التسامح بين الفكر والواقع: تأملات في التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية

 بقلم المهندس غريبي مراد عبد الملك(*)

مدخل:                

يقول المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي رحمه الله: "إن في منطق هذا العصر لا يكون إثبات صحة الأفكار بالمستوى الفلسفي أو الأخلاقي، بل بالمستوى العملي: فالأفكار صحيحة إذا هي ضمنت النجاح"

الصراع والتسامح، عنوانان لا يخرجان عن النطاق الإسلامي في هذا العصر، وبشيء من التروي نجد المسألة تكمن في نجاح الخلاص من المأزق الثقافي الحضاري، وتفعيل الدعوة إلى التسامح التي توازيها دعاوي أخرى، كالدعوة للحوار والدعوة للسلم والدعوة للتقارب.

إنطلاقا من هذا القول للأستاذ مالك بن نبي ندرك أنه تواجهنا معركة ثقافية معقدة يعيشها العالم العربي والإسلامي في ظل واقع ملتهب بنيران الصراعات المذهبية والطائفية. مما يستدعي تسليط الضوء على حقيقة ( التسامح ) وما يخفيه تجاهلها من أضرار ومخاطر في محاولة لتفريغ المجتمع الإسلامي من ثقافته وقيمه السمحة الأصيلة، حيث نتناول بعجالة في هذا المقال خطورة الوضع الذي يتمثل في جعل المنظومات الإجتماعية للدول الإسلامية المنبهرة وتابعة ً لفلسفات غربية دون مراعاة لذاتية مجتمعاتنا أو الخصوصية أو الهوية.

 ونحاول أيضا تقديم تصوراً لجعل المنبر الحسيني أداة قوية لترسيخ الوعي لبناء نظام اجتماعي قوي ينافس المنظومات العالمية في ظل التطور الحضاري والإحصائي والمعلوماتي والمعرفي الدقيق.

ناهيك أيضا أن الواقع العالمي يرجح كفة الخيار التسامحي الإستراتيجي الإسلامي -الإسلامي، لأن كثير من الأفكار عندنا مقدسة، ونحن نتعامل مع الواقع في إيماننا بالمقدسات اللا مقدسة أساسا.

وأن الإسلام عنى بالتربية الخلقية عناية شديدة باعتبارها جزء من هوية الأمة وقدمت أحاديث نبوية وإمامية وآيات قرآنية تدل على عناية الإسلام بالأخلاق عامة.جلنا يدرك أن هدف التربية الغربية أنها  تهيأ الفرد ليعيش مع غيره ويستمتع بهذه الحياة الدنيا فقط على عكس التربية الدينية الإسلامية التي تهدف إلى ما هو أبعد من ذلك والمتمثل في الدار الآخرة.

ومن مقومات التربية الإسلامية القدوة الخلقية المثلى والتي تتمثل في شخصية الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام، مضافاً إلى ذلك تفعيل الفطرة البشرية وفكرة العالمية والأهداف السامية وإذا أدرك المسلمون ذلك كانوا دعاة بأخلاقهم قبل أن يكونوا دعاة بأقوالهم.

ومن هذا المنطلق  يشكل التسامح   مبدأً من مبادئ الحياة الإسلامية:السلم والحوار والاختلاف. وبهذا يجب مناقشة التسامح كمبدأ يجب الإيمان به، والإقرار بنتائجه، وإتباع سبله، لأن جيلنا لم يؤمن بعد بالتسامح كمنطلق اجتماعي ومبدأ  للتقدم، وحل للمشاكل، والتكيف مع الأزمات وإدارتها، واستمرار النشء وصلاحه، بل يستهزأ به، ونجد عندنا اليوم من يتهكم على الإنسان المتسامح.

وحينما يصبح التسامح مبدآ عاماً، كجميع المبادئ الأخرى، يصبح نقاش المسائل العالقة أمرا إستعاد روحه الحضارية، ويمكن لنا بذلك مناقشة التاريخ الإسلامي والاختلاف وكل ما كفرنا عليه بعضنا البعض  وكذلك فكرة  عالمية الإسلام، التراث ومدى صلاحيته، الثقلين ومدى عموميتهما. أما أن تناقش كل هاته الأمور،  والبعض لم يؤمن بعد بالعقل والآخر والإختلاف والتسامح كمبدأ عام ضروري، فهو أمر فيه خلط كبير، وهذا واحد من الأسباب التي أدت بنا إلى زمن الإيديولوجيات المتعددة والمذهبيات المتخلفة والتكفير وما هنالك من جهل وظلام وظلم، لأن الأفكار التي تقوم بدور الوحدة الإسلامية غابت، والذي حضر هي المقدسات والبطولات والزعامات وأشباه العقلاء ولا مكان للعدل والحق والعقل. ومشكلتنا الأساسية أن العنف أصبح مبدأ يؤمن به البعض لقيادة التغيير، أما اللاعنف فهو إلغاء تام لهذا المبدأ. وقد لا يصح أن نقول أن السلم هو إلغاء للعنف، لأنه قد نجد من يؤمن بالمبدأين معاً، فيمارس السلم مع البعض والعنف مع البعض الآخر. بكلمة الأمر بالتسامح أساسي ولكن ثقافة اللاعنف أكمل للعمل،، لأن سيكولوجية الإنسان المقهور والمستضعف الراض بحاله والتابع والإمعة  قد تحسب كل المبادئ الجيدة، تماما مثل المريض. 

فنحن نرى أن الأمر بالتسامح تلقين لمبدأ أساسي في الحياة، وبـ(الإعلام عن القدوة) سنلقن للناس كل المبادئ الجميلة والضرورية للنجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة، والنتيجة ستكون لا محالة اغتيال كل مبادئ الشر. إضافة إلى ذلك إذا قمنا بتثقيف الناس بحقائق اللاعنف ومبادئه، فإننا نربيهم تربية سيكولوجية تحقق التغيير الأمثل الذي يوفر كل الشروط الإيجابية لقيادة المستقبل، وبذلك نكون قد وفقنا بنسبة معينة لإحياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

في الحقيقة.. إن تفعيل وإحياء قيمة التسامح من المنظور الإسلامي المتوازن  يجب أن يبحث عنها ومن خلال الخوض في إجراء المقاربات الفكرية والثقافية وأعتقد أن مجتمعاتنا متعطشة  للتعرف على الإسلام وقوته في إحياء الأرض بعد موتها، ولابد أن يعرف أهل المنابر أن واجبهم الرسالي يتأسس على إعلام المسلمين والآخر ككل،  أن الإسلام يرفع شعار التسامح في العلاقات الإنسانية، وينادي بالسلام بين الأفراد والشعوب، وذلك لحفظ بيضة الإسلام من الإفتراءات والتهم أللإنسانية بالعنف والإرهاب، لأن التصورات الخاطئة والمفاهيم الفاسدة هي وليدة فراغ إعلامي رسالي ومناصب  دينية غير  فاعلة،  وعوامل عدة أسهمت  في تكوينها وترسيخها بهتانا وزورا،   حتى أصبحت عميقة الجذور متأصلة في الوعي الإنساني، لا يمكن اقتلاعها بسهولة ويسر.. وتلك التصورات الخاطئة والمفاهيم الفاسدة تعبر عن أثر ذلك الفساد التاريخي في الذات.

ولا أقول بأن العالم الديني  هو السبب المباشر في تكوين هذا المأزق، وإنما أقول بأن بعض  علماء الدين  قد خضعوا لسلطة ذلك الفساد، واستسلموا لها، ودعموها بوسائلهم المعرفية وفتواهم المصلحية، ورسّخوا هذه التصورات من خلال تفريغ الإسلام من روحيته  وإمتداداته الحياتية ومكونه الأساسي والأبدي أعني الثقلين(القرآن العظيم وأهل بيت النبوة عليهم السلام)..

هنا ينبغي أن ندرك أن كلمة التسامح الديني من أبرز الكلمات وأكثرها شيوعا في التراث الإسلامي.....   وهي تعني كل شيء إيجابي , فهو دليل الحكمة والعدل والرزانة   , وهو مصدر اللاعنف والتعايش. 

ولفظة التسامح أصبحت اليوم تعني رفض الصراع , فكل من رفض الصراع في الفكر والثقافة والاجتماع  فهو متسامح  , وكل من دافع عن هويته الإسلامية وعن مصالح أمته المصيرية ووحدتها  فهو متسامح..   والتسامح مقرون بالاعتراف بالآخر سلوكا وفكرا والتقارب معه حوارا.  وتأتي ظاهرة العنف والإرهاب  في المجتمعات الإسلامية التي  أصبحت مقلقة، لأنها لم تعد ظاهرة سلوكية فردية، وإنما تجاوزت ذلك إلى سلوكيات حيوانية  تهدد استقرار المجتمعات  وتسيء لسمعة الإسلام وتنحرف بالأمة عن قضاياه الرئيسية والمستقبلية الرسالية المصيرية.. والعنف والإرهاب  لا يُزال إلا بدراسة مصادره، وهو في جميع الظروف ظاهرة سلبية تدل على وجود خلل ما في مسيرة الفرد المجتمع والثقافة السائدة، والخلل يؤدي إلى إفرازات سلوكية غير متزنة.. ولا بد من دراسة أسباب هذه الظواهر الغريبة عن واقعنا. ولا بد من بث ثقافة  إسلامية صحيحة لصقل  الشخصية بالقيم الرسالية السمحة وبالفضيلة الإسلامية الهادفة، ومقاومة مظاهر الظلم والجهل، التي صنعت مناخا ملائما  للعنف المرضي الذي يهدد وحدة الأمة.

إن واجب العالم الديني المسلم الآن، أن يجاهد قولا وفعلا وبصراحة ووضوح أفكار ومواقف الإرهاب والعنف، ويبارك أفكار و مواقف التعايش  الإنساني والحوار وثقافة الإختلاف المحمود في ظل احترام خصوصيات ومصالح كل الأطياف الإجتماعية  ,   والإسلام يقر مبدأ السلم العادل الذي يحققه الاحترام المتبادل بين الناس، وكذلك موقف الإسلام من الظلم والإرهاب والعنف، واضح  وهو الرفض والإنكار  ,  فالإسلام لا يقر العنف كبديل للحوار، ويدعوإلي احترام الحريات والحقوق الإنسانية لكل الناس. 

كذلك موقف الإسلام من التعصب والتخلف والجهل والمظالم الاجتماعية، وهو موقف الإدانة والعقوبة عليها ,   ولا يمكن للإسلام أن يقر التقاليد السلبية والانحرافات السلوكية الفردية والاجتماعية.. ومصدر التخلف الحاصل لدينا هو الجهل بالإسلام الصافي والنقي- من شوائب التاريخ المقيت- في المجتمعات الإسلامية. 

  لا شك في أنه لابد من التفريق بين التسامح والتفريط، كما يفرق بين السلام والاستسلام والرضوخ، والتسامح فضيلة إسلامية لا يمكن وعيها والالتزام بمضمونها إلا في ظل التمسك بالمنهجية التربوية الإسلامية الإمامية، وقد حظيت التربية النفسية باهتمام أئمة أهل البيت عليهم السلام ومن بعدهم العلماء الأجلاء الذين تحدثوا عن الفضائل ككتاب الإمام المجدد قدس سره "الفضيلة الإسلامية" وكتاب الشهيد الصدر الثاني قدس سره "فقه الأخلاق"، حيث عرفا موقع الفضيلة في السلوك بأنها وسط بين رذيلتين، هما الإفراط والتفريط، عليه يكون التسامح هو الفضيلة، وهو الوسط بين التفريط والتشدد، ويرتبط باعتدال الغضب والسيطرة عليه والتحكم فيه. وواجبنا مثقفا وفقيها وإنسانا نبيها وشيعيا ملتزما تعريف المجتمع بهذه المبادئ الإسلامية، وتقديمها إليه لكي يتعرف على الدواء الشافي في خصوصيات الإسلام الصافي،ولقد كان للشهيد آية الله السيد عبد الحسين دستغيب قدس سره باع كبير في هذا المجال.

أما عن قوله تعالى: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ"، هذا الحق أقرته جميع المواثيق الوضعية ونصت عليه جميع النصوص الدستورية في تاريخ الإنسانية بنسب مختلفة.والقرآن الكريم كمصدر سماوي أباح للمسلم أن يقاتل دفاعا عن حقوقه المشروعة، سواء كانت مرتبطة بحريته الشخصية وكرامته الإنسانية أو كانت مرتبطة بمقدساته وخصوصياته الدينية وقيمه الأخلاقية والسلوكية، كما يعترف الإسلام بحق الآخر في الدفاع عن حقوقها المشروعة وخصوصياتها الثقافية والاجتماعية، ولا يطالب المعتدى عليه بالتسامح.

ختاما يجب أن نؤكد على أهمية الحوار, خاصة بين المسلمين، وندعو إلى ضرورة تصحيح الأخطاء والسلوكيات المنافية للإسلام في المجتمعات الإسلامية، والاهتمام بتفعيل المنابر والمؤسسات والجمعيات  للتعريف بالفضائل الإسلامية، ومواجهة العنف الناشئ عن التعصب والغلو والجهل بالقيم الإسلامية الصحيحة , والحرص علي النهوض بمستوي الإعلام الإسلامي عموما  والإمامي خصوصا لكي يكون في مستوي التحدي الحضاري والثقافي الذي تواجهه مجتمعاتنا الإسلامية. 

ومن واجبات الإعلام الشيعي الإسلامي أن ينشر حقائق الإسلام الصافي والأصيل السمحاء، وأن يعد برامج وأفلام وحصص تثقيفية موجهة إلى المسلمين أولا وإلى العالم ككل ثانيا بلغاته المختلفة، حتى يتعرف الإنسان التائه والمقهور والمستضعف على حقائق الإسلام كما هي، من غير تشويه أو تزييف أو تمويه.

لابد أيها الأحبة أن نبدأ  بإصلاح دور وسائل التربية التي تتمثل في البيت والمدرسة والمسجد والحسينية والمجتمع، وتضافر الجهود المختلفة لتحقيق تلك الأهداف.

ونحاول من خلال نشاطات مختلفة  الإجابة عن عدة أسئلة حول: التاريخ، الدين، التشيع، الوطن، الأصالة، الحوار، الإيمان،الهوية  العولمة، والآثار السلبية للسلوكيات الشاذة على الإجتماع، ونقدم تصورات  لسبل التعامل مع التجديد بما يحفظ الهوية، وكذلك سبل الاستفادة من العلوم الحديثة  وضرورة الانفتاح على الآخرين والاستفادة من فرص التقدم العلمي والتقني، وتطور ثقافتنا وتحسين أوضاعنا. إضافة إلى تطوير مشروع الإسلام الحضاري المتكامل، وإعادة بناء الوحدة الإسلامية على أساس الثقلين، وإعادة بناء التحصينات الثقافية لأمتنا الإسلامية. إيضاح دور التربية الفنية الإسلامية في التواصل الثقافي وتمتين أواصر الاجتماع الإسلامي، والكشف عن دور الفنون الإسلامية ومحتواها الحضاري في تفعيل سيكولوجية التسامح (هذا موضوع نتركه لبحث آخر لأنه جدير بالمطارحة)، تعزيز وعي الوالدين والأبناء والمعلمين والمربين، وزيادة إدراكهم لدور التربية والتعليم في مواجهة تحدياتها، والحفاظ على الأصالة الإسلامية. ولتحقيق ذلك يجب تصميم برامج تثقيفية إعلامية جيدة.

 في ضوء ما تم عرضه من أفكار عابرة وبناء على ما تم الإطلالة عليه يمكن التوصية بما يلي:

1- تنمية روح التسامح في نفوس الناشئة مع مراعاة العدل والإنصاف ورفض التعصب الأعمى.

2- الالتزام بالثقلين اطاراً مرجعياً لثقافة الأمة يحقق التحصين الكامل ويحول دون الانحراف والاختراق.

3- ضرورة صياغة مشروع حضاري لحفظ الفضائل الإسلامية والتعريف بها من خلال إعلام إسلامي رسالي هادف.

4- السعي لإبراز عالمية الإسلام الأصيل  في أخلاقه وقيمه، والعمل على دفع الشبهات عن التشيع كصميم الإسلام.

5-تطوير المناهج الثقافية لمساعدة الناس على فهم أكبر للعنف والإرهاب والتعصب وكيفية التعامل معها.

6-تنمية التفكير الناقد من خلال البرامج الإعلامية لتحقيق التفاعل الايجابي إجتماعيا.

7- إعطاء مساحة مناسبة من إعلامنا لمناقشة التاريخ والفكر الإسلامي، وذلك بممارسة أسلوب الحوار والعقلية الناقدة النافذة.

8- إبراز الدور الأساسي الذي يؤديه الإعلام المتخصص في المحافظة على الأصالة والحقيقة التاريخية والثقافة وفي تفعيل الإرادات الفردية والجماعية نحو الحقائق وفي تقوية القيم والمبادئ والإيجابي من العادات الاجتماعية الصحيحة  والسليمة.

9- تطوير البرامج التثقيفية بحيث تكون قادرة على مواجهة كافة أساليب التشويه المعرفي والتاريخي والعلمائي إزاء الحقوق والواجبات.

10- تبني استراتيجية بعيدة المدى لتطوير الإعلام الإمامي تنطلق من تحليلات دقيقة ومن فهم لمتطلبات المجتمع الشيعي والإسلامي  معرفيا ومعلوماتيا يشارك في صياغتها مختلف أطراف العملية الرسالية ذات العلاقة وتعتمد على إعادة هيكلة البنية الثقافية الاجتماعية.

11-لتأكيد على دور المؤسسات الخيرية والمجتمع المدني في نشر التعايش وثقافة الإختلاف وثقافة التسامح والحوار.

12- ضرورة الاستفادة من التجارب الإنسانية علمياً وتقنيا وإجتماعيا ً في تحسين أوضاعنا المجتمعية والرسالية.

هوامش:

(1). مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي ص 111.

 (*)كاتب وباحث إسلامي جزائري

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية -الاحد 2 / تشرين الأول/2005 -  27/ شعبان/1426