الطريق الثالث للوحدة الإسلامية

بقلم: أحمد شهاب

عندما اراد بعض نواب التيار المحافظ الدفاع عن الدين والتاريخ الاسلامي والذب عن رجاله، لم يجدوا افضل من اقتراح قانون يعاقب المتجاوزين بالسجن والغرامة واسقاط الجنسية، ولم يجد بعض الكتاب ترددا من دعم هذه المبادرة والتأكيد على ضرورتها، دون ان ينتبه هؤلاء الى ان دعم الحرية اولى من التحرك لحجبها، اذ ان الحجب مهما بدا صارما، لا يمكنه ان يقف في وجه الرأي أو الحد من انتشاره، هذا ان لم نقل ان حجب الرأي يساهم في انتقال الرأي من الظل الى دائرة الضوء.

على ان هؤلاء انفسهم لم يبادروا يوما للمطالبة بإنصاف اشقائهم في الانسانية والوطن وان تعرضوا للتهميش، أو المطالبة بسن قوانين تحافظ على حقوق اخوانهم في الدين من الذين يختلفون معهم في المذهب، حيث ظل الاختلاف المذهبي حاجزا يمنع هولاء وغيرهم من مناشدة الحق وارجاعه لاصحابه، طالما صنف اصحاب الحق على انهم من مذهب مختلف، وهو ذاته السبب الذي دعا نوابا وكتابا آخرين الى المطالبة باغلاق الحسينيات على غرار اغلاق اكشاك الجمعيات الدينية، رغم ان الاتزان النفسي والديني يفترض ان يدفعهم للدعوة الى المطالبة بافساح المجال للجميع، لا المطالبة بالسوية في الظلم.

عمليا يمكن الرد على هذه التصرفات بتصرفات مشابهة، لكنه في المحصلة سوف يضع الجميع في خانة الضعف والهزل، وسينتهي الجميع الى معركة الرابح فيها مهزوم، والكل في نهاية المطاف سوف يدفع ثمن الاحتقان المذهبي باهظا من ذاته أولا واخيرا، سواء عند تدني اخلاقيات الحوار والتفاهم الى ادنى مستوياتها، أو عند بروز حالة من التناقض الداخلي مع النفس، اذ ان الدعوة الى ارساء العدل وغض النظر عن المظلوم - ان كان ينتمي الى مذهب آخر - قد يحقق مكاسب عاجلة لكنه في الحقيقة يشوه ذات الانسان، ويدمر كل القيم الجميلة التي يحملها في داخله، مثلما تعمد بعض اللجان الخيرية من الاحجام عن مساعدة الفقراء اذا انكشف لهم ان الفقراء ينتمون الى المذهب الآخر، وكما تغفل جهات اعلامية عن الدفاع عن المضطهدين بسبب انتمائهم الديني والمذهبي.

لكن من الناحية النظرية، فإن المعضلة سببها: توقف نظرية الوحدة عن الارتقاء والتكامل في المجتمع، ففكرة التعددية وهي من الافكار الرائدة والهامة، وهي احدى حلقات تعزيز الوحدة، توقف المفكرون عند مرحلة التبشير بها، بدلا من ان يستكملوا حركة التنظير الفكري حولها ويعيدوا صياغتها من جديد، في سبيل وضع التعددية في موقعها الملائم من نظرية الوحدة، فأصبحت التعددية مثل كل الأفكار الهامة التي تختزنها ذاكرتنا لكن دون ان يكون لها اثر متواصل وفعال.

ومن المعلوم ان التعددية لا يمكن ان تكون بديلا عن الوحدة، بل هي احد ابرز ادوات الوحدة، وموقع التعددية من الوحدة موقع القلب الذي لا يمكن الاستغناء عنه، لكنه لا يتمكن - في أي حال - من ان يكون بديلا عن الاعضاء الاخرى، فالتعددية في جوهرها عبارة عن مشروع لحل التعارضات الناجمة عن اختلاف الافكار والآراء والمذاهب، بينما الوحدة هي مشروع انجاز امة ناهضة وقوية، كما تعتبر التعددية اداة هامة واساسية لازالة معوقات التقدم، فيما تعتبر الوحدة حجر الاساس لانطلاق الامة الى مرتقيات افضل واشمل.

ومن الطبيعي ان يؤدي الانشغال الدائم بحل التعارضات والنزاعات، والعمل على وضع هدنة عدم اعتداء، وهدنة وقف اطلاق نار، وهدنة احترام متبادل، بدلا من الانشغال في النهوض بالامة وخلق واقع جديد، الى تصدع الهدنة وانهيار الاتفاقات المشتركة برمتها عند اقرب لحظة حرجة، ويكفي ان يبادر بعض المهووسين الى نشر مقال أو طباعة كراس طائفي، حتى تعود لغة الكراهية بلسان لا يذكر الله الا قليلا، وتنهار كل آمال التعاون والالتقاء، وتتحطم كل الاتفاقات والوصايا والحدود.

من هنا تظهر اهمية مراكمة انجازاتنا المعرفية في مسألة التعددية، ووضعها في سياق جديد بعيدا عن التكرار لاستكمال مسيرتها في خدمة مشروع الوحدة، فمن المهم الآن الانتقال الى مرحلة التفكير في ممكنات الوحدة، ورغم ان البعض يرمي بظلال الشك على دعوة الوحدة، اما باعتبارها اطروحة مثالية غير قابلة للتنفيذ، أو اعتبارها دعوة قسرية تناقض خصوصيات الطوائف والملل، الا انني اعتقد ان الأوان قد حان منذ زمن للعمل اولا على تهيئة نظرية الوحدة ثم العمل تاليا على تنفيذ مشروع الوحدة وانجازه بجدارة، عبر تعميق المشتركات بين المذاهب، وتفتيت معوقات الاقتراب.

ويبدو لي انه لا يزال لدينا خلل كبير في النظرية وقصور في تطويرها، وهو محور الاشكال الثاني، فلا يزال البعض يعتقد ان الوحدة لا تكون الا عبر اعتراف احد المذاهب بأن كل قناعاته وعباداته وشعائره الدينية خاطئة، وان الوحدة تبتدئ بإعلان التوبة وطلب العفو والغفران، بينما الوحدة لا تتطلب اعلان توبة بقدر ما تتطلب تفعيل قيم الدين (العدل والانصاف والحقوق الانسانية المتكافئة)، أو الصمت واقامة الصلاة عند الفتنة بدلا من الدخول في حلبتها والمساهمة في تأجيج نارها.

ويرى البعض ان تحقيق الوحدة يتم عبر ثلاثة طرق، الاول: الوحدة القسرية، وهو ما يتم من خلال عملية الادماج القسري، ومحاولة تلوين المجتمع بلون واحد بالقوة وسلطة القانون، ومن المؤكد ان هذا الطريق لا يحقق الوحدة بل يزرع الشقاق والفرقة والكراهية، والالتفاف على القانون، والثاني: الوحدة الوقتية، وهو ما يتم عبر الاتفاقات الجانبية بوقف حملات الاعتداء، وتقدير ظروف المرحلة، وقبول كل طرف لوجود الآخر من اجل المصلحة العامة، وهذا الطريق برغم اهميته ودوره في تخفيف الكثير من التوترات في العلاقات الاسلامية الداخلية، الا انه لن يرتقي اذا لم يتم ربطه بطريق اسرع واكثر ثباتا، اما الطريق الثالث: والذي اقترحه هنا، فهو الوحدة التكاملية، عن طريق تفعيل حركة التفاهمات الداخلية في الامة، ورفع الشعور بالحاجة المشتركة التي تلزم المذهبيات بالتكامل، والتفكير المشترك، ويبدأ هذا الطريق من رفض الطريق الاول «الوحدة القسرية»، واعادة رسم خارطة الطريق الثاني، والانتقال به الى مرحلة جديدة «الطريق الثالث» والذي ينظر الى الوحدة كمشروع استراتيجي غير قابل للتوقف عند مرحلة أو اتفاقية، كما لا يمكن ان يتحطم بارادة البعض واثاراته مهما بدت بغيضة.

ومن بين المسائل التي اعتقد انها تدعم الطريق الثالث، وتساهم في تمكين الوحدة التكاملية عمليا، الترفع عن حجب الرأي والرأي الآخر، والابتعاد عن تشريع قوانين لقمع حرية التعبير، والكف عن تكميم الافواه أو دعم هذا المنهج، والاستعداد لعمل مراجعات نقدية داخلية معمقة عند كل مذهب، وان اتسمت بالصرامة والشدة، فثمة قضايا واحداث يجب ان نبسط فيها البحث بصورة جديدة وملائمة حتى نتمكن من سبر اغوار التاريخ بمبضع الباحث عن مكامن القوة والضعف، واستجلاء افضل سبل النمو والعمران، وهو ما يتطلب توسعة حرية البحث وضمان حق التعبير، وليس الغلق والتضيق والعقاب كما اقترح البعض.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية -الاربعاء 31/ اب/2005 -25/ رجب/1426