المثقف العراقي في الذكرى الثالثة للحرب: حيرة أمام ثنائية الإستبداد.. أم الإحتلال

مثلما يطرح الوضع الراهن، بعد مرور ثلاثة أعوام على تغيير النظام السابق، الكثير من الأسئلة في كافة مناحي ومفاصل الحياة العراقية.. كان للثقافة، بإعتبارها روح الشعب وضميره.. وذاكرته الحية، أسئلتها الكبيرة والكثيرة...

وجد المثقف العراقي نفسه حائرا بين ثنائية: ثقافة السلطة.. أم سلطة الثقافة ؛ وهل كان

وضعه أفضل وهو مقموع بفعل هيمنة السلطة الشمولية السابقة، أم الآن وسط هذا الوضع المنفلت بفعل الإحتلال.. والحرية المقرونة بالفوضى في كل مناحي الواقع الحياتي الراهن..؟!

ويقول مثقفون إن السؤال الأول، والأكثر إلحاحا وإشكالا، الذي واجهته الثقافة وحير المثقف العراقي.. بدأ منذ صبيحة التاسع من نيسان إبريل عام ( 2003 )، حين بدأت دبابات الإحتلال

تجوب شوارع المدن.. وتفض عذريتها الوطنية، وأخذت أحذية (جند الشمال) ذوي الشعور الشقراء تعزف ( مارشات) زمن جديد مجهول...

ويضيف المثقفون أنه حينها.. راح السؤال يتشظى طوفانا من الأسئلة في ذاكرة الثقافة وضمير المثقف العراقي، عبر ثنائية محيرة.. وتقابلية مريبة: الدكتاتورية.. أم الإحتلال ؛ الإستبداد.. أم الحرية ؛ الأصولية الوطنية.. مقابل الكوسموبولتية ؛وأسئلة كثيرة أخرى لم تزل تمور في ذاكرة الثقافة ووعي المثقف العراقي.. دون أن يجدا جوابا قاطعا أو حتى مقبولا،  بسبب الغموض والإلتباس الذي لف كل شيء...

وفي مناسبة الذكرى الثالثة للحرب على العراق،  حملت وكالة (أصوات العراق) هذه الأسئلة إلى بعض مثقفي البصرة، تستوضح آراءهم حول الثقافة بين زمنين ...

يقول الشاعر طالب عبد العزيز " كان ومازال المثقف العراقي رهين السياسة العراقية،  فإبان النظام السابق.. إستعبدته المؤسسة السياسية السابقة، وجعلت منه واحدا من أرخص تروس مطحنتها البغيضة.. واصلة به إلى غاياتها، التي لم تكن نبيلة أبدا، حتى لم يعد بالإمكان التفريق بينه وبين من إندفع طواعية بإتجاهها، فحدث الذي حدث.. وتشوهت الصورة في أذهان القريب والبعيد، وإختلطت الأوراق.. وتوزعت التهم، وصار المضطر قرين المغتر، وفقد المثقف بذلك القضية التي من أجلها خلق.. ولأجلها يدافع."

ويضيف عبد العزيز "وفي خلط جديد للأوراق، وبعد ما حدث من تغيير في الحياة العراقية عموما.. ووجد المثقف بعضا من حريته، صار داعية للسياسي..وصحيفة لمشاريعه، وذهب

بعضهم أبعد من ذلك.. فجعل من قلمه بوقا لزعيم هذا الحزب، ونظاما داخليا لهذه المنظمة

أو تلك الحركة، مضحيا بالفرصة الثمينة التي منحها التغيير، لا بفعل إرادته.. ولكن بفعل حاجته، فوقع في مصيبة العوز مرة أخرى."

ويتابع " فقد ظل السياسي وحده من يملك كيس النقود، والمثقف كفا ممدودة للحاجات.. وجيبا لا يدخله إلا الهواء، وبين مأزقين مهلكين.. لم يجد المثقف مخلّصا له، ولا دافعا عنه."

ويختم الشاعر طالب عبد العزيز قائلا " لهذا أرى أن المثقف ما زال في ذات المحنة، مع الفارق البسيط بين كرباج السلطة آنذاك.. وكيس النقود آنئذ . وما لم تؤمن حاجته من الكرامة، وتأخذ الدولة بيده.. بعيدا عن التفكير بمنفعتها منه، سيتحول مرة أخرى إلي ترس قديم في عجلة ذات غايات جديدة، لا تختلف عن سابقتها أكثر مما يحدثه الزمن في وجه ظل مشروعا للغضون."

ويوضح القاص عبد الحليم مهودر أن " الثقافة في المرحلتين تمتاز بسيطرة الدولة، ففيما كان النظام السابق يرعى مثقفيه ويجزل لهم العطاء.. ويقيد ويشح على الآخرين، جاءت المؤسسات الثقافية الجديدة لتراوح في مكانها تحت ظل الإحتلال.. ولم تتغير الآليات كثيرا."

ويشير مهودر إلى أن " إشكالية الثقافة العراقية تتمثل في أنها قايضت إحتلالا أجنبيا بإستبدادا، وهذا لا يجعلنا نأمل بأن الأمور ستكون على ما يرام.. هذا إن لم تتجه إلى الأسوأ، فالخوف والريبة وعدم الوضوح هي أهم ملامح المشهد الثقافي العراقي حاليا."

الناقد عبد الغفار العطوي إن " الثقافة مؤسسة.. سواء كانت منضوية تحت سلطة السياسة أم دونها ؛ فهي تأخذ مجراها بعيدا عن تأثيرات السلطة.. وقد ضمت السلطة السياسية هذه المؤسسة وذوبتها في مضامينها، فكانت الثقافة منتهكة والمثقفون مقيدين لتلك السلطة."

ويتابع "وتظل الظاهرة سائدة في المرحلة الحالية، حيث تحاول السلطة السياسية جر الثقافة والمثقفين إلى إنتهاكاتها الصارخة.. والسبب سوء التفاهم بين الثقافة والسلطة،  لهذا يبقى المثقف أسير سلطته الثقافية، وسواء كانت سلطة دكتاتورية بائدة أم سلطة الإحتلال.. فهناك إشكالية فحص يجب تفعيلها."

أما الكاتب والصحفي علي أبو عراق فيرى أن ما جرى من تغيرات في العراق "هو عتبة جديدة في تاريخ الشعب العراقي، ولعل الثقافة هي مجس الكشف الأول فيها.. وإذا كانت الأمور في الجوانب السياسية والإقتصادية، وجميع الفعاليات الأخرى،  تترك للتجريب والتراتبية.. فليس ثمة عذر للثقافة أن تنحو ذات المنحى، وأن تخضع لذات الشروط."

ويضيف قائلا أن الثقافة العراقية "رغم ما تعرضت له من قطائع وإنتكاسات وتشويه لحد المسخ، لكنها تبقى ( الروح الحية) للشعب.. فالثقافة العراقية

ذات تاريخ عريق وحافل يمكنها من أن تستعيد لياقتها وحماستها لتنهض من جديد، والراهن

العراقي بكل تفاصيله، وخصوصا الإحتلال،  يحرض على ذلك."

ويشير أبوعراق إلى أن الثقافة العراقية " لم تكن في أي يوم من الأيام مهادنة.. أوغير مكترثة،  بل أن تاريخ العراق السياسي والوطني يمكن إختزاله بتاريخ الثقافة، وإذا كان الإستبداد قد إستطاع أن يكبح جزء من جموحها وحيويتها.. فلا أعتقد أن الإحتلال وتداعياته يستطيع أن يفعل ذلك."

ويقول إنه "على المثقفين العراقيين أن يستثمروا هذا المأزق الكبير ليأسسوا لثقافة المستقبل،  بعيدا عن موروث المؤسسة السابقة.. وبعيدا عن إملاءات الإحتلال وما أنتجه من مشكلات باهظة."

ويلفت الفنان التشكيلي والشاعر هاشم تايه إلى أن الثقافة " تم إحتجازها، في ظل النظام السابق، في نفق مغلق.. فغدت المؤسسة الثقافية الرسمية لاتقدم غير علف رخيص لحصان الإستبداد المجنون، وتجرد الفعل الثقافي من حيويته.. وبسبب القمع ومصادرة الحريات إختفى،  أو كاد،  صوت المثقف العراقي الذي يعيد للثقافة دورها الإيجابي في تحرير الوعي من براثن التخلف والظلام ومصادرة الآخر."

ويشير إلى أنه " بعد التغيير الذي أعقب إنهيار التاريخ السابق،  تفتحت الفرص أمام الثقافة لتستعيد عافيتها.. وقدرتها على إنتاج ما يدفع التغيير إلى الأمام لتجنى فوائده." ويتابع " لكن الواقع الجديد المضطرب والمعقد والمأزوم،  الذي إختلطت فيه الأوراق.. وتشظى كل شيء وهو يواجه عصف الهويات المتصارعة في نزاع عقيم تحت وطأة الاحتلال ؛ وإرهاب قوى الظلام.. وتكالب المحيط المذعور من التغيير العاصف، والتبلد السياسي الذي إجتاح كل شيء."

ويلفت هاشم تايه إلى أنه "في ظل هذا الواقع.. باتت الثقافة أمام عقبات جديدة وتحديات من نوع آخر، وأصبح لزاما على المثقفين أن يوحدوا جهودهم في كيانات فاعلة، وأن يجدوا الوسائل التي تهيئ لهم أسباب الفعل المؤثر.. الذي من دونه تظل حركة المجتمع رهن تجاذبات القوى التي لا تخدم سوى نفسها."

شبكة النبأ المعلوماتية-الثلاثاء 21/اذار/2006 -20/صفر/1427