مؤسس البعث يتوّج صدّاما (هبة) من السماء إلى البعث

محمد سعيد المخزومي

بعد أن انتهى عفلق من الفصل الأول في مشروعه القومي بالإبتداء في تطهير القيادات الحزبية التي تورطت في الانتماء لحزبه, وانخدعت به, قد اقدم بنفس الوقت على الترويج إلى البديل الأفضل للحزب الذي لا يعرف حقيقته إلا عفلق ذاته.

فكان ذلك البديل ملَخّصاً في شخص (صدام حسين) حيث اخذ عفلق يروّج له ويشير إليه على اعتباره الرجل القيادي الكفوء الذي يمثل طموحات عفلق في حزبه وانه الشخصية البعثية القادرة على إدارة الحزب بما يراه عفلق المؤسس نفسه.

فكان قد اعلن إلى العراقيين عموما, والعرب خصوصا, والبعثيين على الوجة الاخص, آمرا إياهم بوجوب اتباع صداما وجوبا حزبيا لأنه يمثل (هبة السماء) للبعثيين, والعراق والعراقيين, وجموع العرب أجمعين, وجماهير القوميين, وجحافل العروبيين بلا استثناء.

وبتلك التصريحات والتعليمات التي سنبينها قد اعلن عفلق انه رفع صداما إلى السماء من حيث الوجاهة والقدرة والكفاءة والهمة والطموح والقدرة في التعبير عن الأهداف الكبرى لعفلق في الحياة, وهذا يعني أن عفلق شخصيا كما كان هو مقدسا في نظر البعثيين العراقيين رغم انه لا يمتلك الجرأة القيادية ولا الفكر القيادي ولا القدرات القيادية على جمع اتباعه ولملمة شتاته, رأى أن الواجب عليه اعطاء تلك القدسية لصدام ومنحه وسامها من بعده وخلال وجوده, لتنتقل بالتنصيب الجلي, والتنصيص العفلقي الواضح إلى رجل يمثله ويمثل فكره, ومشروعه, وطموحاته في العراق, وتطلعاته في العرب, فكان ذلك الوسام السماوي(؟) بموجب الإلهام(؟) العفلقي منحةً لصدام في قيادة حزبه الذي اسسه للعرب, وليجربه على رؤوس العراقيين الضحية.  

يقول صلاح عمر العلي عضو القيادة القطرية السابق للحزب البائد في العراق:

(مع أني طبعاً انقطعت علاقاتي الحزبية والمسؤوليات اللي(التي) كنت أحملها عام 70 19. بعد 82 طبعاً بدأ الأستاذ ميشيل عفلق يفصح أو يعلن باستمرار دعمه لصدام حسين، بخطب عديدة، أنا كُلِّفت من بعض رفاق سابقين في الحزب أن أغادر إلى فرنسا بقصد اللقاء مع الأستاذ ميشيل عفلق، والحديث.. معه حول هذه المسائل، والتقيت فيه بباريس وبحضور صديق لازال حي وموجود في لبنان... وهو طلال شرارة من عائلة عربية لبنانية معروفة، وأسرة أغلب أعضائها كانوا في حزب البعث، والآن كلهم بالكامل هم خارج الحزب.. نعم التقيت مع الأستاذ ميشيل عفلق وحدثته بالعمق حول هذه المسائل، وحملته مسؤولية هذا النهج، حمَّلته مسؤولية، وذكَّرته بأنه بهذا النهج, نهجك في إبداء الدعم المتواصل.. لصدام حسين، يعني بأنك تدفع صدام حسين لارتكاب المزيد من الجرائم و.. والارتكابات ضد الشعب العراقي وضد البعثيين بالذات، فأرجوك أنا مُكلَّف من قبل أشخاص، نطلب من عندك.. لا نطلب من عندك المستحيل فقط نطلب من عندك أن تستمر في بقائك في فرنسا، لا تعد للعراق وأن تكف عن التصريحات فقط، هذا سيعني مع الزمن سيُفهم من قبل البعثيين عموماً بأنه عندك موقف سلبي أو عندك موقف تحفظ إزاء صدام حسين، وبعد الحديث المعمق حول هذا الموضوع وعدني وعد شرف بأنه سوف لن يعود إلى بغداد.. الحقيقة... بشكل أدق قال لي أنا ممكن أعود إلى بغداد فترة معينة وسأعود إلى فرنسا ولن أعود... فوعدني أنه سيعود إلى فرنسا ويمكث في فرنسا وسوف لن.. يتحدث، بعدها بحوالي شهرين عاد إلى بغداد، فوجئت بهذا الخطاب، هذا الخطاب الذي ذكرت فقرة منه ) ([1]) وهي أن (صدام هبة السماء للبعث وهبة البعث للشعب )..وقولته الشهيرة الأخرى (إن صدام حسين هو هبة السماء إلى حزب البعث وهبة البعث إلى الأمة العربية).

ومما يجدر بالباحث القدير الوقوف على غوامض هذه التصريحات وأسرار تلك التلميحات والاعلانات, ليكتشف أنها جائت في الوقت الذي كان عفلق خارج العراق وبالتحديد في فرنسا, ولم يكن خاضعا إلى تهديد من صدام أو تخويف من رهطه أو (زلمته) حسب ما كان يسميه البعثييون من قبل, وإنما كانت التصريحات من وحي فكره, ومحض إرادته, ونضج وعيه, وهو الرجل الذي ينظر إليه البعثييون بكامل القدسية ونضج العلمية وتمام الهمة.

حيث أن موفد البعثيين لعفلق كان يؤكد على النقاط التالية كما ذكرها بنفسه:

النقطة أولى: قوله (وحدثته بالعمق حول هذه المسائل) يدل على انه قد اطال البحث معه حول هذه النقاط التي جاء بها والتي لم يذكرها بالكامل ولكن ما أشار إليه, فكان ذلك كافيا للدلالة على أن عددا من البعثيين لا يريدون صدّاما وانهم يرون فيه خطرا على العراق وعلى البعثيين.

النقطة الثانية: قوله (وحملته مسؤولية هذا النهج) وهذا يعني انهم عارفون حقيقة ما سيؤدي مشروع عفلق من تنصيب(هبة السماء) على الحزب الذي اسسه, وعلى العراقيين الضحية لمشروع عفلق.

النقطة الثالثة: وقوله (وذكَّرته بأنه بهذا النهج, نهجك في إبداء الدعم المتواصل.. لصدام حسين، يعني بأنك تدفع صدام حسين لارتكاب المزيد من الجرائم و.. والارتكابات ضد الشعب العراقي وضد البعثيين بالذات) إنما يدل هذا القول على أن أبناء عفلق من (البعثيين) قد شخّصوا له أن ما قد اقبل عليه هو نهج وليس هفوة أو زلة أو بادرة عفوية, وانما سيكون لما يقدم عليه عفلق من المردودات الكارثية والمصائب التاريخية الكبيرة.

النقطة الرابعة:  وتتجلى في قول الموفد لعفلق ( فأرجوك, أنا مُكلَّف من قبل أشخاص !!) يدل على أن الرجل المتكلم إنما هو موفد من قبل شريحة من الحزب عرفت ابعاد وخطورة مشروع عفلق في نهجه البعثي الجديد, ولم تكن تلك كلمات فردية أو تطلعات شخص.

النقطة الخامسة: أما قوله (نطلب من عندك.. لا نطلب من عندك المستحيل, فقط نطلب من عندك أن تستمر في بقائك في فرنسا، لا تعد للعراق وأن تكف عن التصريحات فقط) يعني إنما جاء طلبهم على صيغة إلتماس من قِبَلِ أبناء لأبيهم, وتوسل من قِبَلِ أناس بمرجعهم الأعلى, إن التماس (الرفاق الحزبيين) من عفلق لم يكن ضربا من المستحيل بل هو من الممكن على القائد المؤسس, ويكمن في بقاء عفلق في فرنسا وعدم عودته إلى العراق وأن يكف عن كيل المديح لصدام.  

النقطة السادسة: أرادوا منه فقط في هذا الموقف أن يبين لإبناءه البعثيين أن الإعراض عن التصريحات تكفي لتقنع البعثيين أن المؤسس المقدس عند البعثيين (عفلق) عنده تحفظ من صدام. فقال له موفدهم أن (هذا – الإعراض عن المدح- سيعني مع الزمن (و) سيُفهم من قبل البعثيين عموماً بأنه عندك موقف سلبي أو عندك موقف تحفظ إزاء صدام حسين), هذا الذي كانوا يريدونه من عفلق, ولكنه أراد غير ذلك كما سنبينه خلال مطاوي البحث.

النقطة السابعة: قول الموفد إلى عفلق (وبعد الحديث المعمق حول هذا الموضوع وعدني وعد شرف بأنه سوف لن يعني يعود إلى بغداد.. الحقيقة بشكل أدق قال لي أنا ممكن أعود إلى بغداد فترة معينة وسأعود إلى فرنسا ولن أعود... فوعدني أنه سيعود إلى فرنسا ويمكث في فرنسا وسوف لن يعني يتحدث) يدل على قداسة الشرف الذي تعهد به عفلق لإبناءه الحزبيين الذي آمنوا به حبرا على ورق والتزموا به نهجا غير واضح المعالم يدل على أن قول الشرف كان كذبا محضا كقوله الشرف مع حسني الزعيم في ترك العمل السياسي والابتعاد عن البعث وما إلى ذلك كما بيّنا ذلك في الحلقة السابقة, وتبين أنه تراجع قول الشرف, لأن الشرف عند عفلق يساوي المراوغة والاحتيال, وهذه هي الثقافة التي ربّى عفلق عليه كوادر حزبه وقياداته كما معروف من خلال التاريخ البعثي المر في عراق المقدسات.

النقطة الثامنة: وبهذه النقطة فإن مُوفد (أبناء) حزب البعث (لأبيهم) عفلق المقدس في نظرهم, وبعد هذا الحوار المطول خصوصا من رجل كان له الحظ الأكبر في الاتيان به من البرازيل إلى العراق ليكون إماما مقدسا وقِبلة للبعثيين, وهو (صلاح عمر العلي) يقول (بعدها بحوالي شهرين عاد إلى بغداد), وهذه عبرة كبرى للبعثيين لو كانوا يعتبرون.

النقطة التاسعة: ومن كل الحوار المتقدم يتبين أن عفلق جاء إلى العراق من فرنسا لأمر مهم, ذلك هو ترسيخ اقدام الرفيق البعثي صدام في الحزب ليكون الرجل الوحيد القادر على أن يكرس طموحات عفلق في حزبه ومن حزبه الذي لم يفهمه إلا عفلق نفسه وما باقي البعثيين إلا مغرر بهم ومتورطون به, ولذلك قتلهم واغتالهم واتبع معهم سياسة الإقصاء, وسلك فيهم سبيل الإطاحة والإبعاد.

النقطة العاشرة: إن كيل مديح عفلق لإبنه البار صدام لم يكن الأول من نوعه ولا الوحيد الذي قاله في باريس وانما كان لذلك الخطاب ما سبق وتبعه ما قد لحق, كما سأل المُحاوِر جليسه صلاح عمر العلي بقوله (وكان قبله ..يكيل مديح آخر ؟ ) فاجابه صلاح (نعم.. نعم ..)

ثم يبين صلاح عمر العلي أن عفلق ابدى انه الرجل العجوز الذي لا يقوى على مواجة صدام, وبالتالي فهو لا يريد التورط معه, أو على حد تعبير صلاح عمر العلي: (أنا شخصياً عندما أحدثك عن ميشيل عفلق، أحدثك عن مراحل مر فيها، ولابد أن أكون أمين في هذا الأمر، ولا أسمح لنفسي أن أكون مزور، ميشيل عفلق أنا شخصيًّا طلبت من عنده ووعدني، ولكن بعد شهرين ألقى هذا الخطاب الفاجعة الحقيقة التي.. وقعت على رؤوسنا كالصاعقة، هذا.. هذا ما حصل، طبعاً عندما حدثته برر لي الأمور بأنه يشعر بأنه أشبه ما يكون بالسجين أشبه ما يكون بالمعتقل، ثانياً: أنه أنا وصلت إلى مرحلة من العمر لست قادراً على مواجهة شخص بهذا الجبروت مثل صدام حسين) .

وبهذا فإن تبرير عفلق على انه لا يريد التورط بصدام تبرير واه اوهن من بيت العنكبوت, وبهذا التبرير كان لابد من أن يرفع عفلق ابنه البار صدام إلى مستوى القديسين كما كان عفلق قديسا في نظر البعثيين, وهذه مغالطة كبيرة من عفلق وتوهيما للعامة الذين لا يعقلون, أما البعثيون أنفسهم فانهم ادركوا غلط وجناية ما سيقترفه عفلق بحقهم وبحق العراقيين الضحايا .

ولذلك تجد صلاح عمر العلي يقول (لكن أنا شخصياً لم أقتنع بهذا الأمر، ولذلك طلبت من عنده أنه إحنا (نحن) لا نطلب من عندك تصدر بيان ضد صدام حسين, ولا تهاجم صدام حسين، ولا تفصل صدام حسين من الحزب، إنما فقط تمكث في باريس، ومع ذلك ألقى هذا الخطاب) ([2]) .

النقطة الحادية عشرة: إن تبرير عفلق بأنه رجل عجوز يخاف من سطوة اسمها صدام يدلنا إلى انه القائد المؤسس للحزب العقائدي في زعمهم وصاحب الاستراتيجية المجهولة للفكر المجهول قد حل الحزب يوم اتفق مع جمال عبد الناصر على مكاسب وحدوية خادعة أرادوا منها إحداث انقلاب بعثي على مصر, فاكتشفهم عبد الناصر, وطردهم ,ثم عاد عفلق وحزبه خائبين.

كما تنازل عن حزبه يوم وقع في سجن حسني الزعيم في سوريا, ثم اعتزل الحزب وتنصل عن البعث والبعثيين يوم انزوى في البرازيل حتى جاء به ابناؤه الابرار إلى العراق, وها هو الآن ومن خلال هذا الحديث يعلن أنه الرجل الذي تنازل عن حزبه والعمل السياسي جملة وتفصيلا إلى حسني الزعيم هو الآن يتنازل عن الحزب باكمله إلى صدام, مع الفارق حيث تنازل في الأول إلى رجل مقابل مكاسب معينة وهو القائد المؤسس البعثي (الشاب) النشط, وفي الثاني تنازل إلى رجل ليبيع له حزبه بأكمله, وهو القائد المؤسس البعثي(العجوز) الهرم, فأعلن أن صداما هبة السماء إلى البعث, والبعث بدوره هبة السماء إلى العراقيين وإلى الأمة(العربية) التي أراد تحريرها من هويتها ليسلمها إلى اقدارها الصعبة من اضطهاد وحرمان ومجازر إلى حروب وغزوات واحتلال وما تبعها.     

النقطة الثانية عشرة: أن المتتبع لمنهج الحزب في العراق يكتشف أن عفلق في شهر شباط عام 1964م أوصى بتعيين صدام حسين عضوا في القيادة القطرية لفرع حزب البعث في العراق, أي بُعيد عام انهزامهم في انقلابهم وهيمنتم على الحكم عام 1963 م, وأن اعلاناته بتنصيب صدام هبة للسماء إلى البعث والعراقيين والامة إنما كان بعد سنين من تنصيب عفلق ولده البعثي البار وأمله في الحزب ومن الحزب ليتبوأ مقام الهيمنة على العراق والمعروف بالقيادة القطرية.

وهذا يعني أن عفلق في الفترة التي كان فيها خارج العراق لم يكن لحزيه حكم في العراق (عام 1964)، فكان يرى في صدام الشخصية المستقبلية التاريخية في اداء الاغراض المرجوة من الحزب، وهذا يدل على مؤشر خطير لواحد من اثنين لا ثالث لهما, إما على الغباء الكبير لعفلق, أو على الدهاء الخطير وشدة الخبث, وقد أثبت الواقع المر في العراق أن المؤشر الثاني هو الحق, حيث اختار خليفته (صدام) ليكون الرجل الوحيد المتميز الذي يخدم المشروع المهم الذي لن يفهمه إلا عفلق أو لعل واحدا آخر معه إن كَثُرَ العدد.

 وبعد هذا البيان هل يتوهم اعمى فضلا عن ذي البصيرة أن ما قد فعله صدام في العراق يختلف عما كان قد أراده عفلق ؟

وهل يلتبس على ذي لب وبصر فضلا عن ذي البصيرة أن ما قد صنعه صدام في حزب البعث, وما فعله حزب البعث في العراق غير الذي أراده عفلق من الحزب الذي اسسه واستخلف خليفته المقدس مكانه كما كان هو المقدس في نظر البعثيين من ذي قبل؟ ؟

وبعد هذا البيان وغيره فهل يراد التفريق بين البعث الذي أراده (نبي السماء !) عفلق المؤسس, عن البعث الذي أراده (هبة السماء للبعث والبعث هبة السماء للامة العربية ؟), وبالعبارة الثانية (البعث هبة السماء للعراقيين) ؟

وإذا وجدت من يفرّق رغم وضوح الحقيقة في رابعة النهار فعليه أن يعتبر بمقالة أمير المؤمنين عليه السلام لذلك الذي أراد أن يخلط بين الحق والباطل, فاطلق سلام الله عليه كلمته المشهورة التي صارت قاعدة يحكم بها العقلاء دون غيرهم, كباقي الكلمات النورانية التي نطق بها البيت النبوي الطاهر: (أما الآن فأنت اعور إما أن تعمى أو أن تبصر).

لأن الذي ينظر بعين واحدة إما أن يعالج عينيه ويفتحهما حتى يبصر الحقائق على سعتها, وإما أن يستمر في العور حتى يعمى بصره تماما فيظلمّ عليه كل شيء .

خلاصة البحث

إن خلاصة ما تقدم يمكن جمعها بالحقائق التالية التي غفل عنها عموم الناس فضلا عن البعثيين انفسهم:

الحقيقة الأولى:  لم يكن لعفلق مشروع فكري واضح المعالم

لقد استعرضنا شخصية عفلق وطبيعة فكره الذي تبناه حزبه, واستخلصنا الوصول بالنتيجة التالية إلى أن الفكر الذي تبناه عفلق في حزبه كان فكرا سرابيا لا يستند إلى نظرية واضحة, ولا يعمد منهاجا علميا مكتوبا ومدوّنا كما يفعله المؤسسون لمشاريعهم السياسية . إذ لم يخلف عفلق كتابا منهجيا لحزبه كما حال بقية المؤسسين في العالم, كي يشار إليه بالبنان وترجع إليه اجياله التي يريد تربيتها على فكره.

الحقيقة الثانية: لم يكن لشخصية عفلق المهزوزة مؤهلات قيادية قط

إن فكر أي مفكر أو منظّر لأي مشروع كان, لابد أن يعتمد على شخصية ذلك المفكر بدون أدنى ريب أو شبهة, وكلما كانت شخصية القائد أو المفكر قوية كان فكره قويا ومشروعه كذلك قويا, ذلك أن (كل إناء ينضح بما فيه) كما قال أمير المؤمنين عليه السلام . وفي بحثنا تحت عنوان (مغالطة التفريق بين البعثيين والصدّاميين) استخلصنا القول فيه من أن شخصية عفلق ما كانت قوية على الإطلاق, بل كان عفلق عجوزا منهزما خائفا في عجزه كما كان في شبابه عندما تهجم عليه العواصف السياسية, أو يقع في السجن ويصبح رهن الاعتقال كما حصل له مع حسني الزعيم في وطنه سوريا, وكان متراجعا عن مواقفه كما كان يندد بدكتاتورية سامي الحناوي يوم كان مؤيدا لديكتاتورية الزعيم الذي التمسه العفو مقابل التراجع عن السياسة والعمل السياسي والحزب, فإذا به يقبل بالتعامل مع حكومة سامي الحناوي بعد انقلاب الاخير على الزعيم, ليشغل عفلق حقيبة وزارية في حكومة كان ينظّر على أنها ديكتاتورية.

إن هذه المواقف المترجرجة تدل على شخصية مهزوزة, وأن النفسية المتذبذبة تشير إلى شخصية متذبذبة كذلك, كما أن المواقف الغامضة تنبيء عن الشخصية الغامضة ايضا.

وعليه فإن الشخصية المهزوزة لن تنتج إلا فكرا مهزوزا, والنفسية المتذبذبة لا تصنع إلا فكرا متذبذبا, كما أن الشخصية الغامضة ستكون بارعة في صياغة فكر غامض لمشروع غامض مُبهم.   

الحقيقة الثالثة: الشخصية المهزومة لا تنتج إلا فكرا مهزوزا

إن من ابرز معطيات الفكر المهزوز الغامض عند عفلق هو انه قد أسس حزبا ودعى الناس إليه, فهرعوا منبهرين بشعاراته البراقة في القومية والتحرير والوطنية وما إلى ذلك, ولما أن قوي عوده واشتد ساعده والتف حوله من آمن به اخذ يتمحور مع بعض ابناءه الحزبيين ضد البعض الآخر, الأمر الذي يكشف عن الشخصية غير الابوية على عادة الطيور التي تاكل فراخها بدل أن تحتضنهم وتجمع شتاتهم وهذا يدل على شخصيته غير القيادية وفكره الطارد غير الجامع, فعمد إلى إقصاء القيادات السابقة إليه, والمُسارِعة إلى فكره, والمؤمنة بحزبه, لأنه قد اكتشف منها قوة الشخصية وحدة الذكاء بحيث أخذت تحاكم فكره وتطالب الحزب بالمزيد من الوضوح وتغيير الكثير من الأمور التي لا يرتضيها عفلق فكان في كل مؤتمر قطري لحزبه يقصي بعضا من ابناءه الذي تربوا على افكاره, حتى اقصاه ابناؤه السوريون يوم اكتشفوا لعبته معهم, فلجأ إلى ذات المنهج مع البعثيين العراقيين في حزبه.

الحقيقة الرابعة: الشخصية القيادية المهزوزة تلجا إلى منهج الإقصاء والعنف

إن منهج إقصاء عفلق لأبناءه البعثيين في العراق استلزم الاستنجاد بشخص قوي يؤدي الدور الذي يحقق طموحات عفلق في البعث ومن البعث في العراق, وذلك هو صدام. وإذا كان أبناء عفلق من السوريين قد اكتشفوا دوره التحزبي أو التآمري في وسط حزبه فأقصوه قبل أن ينجح في إقصائهم, إلا انه نجح في إقصاء البعثيين من العراقيين بشكل تام, وكأنه استفاد من التجربة السورية, بحيث كان اقصاءه لهم هذ المرّة يعني النفي التام بموجب البرمجة الدموية على يد (هبة السماء) للبعث وللعراقيين وللعرب من خلال الاعدامات والتصفيات الجسدية كما حصل للكثير من إبناءه البعثيين. ولذلك عيّن (صداما) ليكون في مقام قيادة البعث في العراق خلال العام الأول من هيمنتهم على العراق وذلك على أعقاب 1963 وبالتحديد في شباط(فبراير) عام 1964, وتبع ذلك تصريحات عفلق بمنحه صدام وسام (هبة السماء).

الحقيقة الخامسة: الشخصية الضعيفة تستأنس إلى مبايعة المتهور أو الاستعانة به

عادة ما يبحث الرجل الضعيف عن ركن شديد يستعين به, أو إمام شديد يبايعه, أو عنصر قاس ينصبه مكانه إن كان قائدا ضعيفا, لأن القائد الضعيف يبحث عن نائب له يسد به نقص شخصيته.

وعفلق رجل ضعيف باعترافه هو, ولذلك فهو يحتاج إلى بعثي عنيف مع البعثيين حتى يمكنه تنفيذ المنهج الذي يريده عفلق من حزبه ليصنع منه عصابة عنيفة مع العراقيين, فكان إعلانه (هبة السماء) لهذه المهمة, الأمر الذي يدل على معرفة عفلق بشخصية صدام الدموية العنيفة ودوره في إقصاء كل البعثيين الذين يريدون من هذا الحزب ولهذا الحزب فكرا ومنهجا واضح المعالم, الأمر الذي لايريده عفلق لما سيطيح أولا برأسه ثم بمشروعه وحزبه, ولهذا وقع اختيار عفلق على تعيينه (هبة السماء) صدام.

النتيجة: ما قام به صدام هو من نتاج المشروع الذي صنعه عفلق

بعد كل هذه المقدمات والحقائق يمكن للباحث العلمي النّزيه الخروج بالنتيجة التالية وهي:

أن حزب البعث حزب ذو شعارات براقة واهداف سرابية, وهو الأمر الذي اكتشفه ابناءه الذين تربوا عليه فكانوا يريدون التصحيح والتعديل والتوضيح, الأمر الذي يكلف عفلق ثمنا باهضا, ولكي يحافط عفلق على نفسه وحزبه وسمعته والاهداف المرسومة من تاسيسه بشعارات خادعة ما حررت ارضا ولا انقذت شعبا بل أهلكت الحرث والنسل وأبادت الإنسانية واعدمت البشرية وجرت على العراق الويلات والحروب الطائفية والكوارث الإنسانية والاقتصادية والحضارية. ولكي يبقى هذا الحزب كما يريده عفلق لا بد من أن ينصب صدّاما ليصدم به جمجمة كل من يعارضه بفكرة أو يشاطره برأي , أو يناظره بكلمة.

وعليه فيجب القول بأن ما قد اقدم عليه صدام من الكوارث بحق حزب عفلق وبحق الشعب العراقي هو من جرّاء تطبيق فقرات المشروع الذي أراده عفلق من حزبه فقرة إثر فقرة. إذا لم يخرج صدام عن مشروع عفلق ومنوياته واستراتيجيته من حزبه في العراق وطموحاته في الأمة التعيسة التي بايعت وسالمت وسلّمت قيادها لهذا الحزب.

وعليه فإن مشروع عفلق من حزبه في العراق قد بدأ بالفصل الأول في تطهير قياداته التي اكتشفت خواء المنهج في الحزب, ثم انتقل إلى الفصل الثاني في تأصيل قيادة كفؤة تنفذ منوياته في الحزب ومن الحزب فكان تنصيبه لهبة السماء (صدام), أما الفصل الثالث فيكمن في تجذير مشروع البعث الحقيقي في العراق (مشروع عفلق – صدام) في وضع الأسس اللازمة لتدمير البلاد وإرهاب الشعب, والاعتقالات العشوائية, وانتهاج معالم المشروع الأموي في الأخذ على التهمة والظنة, وسلوك السبيل العروبي في المجازر الجمعية, والمنهاج القومي الطائفي في المقابر الجماعية, وما ذلك كله إلا بمباركة خاصة من عفلق نفسه, كما سنبينه في الحلقة القادمة بحول الله تعالى.


[1] -  صلاح عمر العلي في حوار مع قناة الجزيرة  الحلقة السادسة من برنامج شاهد على العصر بتاريخ: 22/06/2003

[2] - صلاح عمر العلي في حوار مع قناة الجزيرة  الحلقة السادسة من برنامج شاهد على العصر بتاريخ: 22/06/2003,.

شبكة النبأ المعلوماتية -الاحد 18 / ايلول/2005 -13/ شعبان/1426