الطاغية صدام كان يتخذ قراراته عبر احلامه الليلية والهامه الخاص دون استشارة خبرائه ومخابراته

 

أن تنشر الأنظمة السياسية الاستبدادية دعاية خاطئة بهدف تضليل الرأي العام عن حقيقة الأوضاع المحلية وخصوصا أحوال الهيئات الحكومية المعنية بالدفاع والأمن الداخلي، فهذا شيء طبيعي، ولكن ماذا يحدث عندما يصدق النظام الحاكم هذه الدعاية الخاطئة ويقتنع بصحتها؟  يبرز تلك النقطة تقرير حديث عن الأسرار الخفية وطبيعة التخطيط السياسي داخل نظام الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين. وصدر التقرير عن قيادة القوات الأمريكية المشتركة United States Joint Forces Command (USJFCOM) ويعتمد على أقوال عشرات الشخصيات الهامة في النظام العراقي السابق بعد استجوابهم بمعرفة القوات الأمريكية، علاوة على آلاف من الوثائق الرسمية التي حصلت عليها  الجهات الحكومية الأمريكية بعد احتلال العراق.

يحاول التقرير تقديم شرح مفصل لأحداث الحرب وقرارات بغداد الأخيرة من منظور عراقي، أو بالأخص من منظور الحكومة العراقية السابقة. وقد نشر بعض كاتبي هذا التقرير مقالة بمجلة فورن آفايرز Foreign Affairs التي تصدر عن مجلس العلاقات الخارجيةCouncil on Foreign Relations كما ينقل ذلك تقرير واشنطن.

تشير معظم أقوال المسئولين العراقيين المسجونين حاليا إلى أن الرئيس العراقي السابق صدام حسين كان واثقا من أن الولايات المتحدة لن تجرؤ على غزو العراق.  بنيت نظرية صدام هذه على الاعتقاد بأن أي محاولة للغزو من الجانب الأمريكي ستتصدى لها فرنسا وروسيا نظرا لأن الهجوم الأمريكي سيتسبب في خسارة الملايين من الدولارات قيمة العقود التجارية التي حصلا عليها بالعراق قبل بداية الحرب. أي أنه في حالة حدوث هجوم أمريكي على العراق سترغم واشنطن على وقف إطلاق النار وفقا لرغبة حلفاء بغداد بالمجتمع الدولي. كما ظن صدام أن القوات العراقية تتمتع بالمصادر اللازمة للتصدي للهجمات العسكرية المعادية كما نشير في السطور القادمة.

ذكر التقرير أن صدام كان واثقا كل الثقة بقدرة القوات العراقية المسلحة ولهذا السبب لم يخطر على باله احتمال سقوط بغداد في أيدي جيوش التحالف. فقال طارق عزيز نائب الرئيس العراقي المخلوع: "صدام ظن أن الحرب لن تؤدي إلى هذه النهاية." وقال أحمد عبد الستار رئيس أركان الجيش العراقي: "لم يظن أي زعيم عراقي أن  قوات التحالف ستصل لبغداد." ولكن بعض القيادات العسكرية الأخرى، إضافة إلى وزير الدفاع سلطان هاشم أحمد، كانوا أكثر واقعية في تقييمهم الشخصي للموقف.  فقال مصدر مسئول في الحرس الجمهوري "كنا نعلم أن لم يكن لدينا شيء لنفعله لوقف القوات الأمريكية بعدما بدأت الزحف ". وشاركه في الرأي كل من رئيس الاستخبارات العسكرية زهير طالب عبد الستار النقيب الذي صرح في أقوله أن معظم العراقيين باستثناء صدام والقيادة المركزية كانت على علم بأن الحرب مع الولايات المتحدة حتما ستؤدي لهزيمة الجيش العراقي ووقوع البلاد تحت الإحتلال العسكري. ومع هذا لم يجرؤ أحدا على الاختلاف مع رؤية صدام علنا - أو بعبارة أخرى "أحلام صدام"- الذي بدا عليه الاقتناع بتفوق الجيش العراقي على نظيره الأمريكي، وحتى بتقارير وزير الأعلام العراقي ومؤسسة الداعية السياسية للنظام بما فيها من أكاذيب فاضحة  على لسان محمد سعيد الصحاف، عما وصفه بالانتصارات والانجازات العراقية أمام قوات التحالف. وهذا الوهم جعل صدام يأمر وزير خارجيته أن يقول لحكومتي فرنسا وروسيا إن بغداد لن تقبل انسحاب أمريكي إلا إذا كان انسحابا غير مشروط حيث أن "العراق تربح الحرب والولايات المتحدة غرقت في وحل الهزيمة!"

وذكر التقرير أن صدام قال لبعض القيادات إن العراق لا يملك أية أسلحة دمار شامل، ولكنه في الوقت نفسه لم يريد أن يزيل كل الظنون عن احتمال وجود هذه الأسلحة، لحجة أن تداعيات الاعتقاد بأن امتلاك العراق لهذه الأسلحة كان مصدر هيبته بالمنطقة. وقال على حسن عبد المجيد، وزير دفاع صدام السابق، إن الرئيس العراقي اعترف في اجتماع لمجلس قيادة الثورة بان العراق لا يملك أسلحة الدمار الشامل، ولكنه رفض اقتراحا بأن يزيل جميع الشكوك حول حقيقة برنامج الأسلحة المزعوم، نظرا لأن إعلان عدم ملكية العراق لأسلحة دمار شامل كانت سيشجع إسرائيل على شن هجوم على العراق.

جاء في معظم الأقوال المذكورة في تقرير قيادة القوات الأمريكية المشتركة أن صدام لم يكن لديه تسامح مع حاملي "الأخبار سيئة" مثل الهزائم وتهاوي القوة العسكرية. ولذلك أخفى كبار مستشاريه ووزراءه الحقائق المرة عنه تجنبا لغضبه وعقابه لهم.

وقال أحد الوزراء العراقيين السابقين: "الاختلاف مع أفكار صدام حسين لا يغفر.بل هو بمثابة انتحار!" ويحكي التقرير واقعة رياض إبراهيم وزير الصحة العراقي الذي قتل عام 1982 بعدما نصح صدام بالتنحي عن الرئاسة مؤقتا حتى نهاية الحرب مع إيران.

وفي حادثة مماثلة سجن أحد عناصر القيادات الحزبية البعثية لمدة سنة عندما تجرأ أن يكشف لصدام الحقيقة اللاذعة بأن الدبابات الأمريكية أكثر قوة من  دبابات الجيش العراقي. وواجه المسئولون العراقيون نفس المصير عند اختلافهم بالرأي مع نجل صدام حسين الأصغر "عدي"، وقال مسئول بالحرس الجمهوري "القائد الذي يواجه عدي حسين بالحقيقة تقطع رأسه."

وفي هذه البيئة التي لا تتسامح مع المتحدثين باسم الحق والواقعية، قرر معظم المسئولين العاملين بقيادة النظام الحاكم أن يفيدوا صدام بالأكاذيب والأوهام من خلال المشاريع الوهمية لتحديث الجيش العراقي المنهار. وكانت هذه الظاهرة أكثر بروزا في تعاملات الرئيس العراقي مع ما سماه التقرير "اللجنة الصناعية العسكرية" أو Military Industrial Commission، وهي عبارة عن هيئة أسسها صدام حسين لتحسين إمكانيات الجيش العراقي. ومن أجل الحصول على رضاء صدام زورت اللجنة العديد من الوثائق والخطط عن مشاريع حربية وبرامج أسلحة لم يكن لها وجود أو أساس.

وقال طارق عزيز لمحققين أمريكيين إن "العاملين باللجنة الصناعية العسكرية كاذبون، كذبوا على صدام. كانوا دائما يقولون أنهم يصنعون أسلحة أو يحصلون على أسلحة خاصة حتى يستولوا على حسنات صدام—مال وسيارات.. إلخ - ولكنهم كانوا كاذبون. إن كان عملهم جادا، وجاءوا بكل هذه الأسلحة السرية، فلما لم تعمل؟"

لعل أكثر أجزاء التقرير تشويقا وتسلية هو الحديث عن كيفية اتخاذ القرارات المهمة داخل النظام العراقي السابق. وذكر أحد المقربين له أن صدام كان يسهر بالليل للتفكير في أمور الدولة، وكان الإلهام الذي يصل إليه في منامه أساس السياسات التي توضع في الصباح التالي! ويقول مؤلفو التقرير إن صدام كان معاديا لمبدأ التشاور والاستشارة، حيث أنه توصل إلى معظم القرارات المصيرية بدون نقاش أو جدال. وعلى سبيل المثال، قرر صدام أن يشن هجومه العسكري على إيران وهو في أجازة بمنتزه معزول، أي بدون حوار مع مساعديه.

واتخذ قرار غزو الكويت بدون أن يستشير أحدا غير زوج أبنته. وفي مقولة غريبة منقولة عن أحد المستشارين المقربين له قال الرئيس العراقي السابق "الولايات المتحدة دولة معقدة، فهمها يتطلب من السياسي يقظة تفوق قدرات المؤسسات الاستخباراتية. لذلك منعت هيئة الاستخبارات من محاولة فهم أمريكا من خلال الصحافة والتحليلات السياسية. قلت لهم هذا ليست تخصصكم، لأن عندما لا تستطيع مثل هذه المؤسسات أن تجد الحقائق الواضحة دائما ما تلجأ إلى الجرائد، وتلك المعلومات أعرفها بالفعل. فقلت لا أريد المنظمات الإستخبارتية أن تزودني بالتحليلات، فهذا تخصصي... واتفقنا أن نستمر على هذا المنوال".

ويشير تقرير قيادة القوات الأمريكية المشتركة إلى أن  التخطيط المضلل كانت له تأثيرات كبيرة على المؤسسة العسكرية العراقية. وكانت أهداف خطة تطوير الإمكانيات العسكرية معنية بتأمين الوضع الداخلي وليس بالضرورة للتصدي للأخطار الخارجية. وبالتالي جاءت العديد من القرارات والتعيينات العسكرية، ومعظماها كانت تعيينات سياسية، لا تستند إلى المعاير المناسبة، على حساب أولوية تقوية المهارات والإمكانيات البشرية بالجيش العراقي.

 وعبرت هذه المشكلة عن نفسها في تعيين صدام لأقاربه وأصدقائه المقربين الموثوق فيهم لمراكز هامة وحساسة بالقوات العراقية. وعين صدام حسين ابنه عدي لرئاسة الحرس الجمهوري رغم أن خبرته العسكرية محدودة للغاية. وعلق وزير الدفاع عن ذلك بقوله "عملي تحت إمرة عدي حسين كان خطيئة، لم يفهم عدي غير الأمور العسكرية البسيطة كأي مدني. كان علينا أن نحضر المعلومات والتوصيات له وكان له أن يقبلها أو لا." كذلك عمد صدام إلى تعيين كوادر ذات شخصيات وإمكانيات ضعيفة في المراكز القيادية خوفا من المؤامرات والانقلابات العسكرية.

وذكر أحد المسئولين الذيتن كانوا قد تعرضوا للسجن على يد النظام البعثي السابق، أن صدام عين برزان عبد الغفور سليمان لقيادة الحرس الجمهوري الخاص لأنه محدود الإمكانيات، ولا يمثل خطرا على النظام الحاكم. ومع ذلك يشير التقرير إلى أن برزان قضي معظم الوقت مختبئا خلال الحرب.

أرغم الخوف صدام حسين نفسه على انشاء المنظمات شبه العسكرية paramilitary مثل "فدائيي صدام" و"جيش القدس" الذي انهار عند اقتراب أول دبابة أمريكية.

ويوضح التقرير أن هذه المنظمات استنفذت العديد من الموارد القيمة التي كان من المفروض أن تخصص للهيئات العسكرية الرسمية. وقال وزير دفاع صدام "جيش القدس كان صداعا، فلم يكن لديه معدات لخوض حرب جادة، وإنشاؤه كانت فكرة سيئة. وزارة الدفاع كانت ملتزمة بتزويده بمعدات مأخوذة من الجيش الحقيقي. ولكن الجيش لم يكن لديه سلطة عليه، فتعليمات جيش القدس كانت تصدر من مكتب الرئيس فقط، لا من خلال القنوات العسكرية المعتادة."

ومن الجدير بالذكر أن صدام حسين لم يفقد الأمل في البقاء في الحكم حتى أخر لحظات النظام قبل سقوط بغداد في قبضة قوات التحالف. ويذكر المقربون من صدام من خلال تقرير القوات الأمريكية أن  صدام كان على اقتناع بأن القوات الأمريكية لن تجرؤ على دخول بغداد. ولكن في أخر أيامه أتضح له أن الجيش العراقي لن يستطيع أن يحمي بغداد من الاحتلال الأمريكي المترقب. ولذلك قررالاجتماع بالقادة الإقليميين لحزب البعث لوضع خطة نهائية للتصدي للهجوم الأمريكي على العاصمة العراقية،  وقبل نهاية هذا الاجتماع دخلت أول فرقة مدرعة أمريكية حديقة قصره.

شبكة النبأ المعلوماتية-الاحد   18/حزيران /2006 -20  /جمادي الاول/1427