موقع قيمة الحوار في الإجتماع الإسلامي الراهن...؟!

مقاربة من أجل مجتمعات حوارية

  بقلم المهندس غريبي مراد عبد الملك(*)

مدخل منهجي:

"العقل يهدينا الى الإيمان بالحق وأن ندور معه أينما دار والعصبية تدعونا الى الدفاع عن الذات وما يتصل بالذات، حقا كان أم باطلا، ويبقى الإنسان بينهما خاضعا لامتحان صعب، إذ قد يكون انتماؤه الى دين أو مذهب حقا، ولكنه يغالي فيه فيصبح باطلا ويزيغ قلبه.." (1)

من المشاكل الغالبة على الواقع الاجتماعي الإسلامي، أن أفراده يتحاورون حوار الطرشان، فكل شخص يريد أن يؤكد ما يلتزمه فيتعصب له وهو ليس مستعد أن يسمع وجهة النظر الأخرى، تماما كما هو الأطرش يتكلم ولا يسمع  الآخر والثاني كذلك، إننا نملك أذانا لا نسمع بها ولذلك نعيش غياب وعي السمع ولنا عقولا لا نفكر بها لذلك نفتقد الوعي بالحوار.

من هنا،لا ريب أن أهمية الحوار في بناء الذات والأسرة والمجتمع من الأمور المغفول عنها في حركاتنا كلها، كونه (الحوار) الأداة الناجعة والفاعلة والمؤثرة في التنشئة المعرفية والثقافية والاجتماعية،دون الغفلة عن أنه من متطلبات الحصانة الثقافية في  المشاريع الحضارية ويؤصل لخطوطها العريضة وبرامجها.

انطلاقا من هذا الأساس بات الحوار عموما والإسلامي –الإسلامي منه خصوصا  مطلبا أساسيا لابد من الدعوة إليه فكرا وسلوكا ومنهجا، واعتباره نواة ثقافية  تسهم في بعث الوعي الإسلامي  وتحرك العقول  والقلوب فتنتج ثقافة التعايش والتسامح والتعاون والرفق واللاعنف التي تؤدى الى استنهاض مكنونات هذا العالم الإسلامي- الضائعة في تفاهات الأمور والصراعات الجاهلية  –للتصدي للدور الرسالي المنوط به كممثل لخاتمة الرسالات وصاحب السياسة الرشيدة، إنطلاقا من مخزونه الثقافي الذي يتسع ويصلح لكل زمان ومكان،وبالتالي الوصول إلى مسببات القيادة  التي تمثل خصوصية الهوية الإسلامية ومضمونها الوجودي الذي ينفتح على واقع الإنسان والمجتمع والتاريخ والكون وكل مجالات الحياة،وهذه الحقيقة نلمسها جيدا في آيي القرآن الكريم وأحاديث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله والأئمة من أهل بيته عليهم السلام.

لكن أصبح الحوار في ثقافتنا بمثابة الفضيلة الغائبة في ظل سيطرة ثقافة القوة والتسلط والإقصاء والتهميش وما هنالك من عناوين الاستكبار الإنساني، وقد نفكر أحيانا بنوع من الحيرة والاشمئزاز، متسائلين: لماذا مجتمعاتنا  تعيش في ظل الظلم والتعسف  والأحادية الثقافية والألفة الفكرية الأبوية؟ والمجتمعات الأخرى تساهم في كل دقيقة أو قل كل  ثانية في إبداع  وتجديد العالم وتعمل على نشر ثقافة حقوق الإنسان والحريات وتفعيل الإبداع وما هنالك من مفاهيم وقيم تزخر بها ثقافتنا الإسلامية العريقة والسمحة  قبل أية ثقافة.

 أمام  هذه التصورات السلبية،أصبح الحال يستدعي لتأسيس وعي مفاهيمي حركي فعال حول الحوار متوسلا بالنماذج الإسلامية التاريخية التي تخطت الإشكالات العقائدية والأخلاقية والفقهية والكلامية والفلسفية بمنهج الحوار القرآني،مما جعل تلك الأزمنة  تشهد  إنتاجات وإسهامات رسالية ضخمة لا نزال ننهل منها وبخشوع وإنبهار وكأن أصحابها جابوا الزمن الأول والتالي لهم.

 لعله من هذا كله ومن الرهانات والتطلعات المترقبة للعالم الإسلامي  ينبغي ان يتنبه المسلم لما له وما عليه، بالإحساس والشعور بقيمة الحوار  وحصاده  الأخلاقي والتربوي والسلمي  في الحياة الإسلامية والبنية  الثقافية للفرد والمجتمع، والطاقة الإصلاحية التي يخلقها لدى المؤمنين به وبذلك يكون إنساننا  قد خطا خطوة لابأس بها في تحصين نفسه ومجتمعه من التخلف والتعصب والانغلاق المفرط، وعلى عكس من  ذلك نجد اللاحوار  في المجتمعات يصنع الأنظمة الشمولية الدكتاتورية والتسلط الأبوي الغير مبرر،ويقتل المواهب الإنسانية بحيث لا يستطيع الإنسان الفاقد للحوار أن يستلهم الكرامة والحرية كمفاهيم حضارية،يفتقد إبتداءا لمفعلاتها الأساسية المتمثلة في الثقافة الحوارية.

  إن القيام بمسح إجتماعي بسيط لكل مجتمع من مجتمعاتنا الإسلامية لمعرفة ما مدى إلتزام الأفراد بالحوار البناء والهادف والمنفتح،من شأنه الكشف عن   الأزمة الحوارية المغفول عنها والمستشرية في أوساطنا  وعن الهدر  الفاضح لحقوق  الإنسان وجعله( الإنسان) مجرد دابة تستخدم في  عمليات الموازنة السياسية والاقتصادية دون الثقافية منها لأن الثقافة خطر وميدان له خاصته كما، بل يمكننا كذلك  القول، انه أصبح اللاحوار سياسة مصلحية في التشدق بالدفاع عن حرمة الإسلام وعقائده،وأحيانا ذريعة في الخشية من الضلال دون الشك في أن الهروب من الحوار هوالضلال بعينه.

وبالرغم  من أن بعض المجتمعات الإسلامية  حققت بعض الخطوات في مجال ثقافة الحوار إلا أنها لا تزال تعاني  من الحوار البوليسي دون الوصول إلى مؤشرات للحوار الحر والبناء والمتسامح والواقعي. دون غض البصر والبصيرة  عن وجود العديد من المعوقات الإدارية والسياسية والعرفية والمذهبية والمنغصات الشخصانية للحوار من حيث التداول والسلوك،إلا أنه هناك سبل كفيلة للوصول بإنساننا  إلى ثقافة الحوار، والتي لن نصل إليها لوبقينا نعيب الزمان ونهجوه،  حيث أنه لابد  من الخوض في المشاريع الثقافية المستقبلية أكثر وبإبداع وتجديد كبيرين،مرورا بإستثمار طموحات الشباب في الثانوية والجامعة  وأحلام الأطفال في المدرسة والبيت، من خلال إشراكهم في معظم التغييرات بحيث نحسسهم بوجودهم ونعمق ثقتهم بأنفسهم بالتوازي مع المأخذ الأخلاقي التربوي الإسلامي الذي يبقي على التوازن داخل الشخصية.

هنا يكمن الدور الرسالي المحوري للفقيه والمثقف المتمثل في  تحديد الحاجات الأساسية للفرد  لغرض البناء الثقافي الذاتي  وتنمية الحوار الإجتماعي المذهبي والسياسي والإداري وجل  مجالات الحياة،حتى يستلم دوره الحضاري  الفعلي في الإجتماع  وفي التفاعل الإيجابي مع الآخر المجتمعي (الأخ في الوطن والدين  والنظير في الخلق(، في البرامج التنموية المستقبلية وجعل عملية الوصول إلى الحوار المحترم والبناء مطلب حقوقي  شامل وأساسي  وعدم التشكيك بها وجعل الحوار محور المستقبل الإسلامي، بالإضافة إلى الابتعاد عن المهاترات والمزايدات والسجالات السخيفة من اجل كسب المضمون الإسلامي.

والتركيز على القاعدة القرآنية، قول الله عز وجل:

"الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك هم أولوالألباب " )الزمر الآية  (18  

وإستيعاب مقاصد منهج أئمة أهل البيت عليهم السلام الذين حاربوا الغرور بشتى أنواعه وخصوصا الديني منه، فعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر محمد الباقر عليه السلام قال:"لا تذهب بكم المذاهب، فو الله ما شيعتنا إلا  من أطاع الله عز وجل" (2)

 أكيد هناك عقبات  كثيرة وهناك مثبطات وفيرة، ولكن المسهل فيها ككل أنها طبيعية وذات علاقة جوهرية بإرادة التغيير والتنوير والتثقيف لمجتمعاتنا كي تستلم زمام أمرها الرسالي بنحو أفضل (لأنه كما يقال: الأزمة تلد الهمة)،  ولا يمكننا ان نقفز فوق كل هذه المشاكل والمعوقات والتي منها ما هو حصاد سوء التدبير ومنها ما هو إبتلاءات لأجل الاستقامة، واهم  ما في عنوان الحوار أنه يعيد الإنسان لفطرته بقدر ما يكون هذا الحوار يجانب الطهر والعصمة ويستمد منها إستمراريته ومفاعلات ديمومته، العودة للأصل كما يقال فضيلة، والحوار هو تواصل مع الفضيلة  عبر مراجعة الذات والواقع وإستشراف المستقبل، والملاذ من سجن الهوى  في حصن الحوار هو فرع من فروع ما يعرف في ثقافتنا الإسلامية بالجهاد الأكبر أي مجاهدة النفس.

 والمسلم اليوم يبحث عن أستاذ أو واعظ يلقنه سبل الخلاص من مكاره  الحياة الدنيا  التي حيرته.

وقد مر بمراحل تاريخية  في ميادين شتى، اصطبغت بجزئيات انحرفت به عن جادة الهدف والتطلع الإسلامي،وهذا أمر  يقودنا ألا أن نبقى نتقاذف بالتهم والإستشكالات ونحتج بأن عملية الحوار  في العالم الإسلامي  مازالت تحتاج إلى جهود جبارة  من قبل   الحكومات،ولكن لابد أن نجعل  من هذا المطلب مذهب اجتماعي  وأن نستفيد من أخطائنا الماضية والتي كشفت عن اللاوعي في حراكنا العام.وبالتالي نستهدي الى تصحيح مناهجنا من جديد،لابد أن  نستوعب الظرف الراهن جيدا.

فثمة انساق وقيم ومفاهيم ورؤى لا توافق واقعنا الثقافي، بل تتعارض معه تماما ,إنها سوى  محاولات تفريغ إنساننا من هويته  وخصوصيته ومن إسلامه الروحي والأخلاقي بعنوان التثاقف المموه والمشوه، لأن التثاقف يعني عموما التكامل الثقافي، بينما  الواقع هو إستحمار ثقافي واختراق للذات المسلمة. 

 ان الحوار يفعل الاجتماع  في المجتمع، ودوره يبرز  في تركيز الوعي لان صورة المأخذ الصحيح للحوار  تؤدي الى نتائج سليمة ومثمرة  تاتي أكلها كل حين.

الحوار صنوان الصبر وجعل العقل والإيمان قائدا الإنسان لا الهوى والمذهبية والخندقة والحزبية وما هنالك من عدى الحوار. ان القراءة الواعية لسير أئمتنا عليهم السلام وعلمائنا الكرام  سنة وشيعة  تكشف عن  صدارة المأخذ الحواري في المعادلة العامة للأمة الإسلامية.الحوار عنوان جوهره يعني إرادة بناء الذات حقا وعدلا وإيمانا وإحسانا.

 وكما ورد في القرآن الكريم ((...تعالوا الى كلمة سواء... )) فان الحوار هو الوحيد الذي يرتقي بنا إلى السلم والسلام والتسامح و اللاعنف والوحدة والولاية الحقيقية  وإلا نكون كمن ألفوا آباءهم  فاستضعفوا (بضم الميم وكسر العين ) لنضيف هونا  أخر...

صفوة القول: إذا أردنا أن نحرك الحوار في واقعنا، فعلينا أن نستنفر عقلنا كله وإدراكنا كله وكل ما بين أيدينا من وسائل المعرفة والوحدة والتكامل والرقي، من اجل أن نحرك ذلك كله للقاء بالحقيقة التي خلقها الله تبارك وتعالى وأنزلها وأرادنا أن ندركها ونعيها من خلال الوجود كله الذي خلقه لنا'ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل" لنبدأ الحوار بإسم الله الواحد في هذا الشهر المبارك شهر التوبة والرحمة والغفران والعتق من النار، شهر الله ونلتقي باسم الله تعالى كما يحدثنا القرآن:قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله"(سورة آل عمران الآية 64)

(1)التشريع الإسلامي ج 9 ص 356، آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي.

(2)الكافي ج2 ص 73، محمد بن يعقوب الكليني

(*) كاتب وباحث إسلامي جزائري

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية -الاثنين 10/ تشرين الأول/2005 -  6/ رمضان/1426