المجتمع العائم

مازن مرسول محمد

لو نظرنا عن كثب لما آل إليه وضع المجتمع العراقي في الفترة الراهنة، لأخذت التساؤلات مساحة واسعة لها في أذهاننا، حول ما الذي  أحال هذا المجتمع الى ما هو عليه الآن، ولماذا تفاقمت عليه الأمور الى هذا الحد المأساوي.

ان صورة المشهد العراقي اليوم هي نتائج لأسباب قد أخذت مأخذاً من بنية ونسيج وأواصر المجتمع العراقي، فما ندركه حالياً هو تبعثر واغتراب قيمي واستلاب ثقافي، جاء كنتيجة واضحة لما مر به هذا المجتمع من أزمات خانقة، قد جعلت منه ان لم نكن نبالغ بقايا مجتمع يحاول النهوض من جديد.

فالمجتمع العراقي بات يعاني وكمحصلة نهائية لما مر عليه وبه من أزمة هوية قد قطعت الأوصال الرابطة بين مكونات المجتمع الحقيقية، حيث ان الشخصية العراقية قد مرت بمراحل حياة متأزمة وعلى فترات تاريخية متعددة، وما دفع الى هذه المحنة والاستلاب أسباب عدة، منها طبيعة الشخصية والمجتمع العراقي بتكويناته البدوية والحضرية وتعدد الاثنيات والتناقضات الاقتصادية والسياسية، كلها لعبت دوراً حاسماً في جعل البنية العراقية قلقة في الاستقرار، فلم يذكر تأريخ العراق انه قد مر بمرحلة مستقرة من جميع النواحي، فللاضطرابات السياسية المتمثلة بسيادة حكم البلاد والتكالب على السلطة وتعاقب الحكومات الصالحة والواقفة على الضد منها، جميعها كان لها الاثر الكبير في الانعكاس على مستويات المجتمع الاقتصادية المادية، فجعلت من المجتمع وتلك حقيقةً غنياً بخيراته صورياً وخارجياً وفقيراً ولم يحصل على منجزاته من الداخل.

فعلى الرغم من مكانة العراق الاستراتيجية وثرواته المتعددة، والتي كان من المؤمل لها أن تجعل المجتمع العراقي في عداد المجتمعات الغنية والمتطورة، الا انه لم يصل الى تلك الصورة، فلسان حاله يدل على فقره غير المستحق، الأمر الذي بدوره انعكس على قيم وشخصية الفرد العراقي الذي أصبح مزدوجاً في شخصيته وميالاً الى تعاملات تشير الى واقع حاله من الاغتراب وخشونة الأسلوب وضعف الولاء الوطني نتيجة تجذر الولاء القبلي او الولاء للعشيرة.

ان كل تلك الصورة قد أنشأت لنا مجتمعاً عائماً متصدعاً بأركانه لا يكاد يرسو في مكانٍ ما، فتأتيه أزمة وصدمة أخرى تعمل على بعثرة أسسه دون التكامل وقوة البناء.

فماذا نتوقع من مجتمعٍ قد مر بكل هذه ألازمات ان يكون، وبأية صورة نبتغي ظهوره ؟

من الطبيعي ان تراكم هذه المحن قد افرغ المجتمع العراقي من مصدات الأمان التي تمكنه من السيطرة، فاليوم مجتمعنا يعاني تبدلات واضحة في شخصية الفرد العراقي، اذ ان الفرد فيه قد مر بفترات ضعف وقوة عملت على تكوين صور لذلك الفرد في كل الوضعيات التي مر بها، فنراه وبصورة مقاربة ملائم لكل ما يفد اليه، أي إن المجتمع العراقي قد وزع قابلياته على هذه ألازمات، وكانت المحصلة الأخيرة مجتمعاً مثقلاً بالكوارث ولا يقوى على النهوض، حيث ان تداعيات فترةٍ طويلة من تأريخ هذا المجتمع مع بلورتها لشخصية ومجتمع غير مستقر في كل نواحي حياته ومتذبذب في التعامل ومغترب في شخصيته ومحاولاً وبصعوبةٍ لملمة شتاته، فمن المؤكد ان تكون النتيجة سطحية المجتمع وتعثر بناؤه بصورةٍ حقيقية.

ان العلاج لاستقرارية مجتمع مثل العراق وعلى هذه الأوضاع، لا يمكن ان يكون سهل ولكنه ليس مستحيلاً، فجل أزمة الهوية التي يعانيها الفرد والمجتمع العراقي والمتأتية من تناقضات سياسية واقتصادية وثقافية ألمت به، قد كان بعض أسبابها يعود الى الفرد العراقي نفسه، الذي يجب عليه نقد ذاته قبل كل شيء مع تأصيل الولاء للوطن والمجتمع دون الانقطاع عن التراث والقبيلة، كما ان مشيئة الصدفة التي من الممكن ان تجلب إدارات سياسية مقومة لهذا المجتمع، لها عظيم الأثر في تجاوز ألازمة، مع ضرورة الانفتاح العقلاني دون النكوص والانغلاق، والدعوة الى تعددية الأفكار والقدرة على حسن التصرف في ضبط تعاملات الفرد نفسه، والتي تنعكس على المجتمع بصورةٍ كلية وشاملة.

فما أزمة هذا المجتمع الا ترجمة لعقودٍ مظلمة من حياة المجتمع العراقي، الذي سوف يستعيد قيمه الثابتة ويتخلص من الاستلاب والاغتراب، بتحول الشخصية العراقية الى اتخاذ موقف مغاير في التعامل مع الحياة غير الذي كانت عليه والذي اظهر لنا هذه الصورة بعد مخاضات أزمات عديدة.

شبكة النبأ المعلوماتية -الثلاثاء 11/ تشرين الأول/2005 -  7/ رمضان/1426