معادلات مترهلة في زمن عراقي صعب

المحامي طالب الوحيلي

 اتصفت السلطة الدكتاتورية الاستبدادية في العراق ابان الحقب المتعاقبة منذ نشوء الدولة العراقية وحتى سقوط النظام البائد بصفات كادت ان تكون متشابهة من حيث تعاطيها مع الثروات الوطنية وتعاملها التعسفي مع الأغلبية بكافة مسمياتها.

 فقد تحكمت بتلك الثروات تحكما مفرطا، لكي تخلق مجتمعين غير متجانسين، مجتمع الثراء الفاحش الذي نما بسبب الاختلاف الكبير في توزيع الدخل القومي الذي نجم عن احتكار الوظائف الادارية الهامة في الدولة ومنحها على اساس الولاء المطلق لنظام الحكم والتزكية الطائفية والقبلية دون الالتفات الى المؤهلات العلمية والابداعية، الا بالقدر الذي يخدم ذلك النظام على صعد تسيير شؤون الدولة امنيا وعسكريا، حيث كان يفتقر الى تلك المؤهلات في محيط القرى والارياف والمدن التي كانت تنتمي له او هو ينتمي لها.

 فلا غرابة في بروز الكثير من العلماء والخبراء الذين لم يجدوا ادنى اعتبار لهم مقابل اشباه الاميين ممن اشتهروا في المواقع القيادية والذين هم موضع تندر الجميع منذ عقود وسبب مباشر في تفشي ظواهر التخلف على جميع الصعد حتى العسكرية، والتي اذعن فيها الى الكثافة السكانية التي فرضت عليه التخلي عن بعض المواقع القيادية الوسطية لمن هم من غير قومه وجنسه والذين كانوا دائما وقودا لنيرانه وعلاقة لأخطائه القاتلة ومصدرا لاستخفافه وقلقه في الوقت ذاته برغم الدافع الوطني الصرف الذي كان يدفعهم لخدمة الوطن والالتزام بقوانينه كمظهر حضاري او خشية من العقاب الصارم الذي يحيطه.

وكلما طال امد حكمه، كلما ترسخت هذه القاعدة بعد ان نمت لديه طائفة قيادية ولدت من رحم هذا النظام ورضعت من عرق ودماء الملايين الذين ما نالهم خلال سني هذا الحكم سوى الفقر المدقع والخوف من الملاحقات الامنية والحزبية وفرض الخدمة الالزامية التي طالت مددها حتى استغرقت زهرات شبابنا ودفنت الكثير منا في المقابر وفي تخوم الارض التي شهدت هزائمه الكثيرة.

 ولا نكاد ننسى الذل الذي كان يلاحقنا من كوننا خريجي كليات وقد انبرى علينا ضابط وهو يلوك كلماته التي تعمد التلفظ بها على وفق لهجة الحاكم وعشيرته ومن تحالف معه، ومع كل ذلك احترم الشعب قوانين الاذعان ( كناية عن عقود الاذعان التي يعرفها اهل القانون) ولم يجري خرقا لها بالرغم من امكان ذلك الا في حدود الجريمة العادية والتي سببت انتشارها الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي فرضتها تلك السياسة الاستبدادية والتي تدين النظام البائد قبل ان تدين المحترف لو اتيح لنا معرفة اسباب الجنوح ودوافعها وكيفية معالجتها، لانها ترتبط اولا بالعامل الاقتصادي الذي عمل ذلك النظام على نخره مقابل الاستحواذ على كافة الثروات ومصادرها وتوظيفها لخدمته في ادامة حكمه واستثراء طفيلييه..

اليوم تتسع  الهوة بين الفريقين، فريق الحاكم الذي فقد عرشه وانزوى في سجنه الرسمي بعد ان كان سجين اوهامه وتألهه ومن وجد نعيمه وسطوته وانسانيته في ذلك الزي (الزيتوني) الذي صار شعاره وطيلسانه الذي يخشى ان ينتزع منه حتى في مناماته القلقة، ليتحول فيما بعد الى صنف الضواري التي قد يكون لها قانون غاب تحترمه، غير ان هؤلاء لا قانون لديهم سوى الانتقام من الفريق الثاني الذي عاش ذل العبودية والقهر طيلة تلك العهود لتغمض عيناه على حلم جميل وامل كبير يديم عراقيتنا التي تجمع الجميع ويطلق السراح لعقائدنا التي حبسها الطغاة والتي ينبغي ان تكون متوحدة مع انسانيتنا واصالتنا وترابطنا الاجتماعي الذي ترك الكثير على ملامحنا بالرغم من الحرب اللاثقافية التي كانت العمود الفقري لايديولوجيا الاستبداد التي وجدت في بعض النفوس موطئا لها لتبدد ذلك الحلم ولتثير مكامن الخوف الطبقي او الطائفي او القومي.

وبدلا من تجريم شيطان الماضي، راح البعض ينفخ فيه نسغ التمرد والتلذذ في قتل النساء والاطفال والرجال دون روية او ذرة حياء او ضمير، بعد ان قرع منظروا الارهاب طبول حربهم التي يستحي منها كل عتاة التاريخ لانها سارت وسيرت العراق نحو هاوية الحرب الاهلية التي دعا اليها (الزرقاوي) برسائله وقد تجاهلنا حقيقته،ليظهر فيما بعد وعلى رؤوس الاشهاد معلنا نيته في اقامة الامارة الاسلامية في العراق،  وهذا مادحض احتجاج البعض على انه وهم برغم ما كان يدعمه من اعلام عربي ويروج لجرائمه،مكيلا له افضل الالقاب، بالرغم من اعلان محاكم الاردن الحكم عليه بالاعدام لاكثر من مرة، وهو ما يؤكد خروجه على كل القوانين بما فيها قانون بلده الذي لم يطعن احد ( بشرعيتها) القانونية او الدستورية.

وقد جاءت رغباته متماشية مع ما يحدث،وما يتبناه من نصبوا انفسهم ممثلين لفصيل من فصائل شعبنا،حين استثار النزعة الطائفية وتبنى طروحات التكفيريين، والعراقيون على يقين بان وقع هذه النزعة تكاد تطال الجميع لما يتصف به ابناء المجتمع الاسلامي في العراق من تقارب مذهبي اتخذ اشكاله من تقبل الآخر على مستوى العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، ولا غرابة في توائم العوائل في المناسبات العامة والخاصة واذا ما احتدم نزاع حول رأي تحول فيما بعد الى المزاح العفوي وافتراق الجميع يدعو البعض الى الآخر بالهداية والفلاح.

فماذا جرى بعد ان خلع النظام المهزوم بدلته الزيتونية؟! اما كان اجدى لو اختلط في الزخم الاجتماعي لكي يضيع ما تراكم من تهم واتهامات في طيات ماضية وقد لوحظ كيف غلبت طيبة الناس على احقادهم وتوشحوا بوشاح الدين الحنيف منقادين الى دعوات التسامح والتوحد التي لم يفتأ يطلقها مراجع الدين ويدعو لها كل ذي جرح مغروس في صميم وجدانه على ان لا تتكرر تلك المعادلات التي افصحت بان لا خاسر في هذا الصراع الا الشعب العراقي الذي لا يستحق ان يوضع تحت وطأة القتل كل حين.. { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ }.

أليس العدل ان نتوحد على لعن طاغية دمر العراق واورثه امم اخرى بدل من ان يسمو على كل الامم بحضاراته وابداعه في الحضارة الانسانية ؟ ومن المسؤول عن ذلك.. هل القائد بسيّاطيه وسيافيه؟ أم الرعية التي كانت النطع وبقيت دون ذلك لنفس السياطين ؟ وهل بفعلهم هذا (أهتزت شواربهم) كما كان الآخرون من الحكام؟ وقد توسم قياديوا العراق الجديد ان تتصافى القلوب وتصفو النوايا،لكن يظهر ان من شب على شيء شاب عليه.

وعودة على بدء والى قوانين صدام التي ما زالت على حالها دون تحريف او حذف سوى السعي من اجل الاقلال من قسوتها لولا ما سوغه البعض ممن قارف الجرائم التي في ذلك العهد ارتكاب ابسطها سببا كافيا لاعدام الآلاف ويكفينا الخوض في ذلك كيف تم منع صلاة الجمعة في مدينة الصدر على اثر اغتيال السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قدس) حيث تجحفلت القيادة العامة للقوات المسلحة ومجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية واتخذت من مقر الفرع في مدخل المدينة مقرا لها.. وكل ذلك لمنع قيام صلاة الجمعة في حي فقير وفي شوارع مهملة إلا من صدق اعتقاد ونقاء سريرة، فماذا يجري في مدننا وقد اعياها تسلط بعض العصابات لكي تفرض هيمنتها وقوانينها المنافية للشرع والعرف والقانون بعد ان استثمرت العجز الحقيقي في المؤسسة الامنية وتحركها المتهالك تحت غوائل الطريق. وقد انحدرت جثث المقتولين غيلة من الابرياء مع امواج نهر دجلة وانتشلت في الصويرة.. اوارتهنت وهجرت عوائل بكاملها او فجرت مشاهد مقدسة         وحسينيات او مراقد لاولياء صالحين، فمن سوف يطبق القانون العراقي الذي عالج كل جريمة نفذت وراح يسردها بكل برود بعض من ظهر على شاشات التلفزيون لتكون مدار حديث النساء والاطفال، وكيف لك ان تغمض عينيك على صورة عذراء خطفت من قبل المجرمين لكي يتوالوا على اغتصابها واحدا تلو الآخر ومن ثم يقتصون منها بنحرها ورميها في النهر !!!.

امر جلل ان يمعن الارهابيون في استهداف رجال القضاء ومؤسساته بمافي ذلك مجمعات المحاكم ليطور الامر الى اغتيال نجل رئيس مجلس القضاء الاعلى،الذي يكفي انه من تسلم خطاب اعادة السيادة الوطنية للعراق من الحاكم المدني الامريكي، لكن مقابل ذلك كله يذهل القضاء العراقي امام الافعال الجرمية السائدة بالرغم من توفر الادلة والقرائن الكافية لادانة المتهمين،وحتى لوصدرت احكام شديدة تجد من يخفضها تمييزيا او من يعرقل تنفيذ احكامها.

فهل نحن على ابواب عهد قانوني صرف يبتدي بتسنم الحكومة الدائمة لمهامها الفعلية، وتطبق ما الزمت نفسها به وهو معالجة ومكافحة الارهاب وتطبيق القانون المعد لاجتثاثه؟

ذلك سؤال ينتظرالاجابة الفعلية عليه كل عراقي شريف وكل خير في المعمورة،وهو مصداق نجاح الحكومة العراقية الدائمة..

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية-الثلاثاء 23/ايار/2006 -24/ربيع الثاني/1427