التنمية الثقافية في العالم الإسلامي : واقع وآفاق نظرة استقصائية عامة

 بقلم: المهندس غريبي مراد عبد الملك(*)

مدخل منهجي:

 تطالعنا كل يوم إشكالات متعددة تواجه الحياة الإسلامية المتطلعة إلى النهوض و التطور، منها على وجه الخصوص إشكالية الصراع المذهبي، الضاغط على محاولات التركيز على الحوار الإسلامي– الإسلامي وتفعيل الموارد والقدرات الثقافية الإسلامية. و لقد أسفر هذا التناحر المذهبي في العقود الأخيرة عن فجوتين عظيمتين أتتا على الأخضر واليابس في المشروع الحضاري الإسلامي.

الأولى: إجتماعية والثانية ثقافية، وهما فجوتان ناجمتان أساسا عن عدم الاهتمام و الحسبان لدى عامة المسلمين المعاصرين للمكون التنموي الثقافي كعمود محوري للصحة الاجتماعية وتنميتها. مما أورث الأمة الإسلامية وهْناً خطيرا تمثل في صور النزاعات الطائفية والتخلف الاجتماعي والفقر والجبن الثقافيين، وانتهى إلى نتائج من قبيل القابلية للاستعمار والتبعية والإذعان للاستكبار العالمي.

و نجد في هذا العصر، العالم برمته(المتقدم والمتأخر) إلتفت لمطلب التنمية الثقافية بعناية بليغة، كما يوضحه التقرير العام المعنون(التنوع البشري الخلاق)الصادر عام 1995 عن اللجنة العالمية للثقافة والتنمية، بينما حراك أممنا الإسلامية(1) بطيء جدا في هذا الخصوص.

 ومفاد هذا التقرير أنه يجب ربط كل مجالات الحياة من اقتصاد واجتماع وسياسة وصحة وأمن وماهنالك من أبعاد حياتية، بالتنمية الثقافية وإرتكاز مستقبل كل أمة على هذه التنمية.

هذه التنمية التي تعتمد على الحوار والإنفتاح والتسامح والتكافل والتعارف والتعايش واللاعنف والإصلاح والتغيير والتجديد وغيرها من المفاهيم الحضارية، نجدها أكثر حضورا في المنظومة الثقافية الإسلامية، والتي تكفلت في الماضي بالتحكم في تطور مظاهر الحياة الإسلامية بإيجابية وبلوغها مرتبة الحضارة الإنسانية، ولازالت كفيلة بأن تدخل الإنسان المسلم مرات ومرات كشاهد على العصر الإنساني بثقافة عالمية تجمع بين البعد المادي والروحي المتوازن.

 لا شك أن ظروفنا الاجتماعية الراهنة في ظل الأزمات الإقليمية والرهانات الإستكبارية والمؤامرات الإرهابية والخروقات السياسية لحقوق الإنسان، لم تعد تسمح بالمزيد من التخلف والرجعية والأحادية الفكرية والصمت الشيطاني والمحاولات الاستعبادية الدخيلة على فضاءاتنا الإسلامية، والتي أدت إلى تنكرنا للحوار الإسلامي كمدخل ومركب حضاري، وتجاهلنا للصور والنماذج الإسلامية المشرقة التي ساهمت في تنمية القدرات العلمية والإبداعية للمسلم عبر التاريخ الإسلامي وجعلت من الثقافة(الفقه والتفقه)عبادة من جهة ومكونا أساسيا للحضارة الإسلامية والتمدن الإسلامي، حيث كل أعلام الحضارة الإسلامية من جابر بن حيان والفارابي وابن سينا وغيرهم بلغوا مراتب البقاء الدهري من خلال تناغمهم مع المنطق الإسلامي كباعث للحضارة الحقيقية .

إن معظم الإشكاليات المختلقة ومشتقاتها من الأخلاق(الفردية و الاجتماعية)السيئة، والتي نهى عنها الشارع المقدس، هي التي صنعت ترسانة الجمود و التخلف و الإرهاب في أوطاننا،ابتداءا بالعنف الأسري و إلى غاية الاستبداد السياسي، وكلها تومئ بأن نواتها الأساسية هي التخلف الفكري والروحي والجهل المتراوح بين الإفراط والتفريط ، هذه الحال المتخلفة خلقت انفصاما اجتماعيا شديدا بالغ الخطورة لدى المسلمين، منشؤه الوصايات والوشايات المتعددة المجالات من جهة، ومحاولات التغريب وما تحمله في طياتها من بذور الاستحمار والتبعية والموت من جهة أخرى. وتتجسد هذه الحال وتستوحى من الفوارق الهائلة الغالبة على الأنسجة الاجتماعية في المجتمعات الإسلامية، حيث تضاءلت  نسب التعايش عما كانت عليه  في الماضي القريب ناهيك عن البعيد.

في حين انقلبت الصورة في العالم الغربي (خصوصا أروبا)، والذي أدرك أهمية وعظمة الإنماء الأهلي وفق تنمية ثقافية شاملة. وعليه أصبحنا نحاول الاستفادة من براءات التعايش الألماني والسويسري والاسكندنافي، بعدما كنا النموذج الأمثل والأوفى لذلك كله عبر التاريخ الإنساني كله، و كتابات المستشرقين المنصفين دليل كبير على ذلك.

وتناسينا كلمة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم: "آ وجاهلية و أنا بين ظهرانيكم" و كلمته الخالدة في خطبة الوداع "...لا تعودوا من بعدي كافرين يقتل بعضكم بعضا..."نعم يا حبيب الله صدقت وأنت الصادق الأمين، إنها جاهلية وتكفير وسباب و...، لأننا أصبح السواد الأعظم منا لا يعتقد أنك بين ظهرانينا، فالدنيا قد أقفلت الآذان  و عطلت الأرواح و استعبدت الأحرار وشوهت الحقائق.

نظرا لهذا الخطر العظيم، الذي تفرزه هذه الحال من إرهاب وتكفير وسباب وإقصاء وتهميش وفبركة للحقائق وتشويه لصورة الإسلام الحقيقية، لامناص أن يحظى الحوار الإسلامي– الإسلامي في المجالات الحيوية(السياسة، الاقتصاد، الاجتماع، الإعلام والأمن و...) بنفس القدر من الأهمية والتخطيط والتقييم الذي تحظى به مهرجانات الأغنية الشبابية...! ؟

 بالكاد، تتفاوت المجتمعات الإسلامية في مستوى تطور الحوار، و في قدرتها على تفعيل التعايش والتعاون وبالتالي الوعي بمطلب الوحدة الإسلامية كإطار واسع لمفهوم التعايش ومفهوم التعاون  في منظومتها الثقافية الأساسية...

من هنا يتوجب على العلماء كل في مجتمعه أن يتبنى المبادئ والأساليب الأساسية اللازمة للحاق بمشروع التنمية الثقافية في العالم الإسلامي ورفع مستوى الوعي لدى مجتمعاتهم بقيمة الوحدة الإسلامية ...

ومن هذه الأساليب تحديث وتطوير الخطاب الإسلامي مع إدخال الروحانية والواقعية على المنهج التبليغي أكثر وافضل. حيث يعتبر الجانب الروحي بعناصره المختلفة سواء من حيث المواصفات والغايات والتطلعات وشمولية الإصلاح من الركائز الأساسية في التنمية الثقافية الإسلامية بصفة عامة، بل يمتد أيضا ليكون أحد ركائز الإصلاح السياسي والإنماء الاجتماعي والاقتصادي.

وتنبع أهمية الجانب الروحي باعتباره قضية جوهرية ومصيرية في آن واحد. لأن الحضارة الإسلامية الآفلة ارتبطت به في زمن أوجها ارتباطا كبيرا. وهنا جدير بالذكر أن عملية وفلسفة وأبعاد المشروع التنموي الثقافي ومشروع الوحدة الإسلامية، تتطور مع تطور البعد الروحي لإنساننا أكثر. وبحسب هذا المنطق يعتبر المسجد والكتاتيب (أو الزوايا في شمال إفريقيا) والحوزات والمدارس والجامعات والبيت– أساسا- أماكن بحاجة لاهتمام أعظم وأوسع...(2) كما المؤسسات الأهلية الأخرى.

لقد أصبح بناء المجتمع العلمي محورا أساسيا للرقي والتقدم والنمو، لأن الأمور لم يعد ينظر إليها بعشوائية وصدفة، والنجاح لا يقاس بالعمل الفردي العبقري أو الطائفي أو القومي أو الحزبي، بل الوجود حسب المنطق الإسلامي منظم تماما...وحسب الواقع العالمي التطور يتأتى من ثقافة المؤسسات...

من خلال هذه النظرة الاستقصائية العابرة يمكننا القول أن بداية حل الإشكاليات الحضارية تتمثل في استغلال الإمكانيات العلمية والعلمائية والمثقفة المتوفرة لتفعيل التنمية الثقافية ومنحها الحريات اللازمة المرتكزة على الأبعاد: السياسية، الاقتصادية والاجتماعية، المترابطة والمتفاعلة فيما بينها...

نافلة النظرة: رغم تصاعد وتيرة هذه السلبيات، لكن لابد أن نركز ونؤكد في كل تفاصيل حراكاتنا الإصلاحية والرسالية على أن نهج  التنمية الثقافية خير سبيل لخلاص خير أمة أخرجت للناس من براثين الجهل والتخلف والرجعية والإرهاب الفكري وما هنالك من أمراض نفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية...ونبقى مع خاتمة السورة الكريمة سورة العنكبوت (الآية 69)"والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين"

"اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق واهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة الى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة" (دعاء الإستفتاح)

 الهوامش:

(1) استخدم كلمة أمم لأنها توحي بالواقع ولأن مفهوم الأمة الإسلامية الواحدة في الجغرافية السياسية و الثقافية  لازال طوباويا، متداول غالبا  بين أهل الشأن الثقافي الوحدوي.

(2) ) لا أقصد  النشاطات التقليدية أو الروتينية- إن صح التعبير- و لكن الإسهام الفعلي في الإنماء الاجتماعي و الإرادة الإصلاحية .

(*) كاتب و باحث إسلامي جزائري

شبكة النبأ المعلوماتية -اربعاء 21/كانون الاول/2005 -  18/ذي القعدة/1426