أفكار من أجل العراق الجديد

بقلم :م.غريبي عبد الملك

إن من أعظم المسؤوليات في أن نكون شيعة مسلمين تكمن في انتمائنا إلى أفضل الخلق النبي الأعظم (ص) وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام ،صنو القرآن الكريم ، ولا أحد يجارينا في هذا الإنتماء العظيم أي التشيع ، الذي هو صميم الإسلام وصمام الأمان في الفتن والملمات التي يتعرض لها المسلمون ، إنه سر التفوق والنباهة غير المسبوقة في تاريخ الرسالات في هذه الدنيا ، ولكن كيف نستوعب ذلك ؟

عندما قام شيعة أمير المؤمنين عليه السلام الأوائل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنتجبين بقفزة نوعية كبيرة بتأكيدهم لبيعة الغدير ، كانت هناك عدة مخططات وتهديدات تريد منهم أن يتقبلوا تغييرات كثيرة في أسلوب الإسلام تصب بصورة فاضحة في دحض أصل من أصول الدين ، ومما يبرز بشكل خاص في هذا الإطار التاريخي ، أن الحديث عنه اقتصر حتى الآن غالبا على الجوانب النظرية ولم نجد إلا قلة من المؤرخين والمحللين حددوا نتائجه الملموسة فيما يسمى بالخلافة الراشدة وترشيد الخط الإسلامي والحفاظ على بيضة الإسلام ، لم تتغير علاقتهم الروحية والفكرية مع الإسلام في ظل الصراع اليومي للوجود ، ورغم افتقارهم إلى العضلات القوية والمناصب الحساسة إلا أنهم استخدموا عقولهم أكثر من اعتمادهم على القوة لكي يتمكنوا من التفوق على جبابرة زمانهم ، لقد طوروا براعتهم السياسية والاجتماعية من خلال وعيهم العميق للولاية من أجل تتبع وتركيز وترشيد الحركة الإسلامية وبرعوا في مهارتهم الإصلاحية في سبيل تحقيق الإستراتيجية الإسلامية في الواقع ، ولنا في سلمان المحمدي وأبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر رضوان الله عليهم ، والثلة الطيبة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام الذين استوعبوا التشيع استيعابا كبيرا مما ركز استعدادهم لقبول المخاطر ، وبمعنى آخر كانوا أكثر حنكة وشجاعة وتواصلا بإمام زمانهم عليه السلام فسموا " صناع التاريخ الإسلامي " ، هذا ما مكنهم من الوصول إلى الدرجة الرفيعة ، فمن خلال تطور فكرة التشيع لديهم أصبحوا صناع التاريخ الإسلامي المشرق من الدرجة الممتازة ، إلى درجة أن منهم من أدرك عهد الإمام الحسين عليه السلام فلبى النداء الإلهي المتمثل في خروج أبي عبد الله عليه السلام للإصلاح ، وقد كانت التضحيات الكبيرة لشيعة أهل البيت عليهم السلام عبر التاريخ واستعدادهم لتحمل الأمر العظيم (*) واحدا من أهم عوامل قصة الإسلام المحمدي الوجود ، الحسيني البقاء .

فكلما استشهد شيعي ، فإن التشيع يولد من جديد ، كل شهادة سواء في درب العلم أو القتال أو الإصلاح ككل ، وسواء أكان في عراق كربلاء أو كربلاء العراق كان مردها بشكل كلي إلى شهادة الحسين عليه السلام الإمام الذي تقبل المخاطرة لإحياء العدل الإلهي في الأرض .

فكل لحظة حاسمة تتضمن في جوهرها قرارا ذو حدين ، إما التوقف أو الإصرار على المضي قدما لمعالجة معضلة معينة ، وكل حركة غير مجربة بعد تمثل مجازفة جدية  وكبيرة والفشل في هذه الحال سيكون ذو عواقب وخطيرة ، بل وربما قاتلة ، ولكن بعد قراءة سيرة أسلافنا الشيعة وتميزهم بالشجاعة الولائية اللازمة في صراع البقاء ، سرعان ما يشمل هذا التميز جميع جوانب حياتنا دونما إبطاء ، ويصبح دخول المخاطر من خلال تبني النهج بأفكار جديدة من الأمور البديهية بالنسبة لأوضاعنا.

ولكن ماذا عن الإرهاب ؟ إنه لا تنقصه الشجاعة الخبيثة ، لماذا لم يصلح الوضع الإسلامي ؟

الجواب بكل بساطة هو أن أسلافنا كانت لهم عقول مؤمنة ونفوس مطمئنة أفضل من عقول ونفوس هؤلاء البشر ـ الدواب بل هم أضل سبيلا ـ مشكلة الإرهابيين أيها الأحبة يظنون أنهم تمكنوا من تحقيق تقدم تاريخي ثوري كبير ليس للإسلام بل لدينهم الذي صنعته أهوائهم واستخدمت أيديهم في العراك والقتل والنهب والفساد وألسنتهم في السباب والشتم والتكفير ..

هذا هو تاريخ الإرهاب السلفي ، أصبح الشيعي في فكره مشركا يباح سفك دمه والعميل مجاهدا والعالم المجاهد خائنا ومرتدا ، هؤلاء خوارج هذا الزمان يجوبون الأرض طولا وعرضا ، ويوزعون صكوك الإيمان والكفر والردة وما إلى ذلك من عناوين قاموس السلفية الوهابية كما يشاءون ، حيث لم يعد غريبا التنبؤ بمستقبل  هذا السرطان السلفي الصهيوني سلبا أو إيجابا .

ولكن أيها الأحبة ذووا النباهة  تحت أي من الظروف يمكن استئصال هذا الوباء أو الورم بشكل جذري ؟ الجواب هو:  أن الأمن في العراق وكل البلاد الإسلامية وبلدان العالم يتطلب نخبا واعية  استثنائية في المجتمع.

فطالما يعيش الناس الحياد ، لن يذوقوا حلاوة الأمن إلا الشيء القليل فقط ، وكما يعبر عنه في علم النفس الإجتماعي أن الفوضى الإجتماعية المفرطة غالبا ما تقود إلى تفعيل الموهبة الإنسانية للتغيير والإصلاح(1) ففي العراق الحبيب على سبيل الثقل الحضاري لا الحصر ، تظهر الحاجة إلى النهوض للتغيير السليم  من أجل تحقيق السبق مقارنة بالعدو المتعدد ، وعندما يتأسس العراق الجديد ، وتتحسن الظروف الإجتماعية والسياسية والاقتصادية تتحرك أيضا الموهبة العراقية للبناء والتجديد .

لعل الأمور تبدوفي الواقع بشكل مختلف ، لأن الإرهاب يرمي بأوزاره في كل اتجاه ، والعملية السياسية تمر بمرحلتين :

المرحلة الأولى: تدور حول الرغبة في عمل عراق جديد ، وموضوع المرحلة الثانية: تحرك المجتمع لتأصيل هذا التجديد وتبنيه ، إلا أن بعض العراقيين لا يقبلون هذا التجديد بسهولة ، خاصة عندما يكون مصدره المثلث العراقي اليتيم (2) . نواجه إذا في هذه الحالة تناقضا هاما : كل ما كان العراقي أكثر وحدة ،كانت قدرته على وضع إحدى لبنات العراق الجديد أكبر على الأغلب ،وكلما كان طائفيا أكثر زاد إنكاره لعراق واحد.

من هنا يظهر أن هناك عراقا: جنينيا " يتراوح بين العقل والهوى ، وفعلا نلاحظ أن معظم الشرائح العراقية تعيش هذا التذبذب ، مع وجود بعض الاستثناءات المثقفة والعلمائية .وتبقى قصة روافد العراق الجديد لها الكثير من العرابين ، كما أن لها منذ بدايات الخمسينيات الكثير من المتتفائلين ، رواد من السياسيين الحالمين وتجار منفذين واقعيين يحاولون تفعيل سياسة إنجلترا " فرق تسد " وبنفس الشكل يساهم شركاء الاحتلال المتعدد الجنسيات ، إلا أن هناك سر عراقي كبير جوهره يقوم على عدة ركائز : العراق بنية اجتماعية متكاملة وعلى قد كبير من الكفاءة ، هذا يشمل شبكة العلاقات الإجتماعية ، بالإضافة إلى ذلك فإن العراق يتمتع بقدر عال من التكافل الإجتماعي ، والمساجد العراقية السنية والشيعية مفتوحة على جميع النواحي المعاملاتية والقانونية ، حيث تمتاز بأن تدين العراقي هو التدين الأكثر حرية وانفتاحا على الصعيدين  الإسلامي والديني العالمي العام إلى جانب نظيره اللبناني .

وتشكل العشائر النواة الأساسية للمجتمع ومركز الاتصالات والطاقة الشعبية في إحقاق الأمن والإستقرار ، كما أن  أحد ركائز وأعمدة الإجتماع العراقي يتجلى في التاريخ المجيد الذي يتمتع بإنسانية عالية جدا وموروث ثقافي نادر في المجتمعات الأخرى .

بالتأكيد ما يزال هناك الكثير من الواجب عمله ، إلا أنه توجد الكثير من الخصوبة الإجتماعية التي يمكن أن تكون منطلقا للعراق الجديد .

ومن روائع الإمام علي (ع) :" إذا بني الملك على قواعد العدل ، ودعم بدعائم العقل ، نصر الله مواليه وخذل معاديه " (3) .

لا بد أن المهم في العراق الجديد هو العدل والعقل بعد الأمن والإستقرار، حيث يجب إجهاض الأعمال الإرهابية في العراق قبل ولادتها . والذي يجب أن يبقى ملحوظا في الختام هو شيء واحد : وحدة العراق الجديد ، ومن يريد أن يعرف كم يمكن للعراق أن ينهض ، عليه أن يدرك صعوبة أن تطمس فضائل أمير المؤمنين يعسوب المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام ، وفي ذات الوقت يجد في كلمة الرافدين عمقا فكريا رساليا يبدو وكأنه انطلق مع آدم عليه السلام ، وأشرق مع شهادة الحسين عليه السلام .

وعلى أية حال نقول لأعداء العراق ولبنان والإسلام والمسلمين " فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون " (فصلت /15)

إلا أن هذه الآية ستبقى في معمل الوعي الإرهابي والصهيوني الأمريكي لفترة طويلة دون تفاعل لأنهم قوم يجحدون .

إلهي عظم البلاء وبرح الخفاء ، وانكشف الغطاء وانقطع الرجاء وضاقت الأرض ومنعت السماء وأنت المستعان وإليك المشتكى وعليك المعول في الشدة والرخاء .اللهم صل على محمد وآل محمد وإفعل بالعراق ما أنت أهله وصلى الله على رسوله والأئمة الميامين من أهله وسلم تسليما كثيرا .

[email protected]

كاتب جزائري


(*) حديث شريف " إن أمرنا صعب مستصعب لا يقدر على حمله إلا ملك مقرب أونبي مرسل أورجل امتحن الله قلبه للإيمان "

 (1)الأزمة تلد الهمة

 (2)  الشيعة والسنة والأكراد والتركمان الوحدويون 

 (3) ميزان الحكمة ص 189 ح 18699

شبكة النبأ المعلوماتية -الاربعاء 10/ اب/2005 - 4/ رجب/1426