التعقل يعني انعدام البصيرة، وبانعدامها  يبدأ الإنسان والجماعة والمجتمع ينظرون إلى الأمور من بداياتها لا من نهايتها، فلا يبصرون إلا ما يرونه قريبا من ذواتهم ومتمحورا حول أنانياتهم .

ومن معالم انعدام العقلانية هو التفكير الحزبي الضيق، والمنظار الطائفي الحاقد، والتعصب القومي الخانق، ومحور ذلك كله حب الذات والتعصب لكل ما تتوق إليه النفس وتميل إليه الأنانية، فيتعصبون للشر لأنهم منهم على حساب الخير لأنه من غيرهم، وهذا هو عين الجهل وذات الجاهلية والتردي.

وقد سُئل الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام عن العصبية فقال: (العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قوم خيرا من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم) ([1])

وبتلك المنطلقات الفكرية من التعصب المؤدي إلى الظلم فقد تمزقت وحدة الأمة وتحولت الأغلبية الساحقة إلى أقلية مستضعفة تتكالب عليها شذاذ الأحزاب ونبذة الكتاب، ومحرفوا الكلم عن مواضعه.

إذن فالسر الذي يكمن في تمكنهم من الشموخ الحضاري هو وحدتهم، والسر في توحيدهم يكمن في عقلانية زعمائهم وسياسييهم الذين سيزرعون ثقافة التعقل والحكمة في عموم الأمة إذا ما كانوا عقلاء حكماء لا متعصبين للأنانية الحزبية أو القومية أو المذهبية التي تتحول عندهم إلى طائفية جاهلية تذبح الإنسانية على الإيمان والهوية والاسم والرسم. وهنا يجب البحث عن سر عدم عقلانية زعماء المسلمين، الأمر الذي اخسرهم الوحدة وأماث فيهم الاتحاد، وذلك هو موضوع السر الثالث من تلك الأسرار التي يجب الوقوف عليها فأقول في:  

 

السرُّ الثالث: أن سر عقلانية المسلمين يكمن في نبذهم فكر التطرف والعنف

فالعلاقة بين فكر العنف وثقافة التطرف وبين العقل والتعقل هي علاقة السبب والمسبب، حيث أن العنف نتيجة حتمية من نتائج الجهل، بينما الرفق من ابرز نتائج حضور العقل ولوازمه، وقد  بيّن رسول الإنسانية لأمته وللبشرية جمعاء أن (ثمرة العقل الرفق)  ([2]) وهذا ما وضعته الخاصة من المسلمين وراء ظهورها فضلا عن عامتهم.

 

ثم أن العلاقة بين التعنف والتعقل هي عين العلاقة بين الفشل والنجاح، ذلك أن الفكر العنيف لا ينشر إلا بذور الشر الكامنة في العنف الذي يبثه العنيف في الحياة، كثقافةٍ وفهمٍ وتصرفٍ.  ثم أن ثقافة العنف لن تصنع إلا الممارسة العنيفة، وكلاهما يخلقان المواقف العنيفة المتطرفة الرعناء.

أضف إلى ذلك أن المواقف العنيفة ليست إلا مواقف الضعفاء الجبناء لا مواقف الأبطال الأقوياء وإن كان العنيف يرى في نفسه القوة حينما ينتهج سياسة البطش مع من لا يرتضيهم أو يخالفهم، وكم قد نهى رسول الله صَلَّى الله عَلَيةِ وَآلِهِ وَسَلَّمَِّ المسلمين كافة عن العنف وأرسى قواعد الرفق واللطف فيهم، وبيّن وجودها في الحيز الخارجي عمليا في نفسه وأهل بيته وخاصة صحابته، وبغّض إليهم التعامل به محذرا إياهم بقوله ( إن الله ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا رفق به ) ([3]) لأن الرفق قوة، والخرق والعنف ضعة في النفس وضعف في العقل وخوار في إرادة فعل الخير والصلاح الذي يستلزم الحكمة والرفق.

ومع بيان هذه المنطلقات الحضارية نجد أن العموم الأغلب من المسلمين آلوا على أنفسهم إلا أن يكونوا على خلاف منهج نبيهم وسنّته، فاستنّوا بسنّة العنف وانتهجوا مناهج الخرق وسلكوا مسالك التطرف.

 

كما أن انتهاج المسلمين لفكر العنف وثقافة التطرف أدى بهم لأن يكونوا الأبعد عن المشاريع الصائبة، والأقرب إلى كل المشاريع المدمرة للإنسانية، المنتهكة لحقوقها، فجعلهم متجاهلين أن العنف يفقد الإنسان الصواب ويخسره الحكمة والرشاد، واضعين تعاليم نبيّهم وراء ظهورهم ونسوا أن: (الرفق رأس الحكمة)([4]) بنص نبيهم في ذلك داعيا للرفيق على العنيف بقوله ( اللهم من ولي شيئا من أمور أمتي فرفق بهم فارفق به ومن شق عليهم فاشقق عليه) ([5]) فعملوا خلاف ذلك كله، وما دعائه على العنيف إلا من موارد الطرد من الرحمة.

فصموا وجهلوا أن من يخسر الحكمة يخسر الخير ويقترب من الشر، وقد عميت قلوبهم عن قوله تبارك وتعالى:(وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الأَْلْبابِ) ([6]).

وبعد هذا كله...

 فأية خسارة لم يجنها المسلمون في حياتهم رغم كثرتهم ؟

الأمر الذي يوجب القول بأن المسلمين إذا ما أرادوا بعمومهم وعلمائهم وسياسييهم أن يكونوا عقلانيين عليهم نبذ ثقافة العنف، والانتفاض على ما بين أيديهم من الميراث الفكري العنيف لأن: (العنف من الجهل والرفق من العقل ) ([7])  كما قالها نبيهم الذي يقولون بالاستنان بسنته.

ذلك لأن العنف لا يورث إلا البغضاء والفشل ويحارب الخير أينما ثقفه ويُخسر الحياة ذلك : (إن الله تعالى رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ) ([8])  على حد تعبير حفيد رسول الرفق، الإمام الصادق سلام الله عليهم أجمعين.

أما السبيل إلى نبذ العنف والمهرب من التطرف فهو مناط السر الرابع من أسرار التحضر في الحياة، الأمر الذي يلجئنا إلى القول في موضوع :

 

السرُّ الرابع: أن السر في نبذ المسلمين فكر العنف يكمن في العودة إلى ثقافة الرفق

وبعد بياننا أن تردي المسلمين الذي هم عليه الآن يكمن في ابتعادهم عن العقلانية التي دفعتهم إلى التشبث في انتهاجهم مناهج التطرف والعنف الذي كان وما زال يخسرهم الاستفادة من كل بُناة الحياة ودعاة الصلاح ورجال التغيير من المفكرين والمصلحين، فاندفعت مشاريعهم السياسية نحو الحزبية المنغلقة، والمذهبية نحو الطائفية المنكفئة، ْوالقومية نحو العصبية والاستبداد، والتعبد بالإقليميات الضيقة وكلها قد انتهجت العنف والتطرف في الحياة، وربّت أجيالا عليها وذبحت آخرين من أجلها.

وهنا لابد من القول بحتمية العودة إلى ثقافة الرفق والسلم والسلام إذا أرادت الأمة أن لا تعود إلى الجاهلية القديمة التي من ابرز معالمها القتل والنهب ومصادرة الحقوق والحريات وانتهاك القيم والمقدسات والتعدي على حيثيات الإنسان والإنسانية في الحياة.

ذلك لأن العنف والرفق ضدان لا يجتمعان، ونقيضان يتباغضان، وما اجتمع أحدهما في شخص أو حزب أو جماعة أو أمة إلا هجرها الآخر، وأن النفس الإنسانية وعاء لا يستوعب إلا واحدا من اثنين إذا حل أحدهما استوعب النفس ولم يُبقِ للآخر مجالا ينفذ فيه.

 

الأمر الذي يوجب العودة إلى ثقافة السلم والعمل على مناهج الرفق، ليصبح الإنسان الأقرب إلى الحضارة والتحضر، إذ كلما ابتعد عن ثقافة العنف اقترب من التحضر واستأنس بالإنسان، بينما اقترابه من ثقافة العنف يبعده عن التحضر ويقربه إلى الجاهلية ومعاداة الإنسانية وبغضها، وما مظاهر سلوك العنف الطائفي الذي نراه اليوم في العراق، وممارسات التعصب الحزبي، وسلوك الانكفاء القومي إلا من نتائج انتهاج ثقافة التطرف والعنف، المؤدي إلى الإقصاء والتعصب الأعمى الذي يكره الخير ويفرط بالأخيار، ويضيع فرص الحياة على الإنسان وحزبه وجماعته ومن ثم عموم المجتمع والأمة معه.

فلا بد من العودة إلى ثقافة الرفق والسلم والبناء.

أما ما هو السبيل إلى العودة إلى ثقافة الرفق والطريق إلى اتباع مناهج السلم التي تحترم الإنسان وتدفعه لأن يعمل على أوسع الأطر الإنسانية ؟

هذا ما سنبحثه في تسليط الضوء على السر الخامس من أسرار التحضر في الحلقة القادمة بعون الله.


-[1]  الكافي ج: 2 ص308

[2] - عيون الحكم والمواعظ- علي بن محمد الليثي الواسطي  ص 207

[3] -  مستدرك الوسائل ج 2 ص174

[4] - الرسالة السعدية- العلامة الحلي  ص 158

[5] - الرسالة السعدية- العلامة الحلي  ص 158

[6] -  سورة البقرة / أية 296

[7] - عيون الحكم والمواعظ- علي بن محمد الليثي الواسطي  ص 67

[8] -- مشكاة الأنوار- علي الطبرسي  ص 316

شبكة النبأ المعلوماتية-الاحد   25/حزيران /2006 -27  /جمادي الاول/1427