يدفن الجثث مجهولة الهوية ويملأ خمس مقابر خلال 15 سنة

تنقل بين خمس مقابر خلال 15 عاما ليدفن فيها الجثث مجهولة الهوية طالبا الأجر والثواب من الله، دون أن ينشد مساعدة أحد سوى أصدقائه وأقربائه وفاعلي الثواب الذين يريدون أن يكونوا مجهولي الهوية مثل الذين يساهمون في دفنهم، يقوم بعمل يحتاج لمؤسسات ضخمة لكي تؤديه في بلد كثر فيه الموت وفاحت رائحته في كل أرجائه ولكنه يريد أن يستمر فيه حتى أخر يوم في حياته.

انه الشيخ جمال السوداني من أهالي مدينة الصدر في بغداد وهو شيخ معمم ومحسوب على التيار الصدري في المدينة.

ويقول السوداني إنه يزور 15 مستشفى في بغداد والطب العدلي ودار رعاية المسنين ومستشفى الأمراض النفسية كل اسبوع لكي يجمع الجثث التي لا يأتي أقرباؤها لدفنها والجثث مجهولة الهوية ليقوم بتجهيزها وتكفينها ثم أخذها إلى مدينة النجف حيث يقوم بدفنها هناك.

السوداني تحدث عن هذه التجربة لوكالة أنباء (أصوات العراق) قائلا "اسبوعيا أقوم أنا ومجموعة من أصدقائي وأقربائي، بالاتفاق مع وزارة الصحة العراقية ومنذ 15 عاما، بحمل الجثث مجهولة الهوية إلى مدينة النجف لدفنها والتي قتل أصحابها في الانفجارات أو وجدت جثثهم في الشوارع والساحات وأماكن جمع القمامة والمجاري وحتى الأجزاء المقطوعة من الجثث كالأطراف والرؤوس."

ويتابع "كما نقوم بمساعدة العوائل المتعففة والتي لا تستطيع أن تجهز موتاها بأخذهم ودفنهم على نفقتنا."

وعن السبب الذي يدفعه لعمل ذلك يقول الشيخ السوداني "ما أقوم به تقرب إلى الله تعالى بدافع شرعي حفاظا على البيئة وعلى المستشفيات التي يفترض أن تخصص للمرضى وليس للموتى الذين كثر عددهم و غصت بهم المستشفيات، وأعمل ذلك بعيدا عن الطائفية أو القومية أو العنصرية."

واستطرد قائلا "لاننا ندفن الناس دون النظر إلى دياناتهم أو ألوانهم أو قومياتهم، بل وقمنا بدفن أناس قدموا من خارج العراق وماتوا هنا ولم يستطع أهلهم أخذهم لدفنهم خارج العراق، وربما نحن ندفن أجزاء لأناس فجروا أنفسهم في أبرياء وبقيت أرجلهم أو أيديهم ولكن نحن لا نميزها عن الآخرين وندفنها معهم."

وعن أعداد الجثث التي يقوم بدفنها يقول السوداني "نحن نجمع الجثث أسبوعيا، ومعدل الدفن هو 60 إلى 75 جثة أسبوعيا فقط من محافظة بغداد، ولكننا في زمن النظام السابق كنا ندفن 30 إلى 40 جثة شهريا ولك أن تقارن الفارق في الجهد المضني الذي نبذله أسبوعيا والأرواح البريئة التي تزهق في بغداد."

وحول تكلفة النقل والتكفين والدفن يقول السوداني "تصل كلفة دفن الشخص الواحد الى حوالي 40 ألف دينار عراقي (25 دولارا امريكيا) ذلك أن أجرة الحفر و البناء لقبر بسيط جدا حوالي 15000 الف دينار أما الكفن فيكلف 7500 دينار ونحتاج إلى نايلون لكي نلف به الجسد حتى يبقى الكفن طاهرا بسبب الدم و القيح الذي يخرج من الأجساد ويكلف هذا النايلون 3000 دينار."

وزاد "ومبلغ للغسل مع أن الغسل قليل جدا لان كثيرا من الجثث متحللة ومتعفنة ولا تتحمل الغسل، مع مصاريف أخرى كالنقل والمبيت في النجف."

وعن السبب في اختيار مدينة النجف للدفن مع أن الموتى من بغداد، يجيب السوداني "حقيقة الدفن مباح في أي مكان، ومع أن الطريق إلى النجف مليء بالمخاطر وخاصة عند المرور باللطيفية (جنوبي بغداد) حيث يحتمل أن نفقد حياتنا لقاء هذا العمل الإنساني، ولكن شرعا يستحب الدفن بقرب رجل صالح وهذا ما فعلناه بدفن الناس قرب ضريح الإمام علي كما أن الأرض طينية يسهل حفرها لاننا نحتاج لاعداد كبيرة من القبور أسبوعيا وليس لأننا شيعة وندفن في النجف."

وعن أعداد الذين قام بدفنهم يقول السوداني "لا أستطيع أن أعطي رقما محددا ولكن استطيع أن أقول أننا ملأنا خمس مقابر خلال 15 سنة، اثنتان خلال ال 12 سنة الأولى وثلاث خلال السنوات الثلاث الماضية ومساحة كل واحدة منها 2000 متر مربع في مدينة النجف."

وقال اننا "ننوي أن نتوسع للعمل في كربلاء لحفر القبور هناك لاننا في بعض الأحيان نحتاج إلى حفر 100 قبر في اليوم وهذا أصبح متعبا جدا للذين يعملون معنا في النجف، ذلك أننا نعمل وفق خرائط ونظام ترقيم معين ونقوم بتصوير الجثث حتى يتعرف الناس على جثث أقربائهم المدفونين ونضع الصور في المستشفيات."

وعن الطريقة التي يتعرف بها الناس على الجثث المدفونة، يقول السوداني "قد يتعرف الأقرباء على صورة قريبهم من خلال ملابسه أو خاتم في يده أو وشم معين أو أثر في جسمه فنقوم بإرشادهم على رقم القبر ومكانه، ويأتينا الناس من كل مكان في العراق بحثا عن أقاربهم المفقودين لان الانفجارات لا ترحم أحدا من زائري العاصمة أو من ساكنيها."

ويتابع السوداني "بعض الناس لا تنقل رفات اقربائهم وتبقيها حيث دفنت وتزورها متى تشاء ولكن هناك من يصر على نقل رفات أقربائهم إلى أماكن قريبة من سكناهم، ولا يتم نبش القبر إلا بموافقة مختومة مني حتى لا نقع في إشكال شرعي بأن يكون هناك تلاعب بالأجساد."

وعن أصعب المواقف التي واجهته في عمله، قال السوداني "من أصعب المواقف كان موقف أب وأم قتل أبناؤهم السبعة (ست بنات و صبي واحد) بعد أن سقط سقف البيت المتهالك عليهم وبقي فقط الوالدان اللذان كانا يشتريان لأبنائهم ملابس العيد في رمضان الماضي.

وقال الشيخ السوداني إن "الوالد لم يستطع تجهيز جثث أبنائه بسبب فقره فتكفلت بذلك وقدم معي إلى النجف، وطلب منى الوالد أن أدفن الولد في المنتصف بين أخواته البنات حتى يحميهن في غربتهن وبعد فترة علمت أن الوالد أصيب بانفصام بالشخصية نتيجة موت أبنائه والأم طريحة الفراش ."

ويتابع "وحتى أنا لم اسلم بسبب المواقف الكثيرة التي أراها وتؤثر في حيث أصبت بالسكري وارتفاع ضغط الدم و أمراض أخرى، ولكنني لن أترك هذا العمل حتى آخر يوم في حياتي."

الشيخ جمال السوداني ومن معه مثل حي وبسيط للإنسانية التي يعتقد البعض أنها فقدت في العراق في زحمة التفجيرات و القتل والانانية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 14/ايار/2006 -15/ربيع الثاني/1427