القبو السري

قصة: علي حسين عبيد

مفتتح

(( إن الأنسان _ في الأزمان الغابـرة _ فقد نصف انسانيته وثلثي كرامته في معركة الاستنـزاف من أجل البقاء))

أحد كتّاب الميثولوجيا

  

القصة

    أزاح الرجل أمه وضيفتها الشابة جانباً وثبَّتَ بصره الكليل في سقف الغرفة وأخذ صوته المصدوع يتذبذب صعوداً وهبوطاً، رقة وخشونةً ، وضوحاً وهذراً ، في نوبة الهلع التي انتابته من جديد وهدرت الكلمات في جوف صدره الضيق وفرَّتْ من فمه عنوة :

    كنت أعوي مثل كلب أجرب عواءً إعتاده الآخرون في القبو ثم ابكي كرضيع في يومه الأول ثم اصرخ كامرأة حبلى تعرضت فجأة لنوبة طلق وأنا أهرش بأظافر يدي الحادة المتسخة في المكان الملتهب بين فخذيّ وتحت خصيتيّ وأثناء الهرش الناري الذي قرَّح جلدي الأحمر وامتدَّ الى فتحة شرجي المنكمشة كعجوز في أرذل العمر لمحتُ جسداً آدمياً ضخماً وشرساً يفك عصابة سوداء إلتفَّتْ حول رأس وعينيّ زبون طازج (هذه التسمية كانت تُطلَق على السجناء الجدد) ثم عالجه الجسد الشرس بركلة قوية تدحرج على اثرها جسمه القصير فوق أرضية السجن حتى استلقى رأسه في حضني عند المكان الذي أخذت اظافري تنبشه بسرعة وحدَّة مضاعفتين فلحظتُ إحدى عينية مضببة بنقطة غرينية خبطت سواد العين مع بياضها وفي اللحظة نفسها استشاطت في المكان المشتعل بين فخذيّ لذة قاهرة رحت استشعرها مع الألم الذي صار مألوفا لنا هنا في قبو السجناء ( المحلّى ) بظلام أزلي لا يسمح مطلقاً بولوج الشمس او غيرها الى القبو حتى مصباح الليل ظلَّ يعاني من خفوت أبدي تعودته أبصارنا وصار جزءً من مكونات المكان الذي تآلفنا معه وإمتدت بيننا وبينه وشائج التأقلم القسري وعلمتْنا كيف نهادن المكان ونعقد معه اتفاقية صلح ليس لنا الحق في رفضها او حتى الهمس بتعديلها ، نظرتُ الى الوجه الدميم المدمّى الذي سقط في حضني مستجيراً بي ، رأيت فيه وجهي ،كدت ان ابكي وانا افكر بأن الله قد خلق مني رجلين وها هما ملقيان في مكان واحد لا يليق حتى بالفئران ، ثم ما لبثت ان رأيت وجهي يتناسل في كل الوجوه البلهاء المحاصرة في هذا القبو، فترعَّن العواء الذي كان مستشيطاً في صدري من شدة الغيظ واستولت عليَّ قهقهات شيطانية وقحة وأنا أعالـج ببصري الكليل ضآلة هذا الوجه الممزق ونحوله وضموره وصفرته قبل ان يقضي دقائق معدودة معنا فكيف به اذا أمضى أياماً او شهورا او سنوات ، لقد هانت عليَّ اوجاعي وانا اتبحَّر بوجه هذا الكائن المضنوك أصلاً وعجبتُ من وجوده في هذا المكان الذي لن يأوي إلاّ الرجال الخطرين من امثالي !! نعم …الخطرين…هه…الخطرين جداً …ههههههها……الخطري …الـملعونين… هاهاهههههه …الكلاب الكلالالالالالاب……

    ثم أرتعد الرجل بغتة واختض جسده بعنف وبلا وعي منه عوى كالكلب الذي حاصره الجرب من كل حدب وصوب وبوعيه المباغِت رفع كفه بسرعة البرق وكمَّ فمه وأمسك عن الكلام ودفن رأسه (كمن ارتكب فعلة شنيعة من دون قصد مسبق ) في حضن امه التي دمعت عيناها وفرشت كفيها فوق صلعته الساخنة واخذت تقبل جبينه وعينيه ولم تثنها الرعشة الدفّـاقة التي استبدت بجسد ابنها ولا العرق الذي طفق يتفصد فوق جبينه ولا الرائحة الزنخة التي تأججت وهبَّتْ من تحت إبطيه ولا الهمهمة النادبة المسربلة بشخير متقطع من فمه فراحت تمسد رأسه وخديه وصدره المندَّب وتمسح صلعته المعروقة وتقارع موجات الخوف التي تجتاحه الآن وتعاوده بين مدة واخرى فيما كانت الضيفة الشابة تتابع ما يجري بصمت وحذر مشوب بألم ممض وشرعت الأم تكافح نوبة الهلع التي تعصف بإبنها من جديد وتطلب منه باصرار من لايرد الضيف ابداً ان يساعد الشابة التي حلَّتْ ضيفةً عليهم واستجارت بهم لمعرفة أي شيء مهما كان تافهاً او ضئيلاً او حـتى ( كاذباً ) عن اخيها الذي أكلته وشربته الشائعات الكاذبة وانتفى في دهاليز الغيب.

    أفاق الرجل من هلوساته وتفادى محنة العواء التي عَلَقَتْ به مع أدران القبو ونطق مرة اخرى تحت وطأة إلحاح الأم :

    أي غيب وأية شائعات ، أنا رأيت بعيني كل شيء و(( مابين الكذب والصدق أربع أصابع )) كما تقولون  لكن حرقة الهرش ذبحتني وذبحته هو أيضا (هذا الزبون الطازج الذكي الذي تأقلم مع بيئته الجديدة بسرعة قياسية) ففي الليلة التالية بدأ يعوي مثل الآخرين وصار واحداً منهم وربما كان أفضلهم في حدة الصوت ونغمته لكنه كان اكثرهم تضرراً لضآلة جسمه وشيئاً فشيئاً تآلف هيكله القصير مع الدمامل الصفراء التي تناهبت جلده ونبتت في تربة ظهره ولم يعد يشكوا من القيح والندوب التي تناثرت فوق عظام صدره الناتئة وبطنه وبين فخذيه ولا يعبأ بطابور القمَّل المعافى المنساب بدغدغة ناعمة من قحفة رأسه الأكرت الى رقبته الملساء لينقسم الى رتلين متبخترين في دبيبهما أحدهما يتهادى قُدماً فوق صدره نازلاً الى بطنه مخترقاً سرَّته ماصّاً ما يتيسر له من دم طازج فيها وهابطاً الى شعر العانة الشعثاء مختبئاً فيها كمحطة استراحة وقتية ملتهماً ما يتوهج في جلدها المهروش من قيح ودمامل ذات رؤوس حمر مدببة مولودة لتوها ثم ينحدر أسفل الخصيتين حيث الخصب في كل شيء والرتل الثاني يتدحرج من قفا رقبته على ظهره مثل حمار حفظ دربه اليومي ولن توقفه إلاّ دملة هنا او قيحة هناك متخذاً من نهر العمود الفقري طريقا سديداً ومباشراً الى المؤخرة الضامرة ليلتقي الرتلان في تلك المنطقة الغائرة الدافئة الغنية بالدماء .. تلك الحلقة الدائرية المحتقنة التي تعودنا على هرشها كحاجة جسدية لامناص منها .

      تقززت الشابة بخفاء وحياء شديدين وهي تنصت على مضض لتوصيفات الرجل الخارج قبل ايام قلائل من المعتقل والداخل لتوه في موجة رعب جديدة وهو يسرد لها ما يأتي على لسانه دونما خجل او تردد كأنه غير عابئ بوجودها او إنه لم يرها ولم تتجسد أمامه أصلاً ، لقد تحملت حقائقه وأكاذيبه وبدا لها كالممسوس ، فكل شيء فيه يدل على انه فقد انسانيته ولم يتبقَ منها إلاّ ذبالة قد تنطفئ مع اية هبة جنون قادمة وعنذاك سيغدو حيواناً لا ينتمي الى فصيلة الأنسان ، وثمة ما يدعوها الى الشك بأنه لا يتحصَّل إلاّ على القليل من انسانيته إبتداءاً من عينيه الهلعتين الى حفرة فمه المزمومة بخوف الى التجعدات التي غزت جبينه وصلعته الى عموم جسده الخارج من اتون الموت الى نوبة الهلوسات التي تسحقه من دون سابق انذار وثمة فورات التوحش والعواء التي تجتاحه وقتما يحلو لها ذلك ، يقول أحد كتّاب الميثولوجيا(( إن الأنسان _ في الأزمان الغابـرة _ فقد نصف انسانيته وثلثي كرامته في معركة الاستنـزاف من أجل البقاء)) وتكمل الشابة المهضومة فتقول ها هو _ إنسان العصر الراهن _  يصارع نفسه بالنصف المتبقي له من إنسانيته وحتما انه فقد جزءاً كبيراً من هذا النصف ، ولكن من أجل ماذا ؟!! هذا ما استعصت معرفته على الجميع حتى الآن !! وبدت الشابة يائسة من معرفة مصير أخيها بوساطة رجل هو نفسه مجهول المصير وطفقت تراقب بأسف ما آل إليه هذا الكائن الأنساني الذي انزرعت في كيانه لعنات القبو وأوساخه وظلماته ووحشيته ، وقد رفض الرجل ان يتحدث في بادىء الأمر لكائن من يكون عن السجن او عن أي تفاصيل تخص النـزلاء الجدد او القدماء وما فـرَّ من فمه الآن لهذه الشابة ، لغو كان أم حقائق أم هذيان ، غالباً ما يتناثر من فمه كالرذاذ مع كل نوبة رعب او فورة هلع تهجم عليه فيسوقه الكلام الى حيث لا يرغب قوله او حتى استعادته في الذاكرة ، وعندما توسلت إليه الشابة التي قَدمتْ من اطراف الدنيا كي تعرف شيئاً مما حدث لأخيها أطلق من جعبته المعبأة بأسرار القبو المظلم بعض المعلومات التي لاتشفي غليلها ثم ما لبث ان عضّ على شفته السفلى وأحكم غلق فمه بعد ان اشترط الانفراد بها ومغادرة الجميع للغرفة ، حتى امه التي لم تـفلح فـي ثنيه عن هذا الشرط المريب صرخ بـها(( هيا غادري الغرفة فوراً )) وعندها استاءت الشابة من سلوكه الغريب هذا لكن ليس ثمة لها من سبيل آخر وفي الحال بدأت تراودها المخاطر المتوقعة من رجل سلبوا منه انسانيته عنوة وأحالوه الى كائن حيواني أبعد ما يكون عن صفات الأنسان السليم ، نهضت الأم على مضض وغادرت الغرفة مع الآخرين بعد ان استسمحتها ضيفتها بذلك وحينما تركت الباب مفتوحاً ظل الرجل الناقم على كل شيء غاطساً في صمته كالتمثال وعنذاك نهضت الشابة واغلقتْ الباب عليهما ، وها انها الآن في غرفة واحدة مع رجل ألغوا وجوده ولوَّثوا حرماته وهُتِكت هيبته حتى النخاع ، مئات الليالي وهو يعوي مع حشد الكلاب من أجل لحظة حب ، مئات النهارات وهو يقاتل طوابير القمل ويحلم بجسد نظيف ، آلاف الساعات وهو يتشمم مثل الكلب أجساداً تقبع معه في القبو ولكن لاحياة فيها ، فماذا تتوقع من رجل كهذا أن يفعل بها ، سيطرتْ الشابة على موجة الأختضاض التي دهمت جسدها المرعوب وهي تحتوي بألم مسربل بالخوف ذلك الوجه المهتوك الخافت ، برطم الرجل شفتيه مشمئزاً وساخطاً وظل يتنقَّل بباصرتيه بين ظاهر كفه المحروق ووجه الشابة الوضيء وهي ترنو إليه بقلق شديد وتربو بلهفة حارقة لأية كلمة تفرُّ من فمه ، وبصمت مخيف قفز الى جانبها فجفلت وتكوَّرت على بعضها ، وبهدوء مغالى به مد لها يده السوداء وقربها من عينيها وأراها ظاهر كفه فبدت لها تلك العروق اليابسة المتعرجة والتغضنات الخفية الزرقاء كأنها بقايا حروق من الدرجة الأولى لم تتمكن من إخفائها العقود الطويلة التي مرت عليها وبعد ان اسدل ظاهر كفه على الفراش وأخفى السواد عن عينيها نطق بنبرة متذبذبة :

   في لحظة واحدة أحرقوا كفينا أنا والزبون الطازج ، هه .. أتسمعيني جيداً ؟! كان صباحاً معتماً حين اخرجونا معاً الى جولة جديدة من الترويح اليومي وكم اتمنى لك جولة مثلها ( ثم ضحك بغيض ، وبعد صمت وكأنه استذكر امراً مهماً، أضاف قائـلاً ) ولشد ما أدهشني صبـر السجين الجديد الذي لا يتواءم مع ضآلة جسمه قط، فقد أفلتتْ من فمي صرخة طفل هاجمه فجأة وحش ناري مفترس والتهم كفه ، هل رأيت بحياتك يداً بشرية تحترق في جسد حي ؟!! فكيف لو كانت يدك ، أما ذلك الجسد الضئيل فقد كابر وأتى على نفسه كثيراً ، فلم تبدر منه سوى آهة مكبوتة وظلَّ بعدها صامتاً كأنه يقتص بعينه الوحيدة التي غصَّت بغيض العالم من ذلك النذل الذي أوثق أرجلنا وألقى بأثقال الكون كلها فوق جسدينا وربط كفينا بمقبض حديدي وجرهما الى سائل رائب جائف كالقيء اللزج وفي لحظة واحدة أغرقهما معاً في السائل الحارق فإسودَّتْ الدنيا في عيني وتحولت كفّانا في لحظات الى عظام متفحمة .

    تأفف الرجل وأغمض عينيه وأطلق زفيراً ناقماً وشرع يتفرَّس ظاهر كفه وباطنها اللّحمي المتلامع ثم ظاهرها من جديد كأنه يبصره للمرة الأولى بذلك التفحم المخزي وبغتة أفرد ذراعه بسرعة خاطفة لتستقر كفه الـمعابة على كتف الشابة التي جفلت بغتة وفرَّت خائفة الى زاوية الغرفة القريبة فيما طفق هو يضحك بمرارة ويفول لها :

    ليس يدي فحسب ما حدث لها هذا ، هه … إنظري إليها جيداً ، إنها قبيحة ومخيفة أيضاً ولكن كيف ستهربين من يد الزبون الطازج اذا كتب الله له الخروج من بطن الحوت ههههههههها… وظلَّ ينفث من فوهة فمه السوداء قهقهات شيطانية صاخبة ثم ما لبث ان عوى ذلك العواء الفائح بعفونة القبو .

    حتى لحظة العواء هذه لم تتيقن الشابة من ان الرجل الخارج من اتون القبو السري يتحدث عن اخيها لا عن شخص آخر وفكرت مع نفسها وهي محاصرة في زاوية الخوف ، ما اكثر الكائنات البشرية التي غيبتها بطون السجون والأقبية وما اكثر فنون التعذيب التي أعدَّها الأنسان لنفسه وأتقنها لأخيه أكثر من أي شيء ، فما الذي يجعلها تصدق هذا الرجل الذي لا يعي اغلب ما يقول ، انه لا ريب يهذي وحتما لا يتحدث عن الأنسان الذي تبحث عنه بل عن نفسه هو، ها هي ترى بوضوح لا يقاربه الريب تلك العلامات الفارقة التي يتحدث عنها ، إنها تنطبق عليه هو أكثر من أي شخص آخر ، حتى النقطة الغرينية اللاّصفة التي تتوسط عين اخيها أو (( الزبون الطازج _كما يسميه _ )) تراها الآن تلصف وسط عينه اليمنى كما ان جسده يبدو مهتوكاً ضامراً وروحه هي الاخرى ملتاعة يائسة وحتى بقايا القيح تبدو ظاهرة على رقبته وصلعته ويديه فيبدو لها أخوها مجسدا في هذا الجسد الميت وهو على قيد الحياة.

شبكة النبأ المعلوماتية-الخميس 13/نيسان/2006 -14/ربيع الاول/1427