المقابر الجماعية والندم الذي لم يظهر بعد على الجلادين

الترجمة العربية لكتاب جوزف سعادة الذي وصف بأنه "بطل" مجزرة "السبت الاسود" خلال الحرب اللبنانية الى الاسواق حتى تندلع موجة كلام عن "المقابر الجماعية" اثر اكتشاف واحدة لا تبعد كثيرا عن المقر السابق للاستخبارت السورية في لبنان..

يبدو من خلال مجمل التعليقات على موضوع المقابر الجماعية المشار اليها ومما احتواه كتاب سعادة وعنوانه "انا الضحية والجلاد انا" ان عقلية بعض الجماعات اللبنانية التي اشتركت في الحرب الاهلية تقوم على مواقف تشبه مواقف كثير من شخصيات الروايات اللبنانية التي كتبت عن الحرب والتي يمكن ان تختصر بمعادلة بسيطة فيها كثير من تبرئة الذات هي "ظلمونا فظلمناهم وفي النهاية ندمنا."

لكن من المؤلم جدا ان الحديث عن "الندم" هنا كان حكرا على عدد من هذه الروايات.. اما في الحياة اي في الواقع فبدا ان الجماعات اللبنانية على رغم حديثها الدائم عن التعايش والوحدة الوطنية وعن ان الماضي القبيح لن يعود.. لم تتخل كليا عن نواحي من تراثها وشعاراتها التي شكلت جزءا من القوة المعنوية الدافعة التي جرت الناس الى الحرب.

احد الصحافيين اللبنانيين ينعي على اطراف الحرب او الحروب الاهلية انها لم تعمل على مصالحة حقيقية تبدأ بمحاكمة الذات والاعتذار الى الاخرين في سعي الى "الشفاء النفسي" على غرار ما جرى في جنوب افريقيا مثلا. يستحضر هذا الصحافي في حديثه عن "عودة" الفئات اللبنانية الى حياة السلام قولا عن الملكيين الفرنسيين بعد عودتهم الى فرنسا بعد ضرب الثورة يجد انه ينطبق عليه هذه الفئات وهو" مساكين..فهم لم ينسوا شيئا..ولم يتعلموا شيئا."

وبقيت لعبة الانقسامات السياسية تعمل فبينما اتهم سياسيون ووسائل اعلام القوات السورية بالمسؤولية عن المقبرة الجماعية التي اكتشفت قرب منطقة عنجر حيث كان يقع مقر الاستخبارت العسكرية السورية قال سياسيون ووسائل اعلام اخرى انها واحدة من مقابر عديدة في انحاء من لبنان كانت تخضع لسيطرة قوى مختلفة لبنانية وغير لبنانية. ودعا سياسيون ورجال دين الى التروي وانتظار نتائج اختبارات الحمض النووي وغيرها قبل توجيه الاتهامات.

وجاء في انباء صحافية لم تؤكد ان هناك ما يزيد على 400 مقبرة جماعية في المناطق اللبنانية وانها من مخلفات قوى مختلفة.

اما الكتاب الذي وصف بانه "سيرة جوزف سعادة برواية فريدريك برونكيل وفريدريك كوديرك" فقد نقله الى العربية باسكال فغالي وسعيد الجن وصدر عن "دار الجديد" في بيروت وجاء في 303 صفحات متوسطة القطع. وجاء في تقديم الكتاب ان طبعته الفرنسية الاولى صدرت عام 1989 وصدر في ترجمة باللغة الهولندية سنة 1990 ثم كان صدوره في طبعة جيب باللغة الفرنسية "وعلى الرغم من هذا جميعا ومن مرور كل هذه الاعوام لم يخرج من اللبنانيين -مضرب المثل في السياحة في اللغات- من يتبرع بنقل هذا الكتاب على نية من يعنيهم الامر/قبل سواهم.."/

وفي اشارة الى التهرب من النقد الذاتي والى نوع من تبرئة الذات اضافت دار الجديد تقول في المقدمة "هل ان ارسال الحرب على معنى التجاوز عن ايامها ووقائعها وتجريدها من تفاصيلها وحيثياتها هو شرط اجماع اللبنانيين على ادانتها... سؤال برسم اللبنانيين قراء وامييين."

حمل الكتاب اهداءين بليغين في مدلولاتهما. الاول من جوزف سعادة "الى ابنيّ رولان وايلي". وكان الشابان قد قتلا في مكانين مختلفين وضرب احدهما بالبلطات. وادى ذلك الى "انتقام" الوالد الذي سمي "سفاح السبت الاسود". اما الاهداء الاخر الاكثر "قولا" وبلاغة فكان من الكاتبين الفرنسيين وقد اهدياه الى لورا زوجة جوزف وام الشابين على الشكل التالي "الى لورا.. الى المكلومين والمكلومات الذين اوتوا من البأس ان عفّوا عن الثأر والانتقام."

حملت كل دفة من غلاف الكتاب صورة للصفحة الاولى من جريدتين لبنانيتين رئيسيتين عن ذلك السبت الذي اطلق عليه اسم السبت الاسود. الدفة الاولى تشكلت من الصفحة الاولى لجريدة "النهار" اليومية وفيها ما كان يومها معلومات اولية. كانت العناوين الرئيسية كما يلي "56 جثة و300 مخطوف وانتشار المسلحين في كل مكان. هستيريا القتل تجتاح بيروت..." اما الدفة الثانية فكان من صحيفة "السفير" اليومية التي قالت عناوينها العريضة "هستيريا الحقد الكتائبي. 70 قتيلا و300 مخطوف."

يبدأ الكتاب بداية نموذجية على الشكل التالي "جاءني احدهم بالقميص الذي وجدوه على رولان. كان القميص مضرجا بالدم. ذهلت عما حولي واطرقت في الخرقة الدامية باكيا معولا. رفعت يداي القميص فوق راسي... تحسست يداي مقبض (مسدس) الكولت المعلق بحزامي وتفقدت ما في الجيب من ذخيرة." وفتح هو ورفيق له يدعى رينجو مسلح برشاش "باب القاعة المزدحمة بالمخطوفين. اطلق النار في جميع الاتجاهات وحذوت انا حذوه. نفذ ما بحوزتي من ذخيرة الكولت. سارعت الى مقر... حيث مخبأ اسلحة هناك وقعت على بندقية امريكية من ذوات العشرين طلقة ومعها مخازن ثلاثة.

"كالمجنون عدت الى المركز وتابعنا انا ورينجو تصفية المخطوفين. ممددين ارضا في بركة دم كانت تأوهاتهم وحشرجاتهم تخبو شيئا فشيئا. غادرت المكان الذي ران عليه وعلى جواره صمت ثقيل... يوم ذاك عدنا لا نشبه البشر في شيء. يوم ذلك اين منا ومن توحشنا الذئاب الكواسر" وكان المارة من الطائفة الاخرى في ذلك السبت الواقع في السادس من ديسمبر كانون الاول سنة 1975 "يقتلون بلا تمييز. كنا نكدس الجثث في شاحنة مغطاة يتولى امر قيادتها ثم افراغ حمولتها من اعلى احد الجسور شبان اخرون."

في الكتاب وصف لحياة جوزف سعادة طفلا ويافعا مع والديه وعائلتهما وتنقلاتها. وفيه وصف توثيقي للاحداث يشترك فيه المؤلفان مضيفين الى مرويات جوزف سمة تقريرية في ايراد الاحداث لبنانيا وعربيا ودوليا احيانا والربط بينها. اما الخيط القصصي الذي يستمر في ربط اجزاء المرويات وقصص القتل وحكايات الحرب فيتلخص في سعي والد الشابين الى انتظار اليوم الذي يسقط فيه مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين في ايدي الميليشيات اليمينية المسيحية وسعيه الى القبض على ثلاثة اشخاص قالت معلومات انهم اشتركوا في قتل ابنه الاكبر.

وبعد سقوط المخيم اثر حصار طويل و"المجزرة" التي اعقبت السقوط ندخل في عالم المكائد والمؤامرات الداخلية الصغيرة بين مراكز قوى داخل حزب الكتائب كما يبدو ان جوزف يريد ان يقول. وقد يتكون في ذهن القارئ انطباع هو ان جوزف "يلمح" في موضوع مقتل ابنه الاكبر رولان الى احتمال قيام تواطؤ خفي بين اشخاص نافذين في حزب الكتائب وجهات فلسطينية في المخيم. وبدا انه كان يميل الى جهة تمثلت في القائد العسكري الكتائبي الراحل بشير الجميل الذي انتخب رئيسا للجمهورية اللبنانية وقضى اغتيالا قبل تسلمه مهماته سنة 1982.

ويشعر القارئ بأن جوزف يسعى في بعض ما يسعى اليه في الكتاب الى التخفيف من مسؤولية حزب الكتائب كمؤسسة عن السبت الاسود. وعلى غرار بعض روايات الحرب اللبنانية تتحول المعركة هنا الى قضية ظلم شخصي فلا مصالح كبرى او اقليمية ولا خطط ولا مؤامرات.

وقال صحافي لبناني اخر كان على اطلاع على احداث تلك المرحلة انه من خلال معرفته بالاحداث ومن خلال الكتاب شعر بان سعادة سعى الى تحمل قدر من المسؤولية اكبر مما كان له فعلا مع الاعتراف بان دوره كان كبيرا. من الامور الرهيبة في الكتاب عمليات التعذيب لانتزاع المعلومات حيث يروي جوزف مثلا كيف كان ينتزع اسنان شخص يحقق معه ثم يدفعها في فم شخص اخر. وقد اعتقد الكاتبان ان شعورا بالندم وسعيا الى شيء من التكفير كانا وراء قرار جوزف سرد قصته عليهما. الا انهما عندما سألاه في النهاية "هل تشعر بالندم يا جوزف.." كان رده "لم اشعر بالندم يوما. لم اسف على شيء ابدا... ولو لزم الامر ان اكرر ما فعلت لفعلته ثانية بفن اكبر."

شبكة النبأ المعلوماتية -اربعاء 21/كانون الاول/2005 -  18/ذي القعدة/1426