ثلج شادي وبردي جبر

علاوي كاظم كشيش

(1)شادي على الثلج

منذ أن ولعت الدنيا وكان هناك ناس ضد ناس وقد علقت على أطراف الوادي .ذهب شادي الذي رفض أن يتفرج وظل يلعب على الثلج ورغم مرور الثلج لأكثر من واحد عشرين قرناً لا عشرين مرة كما تدعي فيروز وكما أوحى لها الرحابنة إلاّ أن شادي ظل على عادته يلعب على الثلج ويطلع لسانه لحروب الدنيا الدنيئة….دائماً نرى ظهر شادي  يغطي المشهد وهو بزعله وكبريائه الطفولي يجعلنا راضين عن رفضه وامتناعه عن رؤيتنا لأنه يحاول أن يلقننا درساً في البراءة والبياض البارد في جحيم الحروب….من منا لم يظل في نفسه شئ من شادي وهدوئه الغريب وتمنى أن يشاركه اللعب على الثلج….

(2)حنظلة يدير ظهره أيضاً…

اثنان استمتعا واتصفا بهذه اللقطة الغريبة لقطة إدارة الظهر لكل ما يجري أو الإحتجاج البرئ المسالم ضد قِدْر الدنيا الذي يفور في أسوأ الطبخات وأردئها .إنهما إثنان شادي فيروز .وحنظلة الذي اختفى مع رسام الكارتير الفلسطيني المرحوم ناجي العلي…..

(3)ثالثهما بردية شرسة

وهناك ثالث لهما ظل دائماً يدور في مشاهد الثلج والحروب ولا يقر له قرار وهو لا يسكت ومثل البردي الشرس كلما قطع من جانب نما من آخر…أخذته الحروب كثيراً والدويلات والأنظمة والشجن والوضوح..بكوا عليه كثيراً وحسدوه كما يحبون لأنه منح الفطنة واللباقة..غريب أمره عليهم .يطلع من الطين ويرضع أثداء النخيل ويروح ضحية للفيضانات والإنقلابات والنعرات..وهو صامت وإذا تكلم ألقى طرفة وعاد الى مشاغله…يغني بصمت…تكتسح قلبه دبابير العشق وتلسعه لسعات من عسل وإذا كان عشاؤه قطعة حنظل أكلها وحمد الله وأثنى عليه..سكْره منه فيه..يثمله تبدل الفصول وشراسة المياه ووداعتها .رسائله جداول وشموس وأنهار تطعن البعيد مثل سيوف ذائبة..منحه السواد بياض قلب وفتنة ولباقة وقدرة على صيد سمكة المعنى في أعكر المياه..لا يشعر بالنماء حتى تجرح سنابل القمح خاصرته…ولا يشعر بالأمان حتى ينام القطا.. ويردد قول الحسين بن علي: ولولا المزعجات من الليالي إذن ترك القطا يوماً فناما…

(4)واضح في المشهد دائماً

يواجهنا وجهه المسمر بشمس آب دائماً في قلب الأغنية ولا يدير ظهره مثل شادي وحنظلة لأنه يعرف أن الخجل سيأكل مهابته وأن حياءه متسلط عليه…يغازل المرأة مثلما يغازل سمكة ويصطادها برحمة ومودة..خلق من غضب ودبس..لا يرى أماً كالنخلة…يحرق أذرعها في الشتاء ليتدفأ .ويتقمط بظلالها في ظهيرة آب اللهاب…

(5)حزيران تموز آب

ثلاثة شهور كانت تدوس سنابل صبره…فهو منذ أن خرج من حزيران الذي صاحبه الى فراشه ورضع معه حتى استقبله تموز الذي أراد أن يعيد صياغته ودفع ثمن هذه الصياغة العوجاء حقلاً من عمره يعادل العشرات من مواسم  القمح…وبعد تموز جاء آب اللهاب..بحروبه الخاسرة التي ترفع رايات اللغة والوهم والإستباحة.وكان هو طعاماً لمحارق آب..يتوالد ويتكاثر مثل الشنبلان في بطون المياه.وعجز آب عن اجتثاثه.وكان يؤلمهم كثيراً أنه يواصل غناءه مثل البط البري ولا يموت.يمر فترقّع النساء الكوى بالمحاجر كما قال الطرماح بن الحكيم..يغازل فتنتهن وأنوثتهن بقامته التي لا يلاحقها ظل وعلى كتفيه فالة الصيد وهو ذاهب الى صلاة الأنهار وعذرية المجهول ليعود قبل الغروب بمشناق من السمك يتدلى على ظهره المملح بمياه القمح..

(6)علامة استفهام تصعد الجبال

ويطل علينا في لقطة جارحة من مشهد لم تصطده أغنية لحد الآن…بعد أن ذرع خارطة الوطن طالباً وجندياً وصياداً وكما ظلل رأسه بردي الهور وقصبه أحنت ظهره الجبال وهو يطارد القبج وظلت الأسماك في الأنهار أكثر طراوة لأنها لا تختبئ عنه وراء الحجر المسنن والجبال التي تجعله وهو يصعد علامة استفهام…وكان يؤمن أنه متى ما طرق أي باب عندما يعطش فإنه سيسمع كلمة أهلاً وسهلاً وسيسقى طاسة لا يختلف مذاقها وهذا ما جربه مرة في دهوك ومرة في البصرة ومرات عدة فيما بينهما من مدن وهو يسيح في وطن فجّر فيه عطش كربلاء وبكارة المياه والإنتباه..

(7)السعلوة

لم يوصه أبوه ولم يحذره لا من النساء ولامن المدن ولا من القتلة ولا من السراق ولا من الغربة ولا من السفر ولا من المقامرة ولا من الحروب ولكن حذره من سعلوة تطلع ولا تطلع ولكنها موجودة دائماً وتشاركه طعامه ومنامه وصبواته وشهواته..لقد حذره أبوه من الدولة السعلوة ومن السعلوة الدولة….ظل يتحاشاها ولكنها تصطاده دائماً فيتخلص منها ويحاول بشتى أنواع الحيل فيهرب وتصطاده فتلتقمه مضغة لحرب عابرة ولكنه يتكاثر وينتشر بشراسة البردي…

(8) الأرض سرة أمه

ظل يطأ الأرض ويشعر منذ أن وضعته أمه على بطنها وهي مستلقية تحت  برحية في بستان جده وقد لامست قدماه الغضتين سرتها .ظل يشعر بذلك الملمس طوال عمره وبحرارة تشبه حرارة قاع النهر.وظل يمشي حافياً كلما خلا بنفسه أو ذهب الى موعد يلدغ قلبه بالقبل ويداه على خنجره من عسس الدولة.ويتسائل لماذا لم تكن أمي دولة؟…..

 

 

(9)يرتدي شعاراً….

استدعوه يوماً وقالوا له ياجبر كفى مضعية للوقت فأنت في واد والناس في آخر وقد تغيرت الدنيا وستصير خزياً على القرية الواحدة.تعال والبس هذا الشعار.لقد فصلناه على مقاسك وسترى أنه يريحك ويغنيك عن هذا الترحال والتجوال وعدم راحة البال.كان الشعار غريباً عليه.قال لهم لقد حذرني أبي من الدولة وأبنائها.قالوا نعم. يالبساطتك:.لقد كان هذا في سالف الأيام.والآن تغيرت الأمور.أحس فيهم الريبة.محمرون مترفون معافون لم تلوحهم شمس آب.قال لهم أين كنتم؟.قالوا:متى؟. قال عندما اندلعت الأغنية.إن فيروز لم تغن لتطربكم.لقد أمرتني أن أترك شادي يلعب على الثلج وأسرع لأطفئ حريق القرية والطبائع وأطرد ذئاب الأفكار وهي تفتك بغنم البراءة.أنا ابن المياه التي لا تأخذ أشكالاً ثابتة.هاتوا شعاراً يظللني ولو كان بردية.وأما شعاركم هذا فهو سعلوة ظل أبي يتجنبها لأنها تأخذه غيلة وربما تتزوجه لتنجب منه مسوخاً…

(10)لا يغيب عن المشهد

خرج من الأغنية وقد احتل المشهد بكامله وقال لنا…أنا ذاهب لا الى ثلج شادي ولكن الى سرة أمي الدافئة.واستريحوا أنتم من عناء البحث عن شعار أوتعالوا معي قبل أن تعلق على أطراف الوادي….يا سادة .أنا جبر.جبر الذي لا يغيب عن المشهد ولا يلعب على ثلج برودكم وموارباتكم.أنا جبر الدبسي.في آب اللهاب تجدون قلبي بارداً مثل اللبن. وفي الحروب لا أموت ولكن ظلالي تتبدل.إذا استطعتم إقناع البردي بما تريدون ستقنعونني.ابتعد عنهم جبر ووجهه ملء المشهد يطل علينا بابتسامته الفراتية  ومن العمق شممنا ريحة هيل وحفيف أجنحة القطا يتموج .فيما كانت الحروب تتوارى وتندلع الأغنية رقراقة وقد ذابت الثلوج وعاد شادي من اللعب لتلامس قدماه الغضتان سرة أمه…

شبكة النبأ المعلوماتية -الاحد 22 /كانون الثاني/2006 - 21/ذي الحجة/1426