خطأ أن يتحزَّب الخطاب الإسلامي

عقيل يوسف عيدان*

   بدءة ذي بدء فإن مقالتي هذه تتنـزَّل في فضاء اجتهادي يحتمل الخطأ والصواب وليس في فضاء عقائدي لا يتحمّل إلاّ الحلال والحرام.

 من هذا التأسيس فإني أزعم أن حديثي صائب يحتمل الخطأ، ورأي مخالفي خطأ يحتمل الصواب.

إن الحديث عن التغيير ضرورة، والتأمّل في أوضاع الأمة الإسلامية المتأزّمة يملي مشروعية طرحه مجدداً.

   لقد شهد العالم الإسلامي منذ عقود صحوة تغييرية شاملة ساهمت فيها أطراف مختلفة ومشارب متنوعة وأيديولوجيات متعددة، هدفها التَّمكين وإخراج بلدانها من ربقة الاستعمار والتخلّف والتبعية، إلى رحابة العدل والتقدّم والازدهار.

   وقد كانت الحركات الإسلامية رقماً هاماً وفاعلاً في هذا الإطار، غير أن مشوارها التغييري ومنهجياتها المطروحة شابتها الضبابية حيناً والتَّشتّت والاختلاف أحياناً، وطرح الشيء ونقيضه أحياناً أخرى، كما ساهم الداخل والخارج في تحييدها أو تحجيمها طوعاً أو كرهاً، ففشل أغلبها في الوصول إلى رأس السلطة برغم توفّر الزّخم الجماهيري والمعطى الثقافي والمرجعية الدينية. وتعدّدت التساؤلات والإجابات حول الأسباب الكامنة وراء هذا الفشل، فمن ابتلاء وَجَب قبوله والصبر على تجاوزه، إلى عقاب استحقته لانزلاقها وابتعادها عن روح الإسلام، إلى عدم فهم لواقعها الوطني وعدم إدراك للمعادلات الداخلية والإقليمية والدولية، غير أن سؤالاً ظل غائباً أو منسياً، لماذا لا يكون تحزُّب الحركة الإسلامية نفسها هو أحد الأسباب الرئيسة والعميقة وراء هذا الفشل ؟

   والمقصود بالتحزّب طائفية الخطاب، وهيمنة السياسي. هذا التحزّب الذي اعتبرته حقاً شرعياً ومطلباً سعت إلى كسبه والعمل على الحصول على تأشيرة بروزه. وقد ساهم الداخل من سلطة ومعارضة، والخارج في اللعب على أوتاره، بين شَد وجذب، وتطميع وصَدّ، والذي يبدو أن الحركة الإسلامية وقعت في حباله وكأنها تبحث عن حتفها بظلفها.

   إن دعوة الحركة الإسلامية إلى التحزّب وتبنّيه وممارسته يجعلها طرفاً في الصراع فتصبح ممثلة لمجموعة معينة، لها أبعادها وأهدافها وأدواتها ورجالها، مما يقزّم مشروعها ويحجّم تأثيرها ويمكن أن يجرّها إلى مواجهة الأمة من دون قصد منها. ففي منازلتها للسلطة القائمة تتعالى أصوات الإسلاميين عن غياب السّند من الأمة، التي في أحسن الحالات تلتزم الصمت والانسحاب، إن لم تكن طرفاً مناهضاً.

   لقد روى البعض كيف أن أحد قياديي احدى الحركات الإسلامية وهو من وراء القضبان ظلّ ينتظر ويتعجّب كيف لم تقم الجماهير بمهاجمة السجن وإطلاق سراحه منه. وقد غفل هذا القيادي أنه وخطابه لا يمثلان كل الأمة، بل هو طرف في صراع يمثّل قسماً منها، محدود العدد والعدّة.

   إن الحزبية تؤدي إلى الطائفية وتُصادر من الأمة الحق في إقامة الدين وعمارة الدنيا، وتجعلها في أيدي مجموعة مهما كَبُر عددها. فالأمة مكلّفة ومسئولة، والحزبية تنزع أو تخفّف عنها هذا التكليف، والخطاب القرآني واضح في هذا المجال حيث يلقي المهمة كاملة على الأمة وليس على طرف منها، يقول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كُونوا قوّامين لله شُهداء بالقسط}(المائدة:.

   وما يحصل الآن من طائفية في المشروع الإسلامي – عموماً – يُعتبر تواصلاً ولوناً معاصراً للفرقيّة والمذهبية القديمة. وحتى إن اعتبرنا مزايا هذا التنوّع في مجال الفقه من توسعة للأمة وتسيير لها، فإن الفرقية السياسية قديماً والحاملة للمشروع الإسلامي لم تنجح إلاّ في زيادة خلافات الأمة وتعميق تشرذمها، وفشل أغلبها في الوصول إلى سدّة الحكم، وحتى التي وصلت لم تترك لنا نماذج تُحتذى ونجاحات تُعتبر، لأن غياب الأمة كان ملازماً لفشلها ولو بعد حين.

   فمثال القرامطة في التاريخ الإسلامي خير مُعبِّر في هذا المجال، فعلى الرغم من المزاعم الطيبة لهذا الفريق فإنه بقي طرفاً في الصراع وغير جماهيري، بل رفضته الأمة على الرغم من أنه سعى لتبني العديد من مطالبها، وسعت السلطة إلى تهميشه وضربه دينياً قبل انهياره جماهيرياً وموته واقعياً.

   كما أن ثورة الزنج لم يُكتب لها التواصل والاستمرار، إذ أن بدايتها كانت طائفية ولم تَسْعَ إلى صفّ الأمة، بل جعلت من الزنج والفلاحين جمهورها وإطارها.

   وفشلت ثورات الخوارج المتلاحقة لفهمها الخاطئ في النهوض قبل جمع الأسباب ومنها جمع شمل الأمة وراءها، لا أن تكتفي بجمع نصيب معيّن من المعارضين وتعيين خليفة عليهم ومنازلة السلطة بدعوى رفض الحكم القائم وجعل الحاكمية لله.

   هذا الاستعراض السريع لهذه الاحداث المهمة، برغم اقتضابه (لضيق المجال) فإن الحصيلة واحدة، وهي غياب عنصر الأمة كحامل كلّي للفكرة وللمشروع، وأنه كلما غُيِّبت إلاّ وغُيّب النجاح وكان الفشل حليف أي محاولة للتمكين.

   إن منهجية التغيير تبدو مرتبطة في جانب منها بالنظرة الحزبية للتغيير، فوجود الأمة كحاملة للواء التغيير أو انحساره في مجموعة أو حزب، يمثلان حالتين منفصلتين ومَسارين مختلفين. فبقدر ما يساهم التحزّب في التَّسرع وطي المراحل، بقدر ما تُراهن الأمة على النفس الطويل والمنهجية الهادئة. والحقيقة فإن التاريخ الإسلامي وحاضره لم يحسما شرعية منهجية التغيير التي ظلَّت مترنّحة بين الموالاة والمواجهة، وبين المنازلة والمناصرة، وظل السؤال حول من المُصيب ومن المُخطئ مجلباً للاختلاف ولنشوء المدارس والفِرق. فهل أخطأ الخوارج بالخروج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ففرّقوا الأمة وأضعفوا الخلافة ؟ أم أصابوا لأنهم غلّبوا الحاكمية ورفضوا التعامل مع من لم يقبلوا الشرعية ؟ وهل اخطأ الإمام علي حين قبل التحكيم فأحدث شرخاً في الأمة وتنازل عن الشرعية ؟ أن أصاب حين أراد حَقن دماء المسلمين وتغليب منطق الحوار والحُجّة، على منطق السيف والقوة ؟ وهل أصاب الإمام الحسن بن علي حين تنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان درءاً للفتنة واعترافاً بصعوبة ديناً ودنياً ؟ أم أخطأ حين تركها لغير أهلها ؟ وهل أصاب الإمام الحسين بن علي حين خرج إلى العراق بحثاً عن المؤازرة وداعياً إلى العودة بالخلافة عن انحرافها الهرقلي؟ أم أخطأ حين غفل عن أن ميزان العدّة والإعداد تحكمه السُّنن العادية المادية الموضوعية، مع التحصّن الروحي ومساندة الغيب ؟ وأخيراً لا آخراً، هل أخطأ عبد الله بن عمر في عدم مساندته لسبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفضل البقاء في المدينة وتقاعس عن نصرة المظلوم ومجاهدة الظالم ؟ أم أصاب لأنه خاف الفتنة وهتك الأعراض وقتل الأنفس بين المسلمين، ففضّل الانزواء بدينه حفظاً لما تبقّى ؟

   وهكذا يتّضح أن الحاضر الإسلامي بقي مشدوداً إلى تاريخه غير المحسوم، وبقيت الأسئلة مطروحة. ودفع عدم الحَسم هذا إلى تبنّي منهجيات مختلفة ومتباينة من أطراف الأمة، التي تشكّلت في أحزاب وطوائف، والذي عمَّق لاحقاً الفرقة بينها.

   على قطعة الفسيفساء هذه تشكّلت الحركات الإسلامية الحديثة عبر واقعها التي تتنـزّل فيه، الغامض والعنيف أحياناً، ومرجعيتها التاريخية المهتزّة. وغلب على التحزّب الفرقية، الدفع إلى منهجيات التغيير العنيف والمتسرّع، وغابت الأمة، حيّدتها السلطة حتى يغيب العتاد والعدّة، وهمّشتها الحركات الإسلامية لأنها ظنّت أنها قادرة على حَمل التغيير والفوز بالسلطان، فهي الجيل الفريد وهي النخبة الواعية والصفوة الفاعلة.

   إن الحركة الإسلامية التي نرتئيها ليست ذات لون واحد ولا فكرة واحدة، بل هي مجموعة رؤى وأفكار وممارسات، تجمع في صفّ واحد المعارض للسلطة والموافق لها، تشمل التحريري والتبليغي والصوفي والأزهري والسُّني والشيعي، والموَكّلين بالكتاتيب وأئمة المساجد وخطباء الجُمع، حتى إن كانوا يأخذون خطبهم من السلطات القائمة. أعضاؤها الجماهير، من يتبنى مشروع التمكين بلا مواربة، ومن لا يعرف من الإسلام سوى ركعات فرض تتبعها أحياناً رُكَيعات نوافل، أو من يعرف الله في رمضان وينساه فيما سواه، المصلّي البسيط والصائم الأبسط والحاج المتقاعد، أو من يحمل في قلبه ذرّة إيمان، وهم كُثر.

   فالمشروع الإسلامي الذي يتبناه هذا الكلّ القزحي ويجمع عليه القاصي والداني منهم، بسيط في تعبيراته عميق في محتواه، وهو ما عنته آية التمكين من سورة الحج {الذين إن مكَّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونَهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}(الآية 41)، والذي سبقته آية النصر والمؤازرة الغيبية له {ولينصرنَّ الله من ينصره إن الله لقويّ عزيز}(الآية 40)، وفي هذا أكثر من مغزى.

   وعناصر التمكين هذه التي تمثّل برنامج التسيير والتنـزيل في خطوطه العريضة، تُشكّل أيضاً عناصر مرحلة ما قبل التمكين، أي برنامج الأمة ومشروعها الذي تنادي به وتجتمع عليه. يقول محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير) ما نصّه: ((فأما إقامة الصلاة فلدلالتها على القيام بالدين وتجديد لمفعوله في النفوس، وأما إيتاء الزكاة فهو ليكون أفراد الأمة متقاربين في نظام معاشهم، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلتنفيذ قوانين الإسلام بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم)).

   وعندما يُصبح برنامج هذا اللقاء الإسلامي خطوطاً عريضة وواضحة فإنه يمكن له أن يؤلِّف ويجمع، {وألَّف بين قلوبهم لو أنفقتَ ما في الأرض جميعاً ما ألَّفت بين قلوبهم ولكن الله ألَّف بينهم إنه عزيز حكيم}(الأنفال: 63). فهل يرفض التبليغي الأمر بالمعروف ؟ وهل يخالف الصوفي النهي عن المنكر ؟ وهل يعترض الأزهري على إيتاء الزكاة ؟ وهل يعاند خطيب الجمعة على إقامة الصلاة ؟

   ليس اعتباطاً أن كانت دعوات الأنبياء خُطوطاً عريضة وميسَّرة في السياسة والاقتصاد والاجتماع حتى تجمّع الناس حولها. وهذه الخطوط العريضة لا تلغي الجانب التفصيلي والتجزيئي، ولكن هذا يمثّل محطة أخرى ومرحلة ما بعد التمكين. فعلى الحركة الإسلامية حينئذ أن تبيّن أن الرّبا من المنكر وتأتي بالمعروف بديلاً، وأن الخمر والزّنا والغش والرشاوى رذيلة، وتأتي بالفضيلة بديلا، وهذا ليس صعباً في تنـزيله ولا يواجه الأمة، بل يمثّل توضيحاً لخطوط سابقة تبنتها واصطحبتها. فهي صاحبة المشروع، وتعلم بوعيها التقاء هذا الجزئي بالكلي، غير أنها تطلب تمكينها من البديل الشرعي.

   ووجود هذا اللقاء الإسلامي الحامل للمشروع الإسلامي في خطوطه العريضة، لا يلغي الاختلاف في الجزئي والتفصيلي، والذي يمكن أن تحمله داخل الفضاء الإسلامي مجموعات وأطراف، لكن من دون المساس بالأصل الجامع تنظيماً وخطاباً. ولعل الآية الكريمة {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}(الحجرات: 9)، تؤكد إمكانية وجود التعارض بين أصحاب المشروع الإسلامي داخل الفضاء الإسلامي، فالباغية منهم، والباغية عليها منهم، والمصلح منهم. وهو ليس عيباً، ولكن لا يُقبل التعارض في حالة الصِّدام، ولا نرى صِداماً أقوى في حالتنا الآن من التَّشرذم والتشتّت والتقوقع والانكسار، ومواجهة مجموعة للأخرى، بدعوى وجود السياسي أو غيابه، أو أولوية الروحاني أو تهميشه. فالتعارض المقبول شرعاً والمفهوم عقلاً والآخذ بأسباب النجاح وسنن الاستخلاف، يكون داخل رباعية التمكين (إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وليس خارجه.

   وقد أرادت الحركة الإسلامية أن تكون طرفاً في الصراع، وذلك حسب فهمها واعتبارها من قصص الأنبياء ودعواتهم. حيث كان الرسول (ص) وأتباعه، الذين غالباً ما كانوا أقلية، يواجهون مجتمعاتهم بأفكارهم الجديدة ويتصدّون لبَغيها. وكان النصر دائماً حليفهم {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}(يوسف: 21)، لأن يد الغيب راعية، والهدف هو الشهادة، وإقامة الحجّة والبرهان على هذه الأقوام، وتأكيد عدل الله فيهم.

   غير أن اليوم ليس بالبارحة، ومشروع الحركة الإسلامية لا يتنـزل في مجتمع كافر وجاهلي لا يعرف الله ويُشرك بعبادته، بل في أمة زاغ بعضها، ونافق بعضها، وخاف بعضها، وآمن الكثير منها. ولذلك ليست دعوتها نسخة لدعوة الرسل، لاختلاف الإطار مع وحدة الهدف. فهذا ليس مواجهة بين الكفر والإيمان، وفصلا بين الأمة والكفار، فالأمة الإسلامية هي جزء من الأمة المدنية التي تجمع كل الأطراف من عقائدية وسياسية متنوعة. فالقومي جزء من هذه الأمة المدنية، وكذلك الليبرالي واليهودي والمسيحي، ولكل طرف الحق في التعبير عن آرائه في تسيير هذه الأمة. ويمكن الرجوع في ذلك موقف الرسول (ص) من الأنصار واليهود المقيمين، والمهاجرين الوافدين فيما اصطلح عليه بدستور المدينة. ولم تقع مواجهة بين الأمة الإسلامية والأمة المدنية، حتى نكث أحد أطراف هذه الأخيرة المعاهدة. لذلك فلن يُسحب البساط ممن لا يجد نفسه ممثلاً في عناصر التمكين الأربعة وله أن ينادي بما يريد في إطار هذه الأمة المدنية، التي تحميها قوانين وتعهدات وخطوط حمراء. والإسلام يستبشر بمن رضي دعوته ويقبل التعايش مع من رفضها {فإن تولّوا فقُل حَسبي الله لا إله إلاّ هو عليه توكَّلت وهو ربُّ العرش العظيم}(التوبة: 129). وهذا ما شاهدناه في الصدر الأول من الإسلام، ففي وصية الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، ((وأَشْعِر قلبك الرحمة على للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم (...) فإنهم صنفان: إما أخٌ لك في الدِّين، أو نظير لك في الخَلْق)).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

باحث في الفلسفة الإسلامية والفكر العربي، من الكويت.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية -الأربعاء 9/تشرين الثاني/2005 -  6/شوال/1426