بمثابة قراءة تاريخية لجذور الإرهاب..

عقيل يوسف عيدان *

حين كانت الدولة الإسلامية في أوج عظمتها وازدهارها وبشكل خاص في عهد حكم الخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ/833م) لم تكن تخشى من الآخرين وثقافاتهم ومعارفهم وانفتحت على كل علوم الدنيا وفلسفاتها ودياناتها ، وقامت حركة ترجمة واسعة لمختلف الفلسفات والعلوم والمعارف المعروفة آنذاك ، وتحوّلت بغداد عاصمة الدولة الإسلامية إلى ساحة تتفاعل فيها جميع ثقافات الشعوب وأنتجت عشرات المدارس  الفكرية ، وفتحت أبواب الاجتهاد بشكل واسع استناداً إلى القاعدة الذهبية ( للمجتهد أجران إن أصاب وأجر إن أخطأ ). وبرز كثير من الفلاسفة والعلماء الكبار الذين ما زلنا إلى اليوم نحتفي بإنجازاتهم المعرفية والعلمية العظيمة.

وعلى الرغم من أن قسماً من هؤلاء لم تكن بعض أفكارهم تتطابق مع الدين الإسلامي إلاّ أن أحداً لم يجرؤ على تكفيرهم أو الحَطّ من قيمة انجازاتهم العلمية ؛ لأن التجربة حينها أثبتت بجلاء أن العلم لا يزدهر ويترعرع إلاّ في بيئة حرة تماماً تخلو من كل أنواع الاضطهاد والتكفير.

ولكن ، وفي عهد الخليفة المتوكل (ت 247هـ/861م) تبدّلت الأحوال وبدأت مرحلة جديدة من الانحطاط في تاريخنا الإسلامي ، حيث بدأ هذا الخليفة عهده بمحاربة الفلاسفة والعلماء والمفكرين واضطهادهم ، وأحرق الكتب ، وألغى دور العقل ، وأغلق باب الاجتهاد تحت شعار ( من تَمَنطق تَزَندق ) ، وسادت لغة التكفير بدلاً من لغة الحوار وصار ( السيف أصدق انباءً من الكتبِ ) ، ولم تعد الدولة الإسلامية تنتج فلاسفة وعلماء ومفكرين مثلما كانت تفعل في السابق أمثال : أبو نصر الفارابي ، أبو علي بن سينا ، أبو العلاء المعري ، والفخر الرازي وغيرهم ، وذلك بسبب غياب مناخ الحرية الذي أنتج مثل هذه الشخصيات ، فالعلم لا يتنفس مع القيود والمحرّمات ، ولم تعد امكانية الحوار قائمة مثلما كانت ، لأن مثل هذ الحوار لا يتحقّق إلاّ في شرط اجتماعي يعترف بالعقل مرجعاً وبالإنسان قيمة وبالتاريخ حقيقة. وبما أن جميع هذه الشروط غير متوفّرة ، فإن لغة العقل نفياً للآخر وهي التي سادت على مدى قرون عدة والتي يُعاد انتاجها اليوم بشكل واسع.

إن النظرة أُحادية الجانب لتراثنا الإسلامي والتي لا ترى فيه سوى بُعْداً واحداً مقطوع العِلّة بواقعه الاجتماعي والتاريخي ، وتعتبر كلما لا يتطابق مع هذا البُعد الواحد ليس في الإسلام في شيء ، ويجب تكفيره ومحاربته ، وعلى هذا الأساس يُكفّرون الآخرين ويرونهم مرتدّين يجب إعلان الجهاد عليهم.

إن الذين يقرأون التراث الإسلامي بطريقة إسقاط الماضي على الحاضر ويرون الماضي على أنه في حالة سكون ثابتة تجعله غير قابل للتغيير والتحوّل فإن ذلك يرجع إلى قراءتهم للحاضر نفسه.

إنهم يحاولون حصر مفهوم الحاضر في كونه امتداداً صرفاً للماضي ، امتداداً جامداً يتماثل فيه الحاضر بالماضي تماثلاً كاملاً. إن التراث في منظور هؤلاء لا يخرج عن كونه جوهراً ثابتاً موجوداً أزلياً خارج نطاق الجهد الإنساني. أي خارج مجال حركة التاريخ ، فهو هنا يأخذ موقعاً سُكونياً منعزلاً عن حركة المجتمع بينما من المفترض أن يكون لكل خطاب تراثي حدوده الزمنية والبيئية.

لذا لا يصحّ النظر إلى شيء من التراث إلاّ في حدود هذه الشروط والحدود. أي أن علينا أن نأخذ بالحُسبان عند قراءة التراث تلك العلاقة النسبية بين التراث وبين زمنه وبيئته التاريخيَّتين.

وعلى هذه العلاقة يقوم تاريخ التراث الإنساني وتتواصل حيويّته ويتعاظم شأنه ، وعلى هذا الأساس ينهض كذلك بناء وحدته المتماسكة بين الماضي والحاضر والمستقبل ، وكذلك فإن المهمة الأساسية أمام كل المثقفين اليوم هو العمل الواعي والجاد لرفع كابوس هذا الاضطهاد التاريخي لتراثنا الإسلامي ، وإعادة الاعتبار لكل ما هو حي في عناصره وكشف الصِّلة بين ماضينا وحاضرنا لاثبات الأصالة في ثقافتنا المعاصرة وتطويرها.

* باحث في الفلسفة الإسلامية والفكر العربي ، من الكويت.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية -الاثنين 5 / ايلول/2005 - 31 / رجب/1426