دراسة تحليلية في منهجية السيدة زينب(ع)

(2-2)

الدكتور عصام عباس

ثالثا: الجانب التربوي

إن في منهجية السيدة زينب جانبا تربويا هاما، حيث اهتمت بتربية النفس في أحلك الظروف وأصعب الأوقات بأشكالها المختلفة رغم أنها كانت في حالة أسر وسبي مضن، وبعد قتل أخيها الإمام الحسين وإخوتها وأهل بيتها وحرق خيامهم وممارسة أزلام الجيش المعادي كافة أنواع التعذيب والقهر النفسي والجسدي لإذلالها صمدت السيدة زينب(ع) وثبتت على حالة جهادية ممتثلة لأمر الباري عز وجل إضافة لما تمتلكه من قوة إيمانية وتربية نبوية فرضت عليها مخاطبة الظروف والأشخاص بأسلوب علاجي لتنفع به الأجيال القادمة ولتقدم بذلك صورا ناصعة بكيفية التعامل مع الذين باعوا ضمائرهم بأبخس الأثمان ومن أغرتهم مظاهر ترف الحياة الدنيا الزائلة ونسوا الآخرة وهم الذين باعوا آخرتهم بدنياهم وقبلوا بالباطل دون الحق وغيروا المفاهيم الكونية وساروا بركب الضلال طمعا وخوفا دون حساب لقوة الخالق الذي إن أراد أمرا أن يقول له كن فيكون، فتعاملت مع الحدث بروية وعلم ومعرفة ودراية دون أن تكترث لمظاهر الظلم والجور وأنواع العنف فقابلت الباطل بأصالتها القرآنية وتربيتها المحمدية وبلاغتها العلوية وشجاعتها الطالبية. واستمرارية لمنهجية النهضة الحسينية كانت إدارتها للمعركة الإعلامية التي قادتها بتأييد إلهي وتدبير رباني بصلابة وتحد وإصرار على رفع كلمة الله ودحض كلمة الباطل، فاستخدمت أسلوبا تربويا خاصا لكل نوع من أنواع النفسيات التي مرت بها خلال فترة السبي ليكون ذلك عبرة تسير من خلالها الأمم في بناء مجتمعاتها والحفاظ على كرامتها وعزتها ودحض الشر والانتقام من الظلم ودفعه، لا بل وكيفية رفع الظلم عن المجتمع ومحاسبة مقترفيه وهم على سدة الحكم وحفظ كرامة الإنسان مهما بلغ الظلم من بغي واستكبار وعنجهية:

تربية النفس الأمارة:

الحديث مع عمر بن سعد: بعد قتل الإمام الحسين(ع) لم يبق قائد يقود الأمة روحيا وإيمانيا سوى بضعة النبي وسليلة الوصي ونبعة الزهراء وشقيقة الإمامين سبطي رسول الله الحسن والحسين لأسباب عدة منها استشهاد الإمام القائد الحسين(ع) وقبل ذلك أن الله عز وجل خصها بهذه المهمة منذ النشأة ونزل الأمين جبرائيل(ع) يوم ولادتها في 5جمادى الأولى من السنة الخامسة للهجرة على النبي وأخبره بذلك وأخبر النبي وصيه الإمام علي وابنته الزهراء والإمام بدوره أخبر الصحابة بالأمر وهذا موضوع أوضحته الدكتورة عائشة بنت الشاطئ في كتابها (السيدة زينب عقيلة بني هاشم) ورواه الإمام أحمد في مسنده (ج1، ص85) فتنصيب الله عز وجل السيدة زينب لهذا الدور القيادي بعد استشهاد الإمام الحسين هو أمر إلهي أولا، يضاف لذلك مرض الإمام زين العابدين حيث اضطلعت السيدة زينب(ع)بالمهمة العظمى في حماية رمز الإمامة من أيادي المجرمين السفاحين حكام الضلالة والردة... وعند تسلم السيدة زينب مهام قيادة الأمة بعد استشهاد الإمام الحسين(ع) نزلت إلى ساحة المعركة وجلست إلى جسد الحسين تخاطب الله عز وجل بصبر وإيمان لا يفوقه صبر بعد أن وضعت يديها الشريفتين تحت جسد الحسين فرفعت الجسد مخاطبة الله تعالى: (إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى).. ومخاطبة جدها رسول الله (يا جداه يا رسول الله صلى عليك مليك السماء، هذا حسين بالعراء مقطع الأعضاء مسلوب العمامة والرداء وبناتك سبايا....) وبينما هي في هذه الحال كان عمر بن سعد يحوم حولها وحول جسد الحسين يهم في حز رأس الحسين ليقدمه لقادته كي ينال رضاهم بغضب الله فالتفتت إليه السيدة زينب مخاطبة (أي عمر... ويحك، أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه) فبكى وخضبت لحيته بالدموع. إن معالجة النفس الأمارة عند السيدة زينب(ع) كانت وفق الحالة، فعمر بن سعد من الذين حضروا مجالس الإمام علي(ع) ورغم أنها على علم بقرار هذا المرتد في إقدامه على فعلته ولكنها علمت الأمة من خلال هذا الحديث كيفية التهذيب بالتأنيب لنفوس عاشت عمرا بمجالس الوعظ والإرشاد ولكنها لم تشبع من الملذات فأزلها الشيطان إلى تفضيل فتات الدنيا على نعم الآخرة.

و الحديث مع عبيد الله بن زياد: نوع آخر من أنواع علاج النفس الأمارة من حيث عبودية ابن زياد المطلقة لعبد لا يملك نفعا ولا ضرا كيزيد بن معاوية وهنا لا يوجد شيء يذكر به إنما اتخذت السيدة زينب(ع) طريق التوعية والتأديب في مخاطبتها ونهرها واستخفافها بقدره رغم تسلطه واستهتاره وغطرسته، حيث كانت لبوة تمكنت من فريستها حين أجابت بن زياد على شماتته بهم قائلة:

(الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه وطهرنا من الرجس تطهيرا، إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، فما رأيت إلا جميلا، هؤلاء قوم كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ، ثكلتك أمك يا ابن مرجانة).

هذا التأديب والاستخفاف والإهانة التي وجهتها السيدة زينب(ع) لعبيد الله بن زياد هي بمثابة علاج نفسي لنفس مريضة أمارة بالسوء تشبع نقصها وماضيها الأسود فابن زياد فريد بنسبه الذي ينظر إليه بالشك، وإذا سلمنا بصحة نسبه إلى زياد بن أبيه، فإن كلمة (أبيه) لوحدها تكفي لنسف أي مفاخرة نسبية بينه وبين أي عربي آخر، فما بالك بالهاشميين؟ فالعقد النفسية التي يحملها مكنته من التجرؤ على ابن بنت رسول الله، ويزيد أرسله بهذه المهمة لعدم حصوله على قائد جيش يواجه به حفيد النبي لسقوطه وانحداره.. فجلف كهذا منحدر من أصل كهذا يعول عليه بمهمات كهذه... والسيدة زينب(ع) لعلو قدرها وعظمة شرفها ونسبها وقفت صامدة أمام هذا المنحرف رغم سلطته وإمارته وعنجهيته وجهالته المركبة وبينت له وللعالم أجمع الأعراض التي سببت مرضه والأسباب التي مهدت الطريق لاستشراء هذا المرض وبالتالي المعالجة لمثل هذه النفسية وذلك بالترفع عن محادثته وعند ردها كان الرد بالإهانة والنهر والاستخفاف والتوعية وإزهاق حالة النصر المزيف بالوعيد بقضاء الله وعقابه المحتوم عاجلا أم آجلا.

تربية النفس اللوامة:

الحديث مع أهل الكوفة ذوي النفوس المتخاذلة التي أرسلت برسائل البيعة للإمام الحسين ولكن إرهاب السلطة دعاهم إلى خيانة الإمام وخذلانه وقد ذكرنا كلامها مع أهل الكوفة وضرورة تأديب المجتمع الكوفي المحب لأهل البيت والمتردد في نصرتهم خوفا من البطش وهذان أمران متناقضان بل ازدواجية مرضية، فالحب طبيعة تمتلكها كافة المخلوقات يدافع عنها بغريزة وفطرة ولا يمكن لأحد انتزاعها مهما كان الثمن، لكن تفهم هؤلاء القوم لحب أهل البيت كان بالفطرة، وعندما سيطرت السلطة عليهم بالترهيب تارة والترغيب والوعود تارة أخرى وضعوا الأمر على كفتي ميزان إما الدنيا وزهوها أو الآخرة ووعودها فصاحب النظر القصير (وكان أغلب المجتمع وقتها) رجح الدنيا وكأن الدنيا تدوم لصاحبها فوقف بوجه الحسين وناصر معسكر البغي والانحراف الذي سرعان ما خذلهم فبكوا على خيبتهم وسوء صنعهم ولاموا أنفسهم على فعلتهم الشنعاء، ولكن ماذا ينفع الندم؟ فكان التوبيخ الزينبي الشديد والتذكير بالماضي المظلم وبالأخلاق السلبية التي يحملونها من صلف وكذب وذلة وغمز للأعداء وبما ينتظرهم في الدنيا من نتائج سخط الله عليهم ولعذاب الآخرة أشد وأشقى وخلود دائم في ذاك العذاب، كأن بيانها الأول كان تأديبا وتحذيرا ليس لأهل الكوفة في ذلك الوقت بل للأجيال القادمة، فتعاقبت من ذاك البيان أجيال ملؤها الولاء المطلق لأهل البيت والاهتمام بنشر فكرهم في كافة أرجاء المعمورة على مدى العصور درسا يتداولونه كل عام ويتذكرون فيه الألم والعناء الذي واجه أهل البيت ويلعنون بملء أفواههم من خذل أهل البيت وتهاون عن نصرتهم، واستمروا على ذلك جيلا بعد جيل رغم كل الظروف القاهرة وأشكال العنف الذي مورس عليهم من السلطات الجائرة لتتجدد واقعة كربلاء كل عام كي لا تنسى، فالخطاب الزينبي يحضرهم كل حين وصدى الصوت الزينبي يجلجل في مسامعهم دائما. نعم كان صوت زينب صحوة للوجدان وتربية للنفوس المتعبة لأن زينب(ع) كانت بهيبتها الإلهية وبهاءاتها المحمدية وشجاعتها العلوية تحمل بثبات جأش نفسا مطمئنة راضية مرضية كلماتها بطاعة الله وخطواتها لرضا الله تلمس الجرح فيرقأ وتهمس الداء فيبرأ بإذن الله عز وجل.

تربية نفسية الحاكم المتغطرس:

الحديث مع يزيد كان نوعا أخرا من تربية النفوس التي أتعبها الحقد والبغض المتوارث والكراهية لبهاء محمد ونوره الذي أشرق على ظلام الجاهلية فأنارها بضياء الإسلام واعتمد على مبدأ الرحمة والخلق العظيم والحوار البنَّاء وتجنب السيطرة والهيمنة والإكراه، فتحول حال الأمة من حال القهر والعبودية والتسلط إلى حال الديمقراطية والتحرر من العبودية لغير الله وهذا هو قوام الحرية الحقيقية التي تنشدها الأمم. فمن أحقاد الجاهلية تربع يزيد بالسيف والقهر على منبر غايته الارتداد المتعمد عن دين سيدنا محمد والعودة إلى الجاهلية الأولى وفرض نظام التسلط والهيمنة والفجور والعبث بالقوة والإذلال النفسي للمجتمع الذي تأقلم مع حضارة الإسلام المنفتحة والمحبة لكل الناس والتي اعتمدت المبدأ الرباني بأن (لا إكراه في الدين)، فواجهت السيدة زينب غطرسة وعنجهية وتمرد وجهالة يزيد بحكمة النبي وشجاعة الوصي وحلم الزهراء متحدية بقول الحق ومواجهة بكلام الله الذي اعتمدته مبدأ أساسيا في المعالجات المختلفة لأصحاب النفوس المريضة حين سمعت يزيدا يردد شعرا يفتخر فيه بما فعل،فوقفت السيدة زينب دون أن تطلب الإذن بالكلام فحمدت الله وصلت على الرسول وآله وقالت:

(صدق الله سبحانه حيث يقول: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُواْ السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهزِؤون}. أظننت يا يزيد، حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى. أنّ بنا على الله هواناً، وبك عليه كرامة؟ وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده؟ فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، لا تطش جهلا).

وهنا افتتحت خطابها بكلام الله عز وجل بتذكير المُخاطَبْ ومكاشفته بما يحمل في أعماقه من تكذيب بآيات الله وعدم اعتراف بأقوال الله عز وجل واستهزاء بها حيث قال (لا خبر جاء ولا وحي نزل)، ثم وضعته بحقيقة قراراته التي ترفضها جملة وتفصيلا كحالة الأسر التي مروا بها (فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى) وإعلامه بأن ما تمكن من القيام به ليس تكريما له من الله تعالى حتى يصبح في حالة من السرور ويمكنه من التربع على عرش جدها رسول الله، فحذار من جهالتك قالت له وذكرته بقول الله تعالى{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِين}. فهي تخاطب يزيد معلنةً أنّ هذه الدولة شيدها جدها رسول الله وبنيت على تضحيات آل بيته بالدرجة الأولى (وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا) فأهل البيت هم قادة هذه الأمة وهم الأولى بالسلطة والحكم. ثم انتقلت إلى ناحية أخرى مذكرة بتفضيل أهل البيت لأن لأهل البيت فضل عظيم على يزيد بالذات، الذي كان أبوه وجدّه وأهله هم طلقاء عفو النبي(ص) عند فتح مكة لذلك خاطبته «أمن العدل يا ابن الطلقاء». فلم يتمكن يزيد من الرد والتفوه بحرف واحد، ثم استمرت السيدة زينب بخطابها وتأنيب الطاغية يزيد وتذكيره بماضيه غير المشرف فأعماله ما هي إلا استمرار لسلوكيات أسلافه المشركين والمنافقين، وذكرته السيدة زينب بجدّته (هند) أم معاوية والتي قادت حملة لقتال رسول الله والمسلمين، وأغرت وحشي بقتل الحمزة عمّ رسول الله، ثمّ مثّلت بجسده وانتزعت كبده، وحاولت مضغها، إظهارا لحقدها وبغضها لرسول الله (ص)، ولذلك لا تستغرب اعتداءات يزيد على أهل البيت(ع) لأنها جاءت امتدادا لمنهجية العداء للنبي الأعظم وللرسالة التي جاء بها فتقول(ع): (وكيف يرتجى من لفظ فوه أكباد الأزكياء)،وتوعدته بمصير أسلافه(جده وخاله) وأنّه لاحق بهم في نار جهنم حين قالت:

(أمن العدل ياابن الطلقاء ؟ تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا؟ وكيف يرتجى من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء؟ وتهتف بأشياخك، زعمت أنّك تناديهم، فلتردنّ وشيكاً موردهم، ولتودّنّ أنّك شللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت).

هذه روح القائدة السلطانة أمام الحاكم المتغطرس المتجبّر، في صرخاتها التأديبية لعنجهية ذاك الحاكم وداعية عليه: (اللهم خذ لنا بحقّنا،وانتقم ممّن ظلمنا، واحلل غضبك بمن سفكَ دماءنا وقتل حماتنا). وتتحدّاه قائلة: (فوالله ما فريت إلاّ جلدك، ولا حززت إلاّ لحمك، ولتردنّ على رسول الله، بما تحمّلت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في ذريته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلمّ شعثهم، ويأخذ بحقّهم: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبيلِ الل‍ه أَموْاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهمْ يُرْزَقُونَ}،وحسبك بالله حاكماً، وبمحمد خصيماً وبجبرائيل ظهيراً،وسيعلم من سوّل لك، ومكّنك من رقاب المسلمين {بِئْسَ لِلظَّالِمينَ بَدَلاً} أيّكم {شَرٌّ مَكانَاً وأَضْعَفُ جُنداً}).

وبصراحة أكثر تبدي احتقارها له، وأنها أكبر وارفع من أن تكلّمه أو تخاطبه، لولا ما فرضته عليها الظروف القاهرة فتقول:

(ولئن جرّت عليَّ الدَّواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكنّ العيون عبرى، والصّدور حرّى! ألا فالعجب كلّ العجب، لقتل حزب الله النّجباء بحزب الشيطان الطلقاء!! فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطّواهر الزواكي، تنتابها العواسل وتعفّرها أمهات الفراعل!! ولئن اتّخذتنا مغنماً، لتجدنّا وشيكاً مغرما، حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك، وما ربّك بظلام للعبيد، وإلى الله المشتكى وعليه المعوّل).

إن رهان السيدة زينب على النصر، وثقتها بالظّفر الحقيقي، لم يكن بحدود دنيا الفناء، بل تتطلّع نحو الآخرة، حيث هناك عدالة الله، وأن العاقبة للمتّقين، والخزي والعار ولظى النار مقر الظالمين. لقد تحدت يزيد في أنه لن يتمكّن من تحقيق هدفه بطمس منهج أهل البيت، مهما استخدم من قدرات: (فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها). فمنهج أهل البيت يمثّل الحقّ والعدل، ويجسّد الوحي الإلهي، وسوف يبقى الخلق متطلّعا لإحقاق الحق وتدمير الباطل وهنا تكرر تحدّيها للسلطان الجائر وتنسف القائدة الحكيمة زينب أوهامه، وتسفّه أحلامه، وتقرّر أمام مجلسه الحاشد، أنّه قد تلطّخ بوحل الهزيمة النكراء، وسقط في أسفل درك الهوان، وإن تظاهر بالنصر وتراءى له الظفر، كما تظهر أميرة المؤمنين زينب(ع) سخريتها واحتقارها لمظاهر القوة التي أحاط بها يزيد نفسه قائلة:(وهل رأيك إلاّ فند؟ وأيّامك إلاّ عدد؟ وجمعك إلاّ بدد؟. يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين). فعندما تتفحص كلمات السيدة زينب الموجهة إلى يزيد ستجد في عباراتها وصفات العلاج الدوائي والجراحي للحاكم المقهور والذي لا حول له ولا قوة أمام قوة الله التي تلبست روح وجوارح زينب القائدة المنتصرة في جولاتها المظفرة بحول وقوة الله،كما سوف ترى من هو القائد الحقيقي في الدولة، فمعلوم أن القائد هو الراعي وكلامه توجيه يجب أن تذعن له الرعية، وهذا حال قائدة الأمة زينب المقدسة يوم لم يبق قائد بعد استشهاد أخيها الإمام الحسين(ع).

تربية الطفل المضطهد:

واستكمالا لبحث الجانب التربوي لمنهجية السيدة زينب(ع) لابد من المرور بمصداقية الإيثار في هذا الجانب فقد كانت تمنح الأطفال حصتها من الطعام لأن قسوة الجيش الذي رافقهم من الكوفة إلى دمشق كانت في منتهى الصلف والجلف لأجل إذلال السيدة زينب وتحطيم معنوياتها، فلدى مرور موكبها بإحدى المناطق تصدّق الناس على الأطفال بأرغفة من الخبز، هنا توجهت القائدة زينب إلى موعظة الأطفال بقولها: (إن الصدقة حرام علينا أهل البيت) فامتنع الأطفال من تناولها، وهم في حالة أسر وقهر وعناء وجوع وعطش، وهذا درس يجب أن يتفهمه كل من ينتسب إلى البيت المحمدي بأن يكون سليل هذا البيت عاملا منتجا ومثلا أعلى يقتدي به الناس في الكد والإنتاج كما كان الرسول الأكرم والوصي المعظم وبضعة النبي فاطمة الزهراء وأهل بيتهم(ع)، لا أن يرتدي عمامة السيادة مسترزقا بها، ويصبح عالة على المجتمع على أنه (سيّد) أو ما شابه ذلك. (فالسيّد) صفة عراقة وشرف نسب وعظمة خلق وإباء نفس تعمل لتكسب وتكدح لتعيش بكرامة وإباء وعزة وشرف يتناسب وعراقة هذه السيادة، وغير ذلك فلا. وينقل الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (ج4، ص35) قولا للنبي روته السيدة زينب (ع): (إنا أهل بيت نهينا عن الصدقة وإن موالينا من أنفسنا فلا تأكل الصدقة) وكان الحديث عن مولى للنبي (ص) وهنا يجب التوقف عند هذا الحديث والتمعن في مضمونه وأن لا يمر به مرورا عابرا... فكثير من محبي أهل البيت ومواليهم يقولون (نحن خدام أهل البيت) وحتى إن بعضهم أسسوا مؤسسات وجمعيات ورابطات سميت بهذه التسمية (خَدَمَة أهل البيت وما شابه)، فخدمة أهل البيت يجب أن تكون خالصة لوجه الله تعالى ولا ينتظر أن ينال أجرها إلا من الله عز وجل بعيدا عن طرق التسول وجمع الأموال بطرق مختلفة وأساليب شتى لأجل هذه الخدمة والترزق من هذا الباب بطرق مبتدعة، فتجنب ذلك نهى عنه الرسول ليس على أهل البيت بل على مواليهم (خَدَمَتِهِمْ) لأنهم من أنفسهم وماذا يريد الموالي أكثر من هذا التقدير النبوي فهذا رزق لا يفوقه رزق.

فتربية النفوس كانت درسا رئيسيا في منهجية السيدة زينب(ع) بأحلك الظروف وأصعب الأوقات لأجل بناء مجتمع خال من الظلم والقهر والاستبداد والعنف والذل.

رابعا: الجانب التثقيفي

أولت السيدة زينب (ع) الجانب الثقافي للمرأة ركنا مهما في منهجيتها فبالعلم تميز الإنسان على سائر المخلوقات {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}،و(العلم رأس الخير كلّه) كما يقول الرسول الأعظم (ص)، فالعلم إذن ساحة تنافس بين بني البشر، يتقدم فيها صاحب العلم الأوفر، والمرأة معنية بهذا التنافس العلمي، ولا تقل قيمتها عن الرجل فكان من وصايا النبي الأعظم(ص): (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) وبذا يصبح طلب العلم وتلقي المعرفة من الواجبات الشرعية على المرأة لكنّ ظروف التخلّف هي التي جعلت المرأة عندنا أسيرة الجهل فحرمت الكثيرات من تأدية هذا الواجب، وما الجهل المتعمد في أوساط نسائنا اليوم إلا دليل واضح على الانحراف المقصود عن سيرة النبي ومنهجية أهل البيت واعتناق الجاهلية من غير قصد واعتبار المرأة دمية بيت لا يمكنها التحرك أو إبداء الرأي أو التعلم أو الظهور، وتغطية وجهها لأنه عورة وصوتها عورة مفاهيم دحضها المولى عز وجل بحقوق المرأة المتعددة الواردة في القرآن وبالسنن كوجوب إظهار الوجه والكفين أثناء الطواف حول الكعبة عند أداء فريضة الحج وبذاك الزحام الكبير ولا يجوز أن يكون لها طريق مختلف عن طريق الرجل في الطواف، فثقافة الروح كان من الأمور الملزمة للرجل والمرأة في تفهم شخصية المرأة وحقوقها، وأية قراءة متعمقة في شخصية السيدة زينب تمنحنا دافعا لتجاوز هذا الواقع السلبي، فكان اهتمام السيدة زينب منذ مرحلة الطفولة بتلقي العلم والمعرفة واضحا لدى قراءة مسيرتها المباركة فقد روت خطبة أمها الزهراء حول فدك وهي في السادسة من العمر ورواها عنها حبر الأمة كما أشار الإمام أحمد بن حنبل وابن أبي الحديد المعتزلي وغيرهم، والخطبة الفاطمية هذه خطبة هامة وطويلة ومفصلة وروت أيضاً عن أبيها علي وعن أخويها الحسن والحسين،ولم تحتكر السيدة زينب العلم لذاتها، بل أفاضت من علمها ومعرفتها على أبناء الأمة، فكانت تتحدّث لا للنساء فحسب بل حدّثت العديد من رجالات بيتها وسائر الأصحاب والتابعين. كما كانت مهتمّةً بتعليم النساء وتثقيفهنّ ضمن مجالسها العلمية وهذا ما ظهر في أيام خلافة أبيها الإمام علي(ع) في الكوفة فقد أسست أول مؤسسة علمية ثقافية لتعليم المرأة في الكوفة بين عام 35-40للهجرة تعلم فيها تفسير القران والحديث وتوجيهات الخليفة وتعتبر هذه المؤسسة هي الأولى في صدر الدولة الإسلامية لأن المرأة نواة المجتمع لا زينة وتحفة يجب تخبئتها والمرأة أساس إصلاح المجتمع لذا كان الاعتماد الرباني في نهضة إصلاح الأمة على اجتماع الرجل (الحسين) والمرأة (زينب) فكان أحدهما رديف الأخر في الإصلاح. ومن يقول: (إن هذه زينب وليست كبقية النساء) فهذا أمر صحيح ولكن هدف المسيرة الزينبية وحرصها هو أن تكون كل امرأة صالحة هي زينب، ألم نقرأ قول الله عز وجل (عبدي أطعني تكن مثلي أو مثلي تقل للشيء كن فيكون) فالطاعة هي بالامتثال للمراسيم الربانية وبذلك سوف يصبح العبد في طاعة مطلقة لا تشوب منهجيته أي شائبة وتصفى سرائره ونواياه فتدخل فيه روح الله التي تقول للشيء كن فيكون وهذا ما حصل للسيدة زينب(ع) وإلا كيف تمكن صوتها من إخراس قادة الظلم والجهالة الذين لا يفقهون إلا القتل والترويع في إذلال مناوئيهم واعتماد التدمير والفسق والفجور منهجية لسياساتهم، لولا أن روح الله دخلت زينب فأخرست الظالم وانصاع لأمرها وحديثها، وأحدث خطابها صحوة في ضمائر كبار الحاضرين كممثل ملك الروم الذي فزع وأبدى انزعاجه قائلاً: (إنّ عندنا في بعض الجزائر كنيسة فيها حافر حمار عيسى، ونحن نحجّ إليه كل عام من الأقطار، وننذر له النذور، ونعظّمه كما تعظّمون كعبتكم، فأشهد أنكم على باطل) (ينابيع المودة: ج3ص29)،وروي أنه كان في مجلس يزيد هذا حبر من أحبار اليهود فقال: (من هذا الغلام يا أمير المؤمنين؟) قال: (هو علي بن الحسين)، قال: (فمن الحسين؟) قال: (ابن علي بن أبي طالب)، قال: (فمن أمه؟) قال: (أمه فاطمة بنت محمد)، فقال الحبر: (يا سبحان الله ! فهذا ابن بنت نبيكم قتلتموه في هذه السرعة؟ بئسما خلفتموه في ذريته والله لو ترك فينا موسى بن عمران سبطا من صلبه لظننا أنا كنا نعبده من دون ربنا وأنتم إنما فارقكم نبيكم بالأمس، فوثبتم على ابنه فقتلتموه؟ سوأة لكم من أمة)،فأمر به يزيد فوجئ في حلقه ثلاثا، فقام الحبر وهو يقول: (إن شئتم فاضربوني، وإن شئتم فاقتلوني أو فذروني فإني أجد في التوراة أن من قتل ذرية نبي لا يزال ملعونا أبدا ما بقي، فإذا مات يصليه الله نار جهنم)(بحار الأنوار: ج54 ص139)، وممّن أظهر استنكاره وإدانته لما حدث، الزعيم الديني لليهود (رأس الجالوت) فقد قال: (إن بيني وبين أبي داود سبعين أبا وإن اليهود إذا رأوني عظموني وعرفوا حقي وأنتم ليس بينكم وبين نبيكم إلا أب واحد قتلتم ابنه!) (جواهر المطالب لابن الدمشقي: ج2ص274)، ومن داخل الأسرة الأموية كان السخط والاستنكار، فابنة يزيد عاتكة، بادرت إلى رأس الإمام فطيّبته، وندبت الحسين(ع)،أما معاوية بن يزيد، فموقفه واضح، إذ رفض حتى تولّي الخلافة بعد أبيه يزيد، وأعلن تنديده بسياسات أبيه وجدّه. وهند زوجة يزيد ، لم تستطع كتمان ألمها واعتراضها فتقنّعت بثوبها وخرجت، فقالت: (يا أمير المؤمنين أرأس الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله؟). قال: (نعم، فاعولي عليه، وحدّي على ابن رسول الله، عجلّ عليه ابن زياد فقتله قتله الله) (تاريخ الطبري: ج4ص356). هذا الاستنكار من مختلف الأوساط، أظهر ليزيد فشل سياسته وتخطيطه، وجعله يتمنّى لو لم يقدم على قتل الحسين.

إذاً بإمكان المرأة أن تغير المفاهيم وتقلب الموازين لو عرفت قدرها وصححت مسيرتها وانتهجت منهج الصالحين، وتصبح في سدة القيادة كما كانت زينب المقدسة قائدة الجماهير بعظمتها وصدقها وعفتها ومهابتها وإيمانها.

ويروي الصدوق من أنّه كانت لزينب نيابة خاصّة عن الإمام الحسين (ع) بعد شهادته، وكان الناس يرجعون إليها في الحلال والحرام، حتى برؤ الإمام زين العابدين. وشهادة الإمام المعصوم زين العابدين بحقها خير دليل لرفعة درجة علمها حيث قال لها: (أنت بحمد الله عالمة غير معلّمة وفهمة غير مفهّمة). وكذلك حبر الأمة روى عن السيدة زينب وقال: (حدثتني عقيلتنا زينب بنت علي) فذلك يدل على علو مكانتها العلمية والمعرفية.

فالجانب التثقيفي والتعليمي كان بارزا في منهجية السيدة زينب ومسيرتها المظفرة التي أرادت من خلاله إجهاض الجهل في المجتمع وتخليصه من رواسب الجاهلية التي ابتلي بها نتيجة تلك الإفرازات التي فرضت عليه بغضا وحقدا وكراهية، إلى جانب تزويد الإنسان بثقافة الديمقراطية الملتزمة بتعاليم الله وقوانينه.

خامسا: الجانب الإصلاحي

مما سبق يمكننا معرفة وتعريف الإصلاح الذي قامت به السيدة زينب (ع) في بناء شخصية الإنسان على أساس متين في بناء العزة والكرامة ومواجهة هدم النفوس وقهرها عن طريق الارتباط المباشر بالله تعالى وعدم الاكتراث لعنجهية الأفراد أيا كانوا وحيثما وجدوا، فالعبد المرتبط بربه حقا لا يرى قيمة لأية ظلامة يواجهها لأنه يمتلك الحرية التي لا يمتلكها أي كان حتى لو كان ظالمه في سدة السلطة وتحت أي حصانة، فحصانة الله تعالى لا تفوقها أي حصانة ولا تقتحمها أكبر القوى وأعتاها.

سادسا: الجانب المأساوي

طرح المأساة في فكر السيدة زينب هو لأجل بذر النقمة على الظلم والقهر والاستبداد، وتأمين حتمية النهوض لإبعاده والقضاء عليه، ومحاسبة مقترفيه ومؤيديه والمتعامين عنه بجهل أو تجاهل لتكون عاملا أساسيا في تحريك التاريخ وتوليد طاقة التغيير اللازمة لإزاحة الواقع المعادي للإنسان. إن الجانب المأساوي لا يتمثل بأن نتذكر ما جرى على أهل البيت من ظلامات ونبكيهم كما بكاهم أهل الكوفة ندما أو استغفارا، فثقافة البكاء أسسها أهل الكوفة بعد خيانتهم لسبط رسول الله وتخليهم عن نصرته، والبكاء كما أوردنا كان في بيت يزيد ندما وحسرة على ما اقترفت أيدي يزيد وأزلامه فبكته وندبته حسرة وألما بنت يزيد (عاتكة) وزوجته (هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز) وأول مجلس عزاء على الحسين أقيم في قصر يزيد بدمشق. فالسيدة زينب وعيالات الحسين استمدوا من وصية الإمام الحسين منهجا وصلابة وصبرا وطاعة، فالإمام جمع السيدة زينب والنساء ليلة عاشوراء وقال لهم: (يا أختاه يا أم كلثوم يا فاطمة يا رباب انظرن إذا قتلت فلا تشققن عليّ جيبا ولا تخمشن وجها ولا تقلن هجرا). لذلك اعتمدت السيدة زينب (ع) في طرح المأساة أسلوبا غايته اجتثاث الظلم والقهر والاستبداد، والقضاء عليه، ومحاسبة مقترفيه ومؤيديه والمتعامين عنه بجهل أو تجاهل فأسست ثقافة المواجهة بتعرية الظالم وبذر النقمة على الظلم وتهيئة العوامل الأساسية وأسس إزاحة الواقع المعادي للإنسان على مدى الأجيال ليحمل الإنسان على مر الدهور حرية الرأي وعدم الهيمنة والتسلط واستعمال السلطة لأجل القهر والعبودية وشراء الذمم والقبول بالأمر الواقع، وعمدت بمنهجيتها على إحقاق الحق وإزهاق الباطل وفق أسس ومبادئ التعاليم السماوية التي جذبت قناعة كل من عرف واستمع من بني الإنسان مهما كان معتقده. فالمواجهة الزينبية إرادة سماوية شاء الله أن يراها بشكل السبي (وهنا الإنسان في أضعف حالاته) لكن السبي عند المؤمنين حقا بالله لا يزيدهم إلا قوة بحول الله وقوته وعزما بتغيير الموازين وإرساء سلطة الحق على الأرض واقتلاع فكر الباطل ليبقى الإنسان حرا بفطرته ناجحا في مسيرته ملتزما بالقيم العليا بإخلاص عبوديته لله وحده، وهذا هو فكر الإسلام الحق بوحدانية الله لا شريك له ولا عديل ولا تغيير لأمره ولا تبديل، وأما البكاء لم تتبعه السيدة زينب(ع) أسلوبا في المواجهة، وما ذكر في أحاديث أسندت إلى بعض أئمتنا وسادتنا وقادتنا (ع) حول البكاء على الحسين وتذكر مصيبة الحسين (ع) فهذا لا يشكل مشكلة وتعارضا مع المنهجية الزينبية؛ فالأئمة(ع) مراجعنا العليا إلى قيام الساعة شغلوا كل أوقاتهم بإصلاح المجتمع والإنسان والاهتمام بتثقيفه وتعليمه والحفاظ على عقيدته ومبادئه ونشر فكر الإسلام والحرص على حرية الإنسان وكرامته وعزته ومن ذلك كانت حرية إبداء الرأي، ففي عهد الإمام جعفر الصادق(ع) أنشئت مدارس ومذاهب إسلامية متعددة لم يتعرض لها بأي سوء أو بغض أو شحناء بل آزرها واهتم بمنهجيتها وقدم لها الكثير فاستمرت تلك المدارس بمنهجية واحدة هي الالتزام بفكر أهل البيت والدفاع عنه وعدم المساس بأصوله ومبادئه ودفع أئمة هذه المذاهب حياتهم واستقرارهم ثمنا للحفاظ على مبادئ منهج أهل البيت(ع) والالتزام التام بها وعدم الانصياع للظلمة المارقين من حكام الجهل والضلالة والردة فأئمتنا كانوا مع إصلاح حال المجتمع وحل مشاكله وكانوا النهج القويم في بناء الإنسان والحفاظ على كرامته وعزته ولم تكن مجالسهم مجالس بكاء وندب وعزاء اقتداءً بمنهجية السيدة زينب المقدسة (ع)، فالسيدة زينب كانت منهج البيت المحمدي المطبق على أرض الواقع بعد واقعة كربلاء، منها تؤخذ الحكم وعليها تعوّل الهمم، فغدت من وقتها مرجعا أعلى تهفو لها القلوب وتذوب في كلامها الأرواح، وكان ولا يزال كلامها طاقةً يُستمد منها في تطبيق نظم الحرية ومنهجا في تعريف معنى الديمقراطية إذ كان إعلامها أمضى من السيف في قطع ألسنة الطغاة وطمس أفكارهم ومخططاتهم الهدامة ودحض أباطيلهم الفتاكة. من هنا كانت السيدة زينب(ع) تنظر إلى مستقبل مشرق لعالم تقوده مرجعية هي المرجعية التي أسست لها أساسا متينا وقامت على حمايته بإذن الله واستماتت من أجل الإبقاء على هذه المرجعية المتمثلة بمراجعنا العظام أئمتنا وسادتنا وقادتنا الأطهار من ذرية الحسين(ع) والتي تركت للعالم كله السبل الموفقة والمستقيمة في الوصول إلى الغايات السامية والأهداف المنشودة بالاعتماد على الشريعة الغراء التي ما تركوا بها نقطة إلا وقاموا على توضيحها ووضع أدلة وبراهين على أن تصبح جلية إلى كل الأجيال القادمة فمَن تفهمها وسار عليها فاز ونجا ومن تخلف وانحرف عنها خاب وهوى، وما يحتاج الإنسان إلا لمراجعة سريعة لتلك الشريعة وقراءة واعية لها وتفهم مضمونها والسير وفقها امتثالا لوصية نبينا محمد (ص): (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي؛ أحدهما أعظم من الآخر؛ كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما)(سنن الترمذي، ج5ص663).

فمن ذلك كانت المرجعية التي سعت إليها السيدة زينب (ع) مرجعية لها حول وقوة بحول وقوة الله تعالى فأطاعت الله طاعة مطلقة لم تنحرف بخطوة عن كلام الله فعلمت قوله وفقهت أحكامه وساعدت الناس على تطبيق أحكام الله وشرائعه فقال تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} وبذا كانت إذا أرادت شيئا أن تقول له كن فيكون (عبدي أطعني تكن مثلي أو مثلي تقل للشيء كن فيكون) فلم تلتفت لأي لذة أو مكسب دنيوي لأنها ترفعت عن تلك المطالب للرفعة الإلهية المكتسبة فأعطت الخلق دون مِنّةٍ غايتها أن تنفع الناس وأن تنشر المحبة والسلام والأمن والاستقرار وتجمع بني البشر تحت مظلة الوحدة والإخاء وأن يبقى الإنسان مكرما بتقواه كما أراده الله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وأن تبني كرامة وعزة الإنسان، فقد تصدى لها حكام الضلالة الذين أعدوا لمحاربتها ما استطاعوا من بطش وقوة وعتاد ونفوس ضعيفة ومنحرفة لبناء مرجعية بديلة ولكن الله أبى أن يطفأ نور مرجعية أهل البيت(ع) الأصيلة والمعينة بأمر إلهي {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين}، فنفذت لأرواح الخلق أجمع وأخذها المتفهمون مسلكا ومنهجا وسبيلا لبناء حضاراتهم ومجتمعاتهم مؤمنين بصلاحها وإصلاحها وعدالتها وتقواها واستقامتها، فقبلوها واقتدوا بمنهجيتها وساروا بخلقها الرفيع دون تذمر وتخوف وتهاون، والمرجعية في منهجية السيدة زينب(ع) هي مرجعية أهل البيت(ع) كلها وتتمثل بمودة ووحدة متكاملة لا تحزب ولا تخريب، فمرجعية أهل البيت أنهم حزب إلهي واحد بعنوان وتسمية إلهية ونظام ومؤسسة ضمن شريعة الله وكل خروج عن هذه الشريعة يصطف في الجهة المناوئة، وهذا ما أوضحته السيدة زينب (ع) بقولها ليزيد:

(ولئن جرّت عليَّ الدَّواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك.... ألا فالعجب كلّ العجب، لقتل حزب الله النّجباء بحزب الشيطان الطلقاء!! فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطّواهر الزواكي، تنتابها العواسل وتعفّرها أمهات الفراعل ولئن اتّخذتنا مغنماً، لتجدنّا وشيكاً مغرما، حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك، وما ربّك بظلام للعبيد، وإلى الله المشتكى وعليه المعوّل.

فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها.

وهل رأيك إلاّ فند ؟ وأيّامك إلاّ عدد؟ وجمعك إلاّ بدد؟ يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين.

والحمد لله ربّ العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنّه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل).

ولأن الصراع بين أهل البيت(ع) وحكام الضلالة في نظر السيدة زينب ليس صراعاً على اكتساب الحكم، بل هو امتداد للصّراع الدائم بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين حزب الله وحزب الشيطان، وكل من يريد أن ينضوي تحت راية الحق فهو حزب الله، وحزب الله لا يحتاج إلى انتماء أو فئة من الناس أو علامة يشار بها إليه أو هوية ينعت بها لأن كل من يراقب ويتأمل ويتفاعل ويتفهم حقيقة ومسيرة ومنهجية أهل البيت (ع) فهو من حزب الله {وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُون}، وهذا التشخيص التفريقي كان واضحا وجليا في خطاب السيدة زينب(ع)، كل فرد أو جماعة أو نظام دولة أو مؤسسة دولية تستوعب هذه المنهجية وتبني نظامها وفق تلك المنهجية هي حزب الله حقا ولن يكون إلا النصر حليفه طال الزمن أم قصر ولا يحق لأحد أن يعترض طريقه أو يوقفه عن هذا الانتماء حتى لا تكون هذه التسمية حكرا لأحد فتجابه نعوتا لا ترضي الله تعالى نتيجة تصرفات تصدر من بعض من يتبنى التسمية ولا يعمل بأسسها، فكانت السيدة زينب حريصة على التفريق بين من ادعى أنه عمل بنظام الله وقاتل ابن بنت رسول الله فعملت على تعريته ووضعه في الخانة التي يصنف بها، وبينت أن أهل البيت ونظامهم ومنهجيتهم هم حزب الله فلا غالب لهم وإن تجرأ الظالم المرتد على قتلهم فهؤلاء قوم كتب عليهم القتل فخرجوا إلى مضاجعهم، أما حزب الشيطان مهما زيِّن له النصر المزيف فـ (كد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها). أما بقية الأحزاب الدنيوية التي تؤسس لأنظمتها منهجية وقوانين وبرامج تراها مناسبة لتطبيقها على الأرض سواء كانت بعيدة عن منهجية أهل البيت أو مقاربة من الناحية النظرية دون التطبيق الحرفي لدستور وقانون الله عز وجل فينطبق عليهم قول الله عز وجل: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون}،وهذه القراءة القرآنية جسدتها السيدة زينب(ع) في خطابها التوجيهي الشمولي الفريد.

ومن خلاصة هذه الدراسة يتبين لنا أن منهجية السيدة زينب(ع) وبياناتها المتعددة بعد واقعة كربلاء كانت تثبيتا وترسيخا لمفاهيم الرسالة المحمدية التي اختارها الله دون سواها لحمل هذه المفاهيم ونشرها للعالم أجمع، والتي أراد قادة الردة اجتثاثها من أساسها وتفتيتها بتهميش تعاليم الرسالة والاستهزاء بمفاهيمها والعودة بالناس إلى عصر الجهالة والانحطاط والتخلف والقهر واستعباد الناس وخلق الفوضى من خلال التمييز العنصري والطبقي وعبادة الأوثان التي هي رمز جهالتهم وأباطيل أعمالهم وبث الرعب بين صفوف الناس وإرهابهم بالقوة والتجويع في قبول جهالتهم، ولكن الله أبى ذلك فمكّن عليهم امرأة قوية بقوة الله، فقيهة بكلام الله، عالمة بمعرفة الله، سيدة بيت رسول الله، وتمكنت بإيمانها وثباتها ومصداقيتها وفصاحتها وبلاغها من أن تكون سيفا قاطعا لألسنة الردة والكفر والنفاق والبغي وتصحيح الرأي العام بنور كلام الله ونهج رسول الله، فكان بيانها منطلقا للتمييز بين الخير والشر والحق والباطل فأعطت مقارنة بين الوجه المشرق للحق وضرورة التمسك بأوتاده وبين الوجه المشوه للباطل وضرورة ارتداد الخلق عليه وعدم التلوث بخرافاته وجهالته بعد أن نوّر الله طريق الناس كل الناس بحقيقة مفاهيمه وصدق تعاليمه، فحفظت السيدة زينب بمنهجيتها المقدسة كرامة الإنسان وعزته وحقوقه من عبث العابثين وبغي الظالمين فكان سبيها إعلاء لكلمة الله، وقيدها تحريرا لعباد الله، وبيانها تثبيتا لأركان دين الله.

فسلام على الفقه الإلهي الأتم، والجبل المحمدي الأشم، والغيث العلوي الأعم... سلام على بضعة الزهراء، سليلة بيت الكساء، الإنسية الحوراء، زينب المقدسة ورحمة الله وبركاته، وصلى الله وسلم على سيدنا خاتم النبيين محمد وآله الطاهرين والحمد لله رب العالمين.

شبكة النبأ المعلوماتية -الثلاثاء 1/تشرين الثاني/2005 -  28/ رمضان/1426