كورنيش البصرة .. رئة المدينة المدينة الساحرة في الطريق الى الموت..

 كورنيش البصرة.. رئة المدينة ومتنفسها وغازل ذكرياتها الملونة الأثيرة ..عليه تتكسر موجات الحزن وعواصف الهموم وعناء الحياة.. وآتون الحروب المتتالية ؛وفيه تختزن الكثير من ذكريات أهل البصرة.. حتى بات وكأنه (راوي) حكاية المدينة.. وكاتم أسرارها.

 ورغم تحذيرات وسطوة البعض ممن يحاولون إرجاع عجلة الحياة للوراء؛ فإن البصريين لا زالوا على حبهم العتيق لشاطئهم وكورنيشهم، فتراهم بعد أن تميل شمس النهار للمغيب وتخف قسوة حرارتها قليلا ..يتسابقون لحجز طاولة بين المقاهي والكازينوهات المنتشرة على جانبي الكورنيش. ويمتد (كورنيش البصرة) نحو كيلومترين جنوب المدينة في المنطقة التي تلي إلتقاء نهري دجلة والفرات، وقد أنشيء في الأربعينيات من القرن الماضي.. وكان أكثر إمتدادا وأوفر خضرة وظلالا وأعبق وردا وبهجة ؛ كما يقول كبار السن من سكان المدينة.

وإقتطعت مساحة كبيرة من إمتدادات الكورنيش لبناء القصور الرئاسية في عهد الرئيس السابق صدام حسين، وهي القصور التي يحتلها حاليا مجمع القنصليتين الأمريكية والبريطانية، وبعض القوات المتعددة الجنسيات ودوائرها.

ويقول شيخ مسن، طلب عدم ذكر اسمه،  لوكالة أنباء (أصوات العراق) إن البصريين " تعودوا على أن يهرعوا إلى الكورنيش هربا من قيظ الصيف وقسوته، كما يقصده العشاق والمتسكعون في كل الفصول.. بسبب أو دون سبب."

ويحكي الشيخ "قديما، حين كانت الدنيا دنيا.. والبصرة بصرة، كانت تختلط في (شارع الكورنيش) السحنات والوجوه والجنسيات.. دون شعور بغربة أو أن هذا عراقي وذاك أجنبي، حيث كان يختلط فيه البحارة.. أسودهم وأصفرهم وأبيضهم وأحمرهم ؛وتتعانق في مياه (شط العرب) الزوراق والجنائب والبواخر من كل بلدان العالم.. وبكل ألوان أعلامها وصواريها، دون أدنى تمييز أو تفريق."ويزيد " بل كانوا يعقدون على شاطئه (حفلات السمر) التي يعرض فيها كل منهم أغاني وفنون وفلكلور بلاده،  بعد أن تقام مسابقات بحرية بين الجميع.. يمخرون فيها عباب أمواج (شط العرب) حتى ميناء المعقل." ويستذكر الشيخ المسن (أيام الكسلة)، أي عيد الربيع، حيث كان البصريون جميعا يخرجون من منازلهم.. ويهرعون إلى راوي حكاية مدينتهم؛ وكاتم أسرار طفولتهم وشبابهم (شط العرب)؛ ليجددوا له عهد الولاء والمحبة الأبدية. ويضيف "عندما إندلعت الحرب الإيرانية - العراقية، هاجر البصريون إلى مدن أخرى..هربا من القصف المدفعي والموت اليومي، و تحول هذا الشارع - الذاكرة والتاريخ.. رمز السلام والحياة، إلى ساتر من الحرب.. تحرسه تماثيل لشباب سقطوا في آتون الحروب ومواسم النسيان."

 وظل (الكورنيش) بعدها سنين عددا يندب أيامه الغابرة، ولا يذكره بماضيه وزهو لياليه سوى تمثال الشاعر البصري الكبير (بدر شاكر السياب).. الذي وقف شامخا طوال متواليات الخراب والحروب، رغم آلاف الأطنان من القذائف وروائح الدم التي كانت تشيع في الأرجاء. وبعد رحيل النظام السابق، وشعور العراقيين بأن هناك أملا في إستئناف الحياة من جديد.. تذكروا (طوطمهم) شط العرب.. وكورنيشه العتيد، فهرعوا إليه ليغسلوا ما علق بأرواحهم من سخام الحروب وفصول الدم التي إمتدت لأكثر من ثلاثة عقود.

وفي جولة لـ (أصوات العراق) في شارع الكورنيش أمس الجمعة .. وجدناه كالعهد به دائما مكتظا بمريديه ومرتاديه، بعد أن أجرت محافظة البصرة تحسينات وإصلاحات على الشارع، حيث قامت بتبليط أرصفته.. وإعادة غرس بعض الأشجار في أنحاء متفرقة منه.

 يقول السيد جبار نعمة (30 عاما) وهو موظف عن سبب تمسكه بالحضور إلى المكان " إذا كنا نضع في نظر الإعتبار كل ما يحدث (يقصد أحداث العنف والقتال) .. فلن نصل إلى الكورنيش أبدا."

وأضاف" المشاكل والتوترات ليس لها نهاية كما يبدو؛ وأنا أشعر بالسلام والطمأنينة كلما جلست على الكورنيش.. فهو عنوان مدينة البصرة، وأجمل شيء فيها." وإضافة إلى تقاليده القديمة، أدخل الزمن العراقي الجديد تقاليد لم تكن معروفة سابقا.. منها (تدخين الشيشة)، حيث لا يخلو أي من تلك الكازينوهات المنتشرة على امتداده من توفير هذه الخدمة لزبائنها .

ويرى السيد مسار علي (28 عاما) وهو إعلامي أنه " ليس ثمة مكان آخر يذهب إليه الإنسان في البصرة.. لأن جميع الأماكن العائلية، مثل النوادي والمتنزهات، مغلقة.. لكن الكورنيش هو من أجمل الأماكن، وفيه كازينوهات وفرص للترويح عن النفس لا تتوفر في أي مكان آخر." ونظر على إلى خطيبته مبتسما إبتسامة ذات مغزى، وهو ينفث دخان شيشته في الأفق، قائلا "هذا هو موعدنا الإسبوعي للمجيء إلى هنا أنا وخطيبتي." أما السيد (أ.م) الذي تجاوز الستين من العمر، فيقول إنه جاء إلى الكورنيش مع زوجته " لإسترجاع أيامنا السالفة.. حيث كنا شبابا وعشاقا."، وهنا ضحكت (الحاجة).. وأطرقت حياء.

وعاد الزوج الى ذكرياته مع كورنيش البصرة، قائلا " كنا قبل الزواج نتواعد تحت هذه الشجرة الكبيرة (وأشار نحو شجرة ضخمة)، وكنت أنتظر (فتاتي) وكأني جالس على موقد من الجمر.. ولا أشعر بالهدوء حتى تأتي." وزاد "حتى بعد زواجنا كنا نرتاد الكورنيش دائما، لكن بعد الحرب العراقية - الإيرانية.. وإنطفاء بهجة هذا الشارع، إضافة إلى الأوضاع المادية التي كانت لاتسمح للعراقي بأن يحصل حتى على لقمته، إضطررنا مجبرين إلى الإنقطاع عن المجيء." ويرنو الرجل بنظرات بها مسحة حزن، ويقول " الآن.. بعد أن تزوج أولادنا وذهب كل منهم إلى بيته الخاص، لم يبق سواى والحاجة في المنزل.. ونأتي إلى هنا كلما سنحت الفرصة، لنتذكر أيامنا الجميلة."

 لكن الآنسة هناء شاكر،(20 عاما).. طالبة،  ترى المسألة من زاوية أخرى.. حيث تتساءل" لماذا يكون الكورنيش هو(الخيار الوحيد) أمامنا..؟ صحيح أنه جميل وينعش النفس، لكن البصرة كانت في السبعينات، كما يقول الأكبر منا سنا، مدينة بها الكثير من النوادي الإجتماعية والعائلية .. ولم يكن فيها هذا التقييد على الحريات والمراقبة على السلوك." ولفتت الطالبة الجامعية إلى أن " الكثير من الفتيات يصبن بالحزن والإحباط حينما يقترب يوم زفافهن، لأن ليس إمامهن خيار سوى إقامة مراسم الزواج في البيوت.. دون إحتفال أو إحتفاء بهذه المناسبة، التي هي أهم مناسبة في حياة الفتاة."وتابعت " ليس من المعقول أن يتدخل بعض الناس في كيفية زواجك، وفي تحديد ما تلبسه وما تؤمن به.. بل وحتى أي الأماكن ترتاد لتروح عن نفسك، أو لتقيم حفلا لزفاف أو عيد ميلاد.. أوحتى مجرد (التمشية) وإستنشاق الهواء العليل على الكورنيش وغيره." وتختم هناء قائلة " إنهم يخنقون روحنا."

ومع ذلك يبقى كورنيش البصرة،  رغم كل شيء، السبيل والمكان الافضل لإنعاش الارواح ومقاومة محاولات خنقها..

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 13/ايار/2006 -14/ربيع الثاني/1427