ثلاثة في العراق لو أنطقهم الله لقالوا: نحن هنا!

نضير الخزرجي*

ظلت الولايات المتحدة الاميركية لسنوات مديدة تبحث في طول العراق وعرضه عن اسلحة الدمار الشامل، ولم تعثر عليها لان الرأي السائد حينها والآن وفي المستقبل انها غير موجودة اصلا ولا يمتلكها العراق، ولكن سقوط النظام في التاسع من ابريل نيسان العام 2003 كشف عن امر مروع للكثير من العوائل العراقية المنكوبة بابنائها وبناتها والتي وجدت هروب رجال الامن والمخابرات الى مخادعهم ومساقط رأسهم فاتحة خير لرؤية الابناء وخروجهم من غياهب السجون، لكنهم فوجئوا بخلو السجون والمعتقلات من سجين او سجينة سياسية، ولانه ليس بمقدورهم تصديق الحقيقة المرة، كان البعض يجد عزاءه في البحث عن عزيزه في دهاليز السجون والأقبية المظلمة والعنابر، وبعضهم كان يمنّي النفس ان يعثر عليع حيا فيوحي لنفسه انه يسمع شيئا تحت الارض، فيحفر ثم يحفر ثم يحفر ولا من أثر.

 ولكن اين ذهب مئات الالاف من المعتقلين خلال ثلاثة عقود من حكم صدام حسين؟

المفاجئة المرعبة ان المعتقلين والسجناء السياسيين طمروا تحت الارض شهداء في مقابر جماعية حتى صارت السمة التي اصطبغ بها النظام بعد السقوط، وكان النظام كاذبا في امور كثيرة وصادقا في اخرى قليلة، ولم يكذب القول عندما اعلن مرات ومرات خلو معتقلاته وسجونه وطواميره من سجناء سياسيين وهو في معرض الرد على مطالبة منظمات حقوق الانسان باطلاق سراح السجناء السياسيين والسماح لفرق المراقبة بالاطلاع على السجون، لانه وببساطة اقبرهم جماعيا في حفر هنا وهناك وقال انه طهّر السجون العراقية من اي سجين، وكانت اخر صيحة له اطلاق سراح السجناء من اصحاب الجنح والسوابق، في تظاهرة اعلامية قبل اشهر من السقوط!

ولكن المقابر الجماعية التي يعيش فيها ابناء العراق مغيبين منذ عشرات السنين وبعضها حديثة طرية بطراوة الأبدان، سبقتها مقابر من نوع اخر ولحقتهامقابر من نوع ثالث.

قبل ان يشهد العراق مقابر البشر الجماعية، سبقتها مقابر ورقية ضمت آلاف المكتبات الخاصة التي طمرها اصحابها تحت الارض بعد ان اصبحت شاهد مادي على جريمة مالكها، فصارت كتب من قبيل مؤلفات الشهيد السيد محمد باقر الصدر والفقيد السيد محمد الشيرازي والمرجع السيد محمد تقي المدرسي جريمة كبرى تحمل مقتنيها الى اعواد المشانق، بل حتى ان كتاب نهج البلاغة أصبح جرما ماديا، هذا الى جانب الكاسيتات (اشرطة تسجيل) التي لم تسلم من المنع والحظر مثل محاضرات عميد المنبر الحسيني الشيخ احمد الوائلي ورائد المنبر الحسيني الشيخ عبد الحميد المهاجر والرادود الحسيني المرحوم ياسين الرميثي، فكلها نامت بسلام مع اطلال الكتب تحت الارض او بنيت في جدران البيوت او داخل مفرغات الهواء (بادكير) في البيوتات القديمة، وما من أديب أو مثقف عراقي الا وترك مكتبته الشخصية حبيسة الارض قبل ان يهاجر الى الخارج بما يؤمن او يقسر على الهجرة، وبعضهم طمرها في داره يجلس عندها يناجيها دون ان يستطيع قراءتها تحسبا من خفافيش الليل الذين يتصيدون كل مثقف، وبعضهم راح يكفكف دموعه بكم حسرته وهو يحرق كتبه بيده، كما بكى الشيخ الرئيس ابن سينا من قبل حسرة على المكتبة العظيمة التي احرقها جهّال القصر الملكي غيضا وحسدا!

وشهد العراق في الفترة القصيرة التي سبقت السقوط مقابر من نوع آخر فيها حديد وبارود، انها مقابر السلاح التي تتكشف يوما بعد اخر، وزعها النظام على قطاعات كبيرة من رجاله، بعد ان وجد ان حربه مع القوات الاميركية ستكون على ابواب بغداد اذ لا طاقة له على مواجهة الترسانة المتطورة، وانه أعدّ لها ستة أشهر ضمن خطة المكاونة الكبرى، لكن حزام بغداد الامني والعسكري سقط في اقل من 24 ساعة، وكان رجال صدام يهربون وهم بالملابس الداخلية نازعين عنهم اللباس العسكري كما عكستها عدسات الصحافيين الاجانب، وبهروبهم سقطت اول قلاع صدام واول احلامه بالصمود لنصف عام ومن ثم تعجيز القوات المحتلة ودفعها الى الاستسلام والنزول عند شروطه، في خيمة الدورة او الفلوجة مثلا، على غرار خيمة صفوان!

لكن مقابر الاسلحة ليست كمقابر البشر والكتب، فانها قابلة للحياة بقليل من الدهون والتشحيم، ولهذا نسمع كل يوم عن اكتشاف مخابئ اسلحة هنا وهناك.

لكن ما يميز مقابر البشر والكتب عن مقابر السلاح، ان الاخيرة مزروعة في بغداد وضواحيها صعودا الى شمال وغربي العاصمة، في حين ان مقابر الشهداء والكتب تركزت في شمال العراق وفي بغداد نزولا الى وسط وجنوب العراق، ولهذا عندما تحرك التيار الصدري في كربلاء والنجف عسكريا في العام 2003 و2004، كان يعاني من جدب شديد في الاسلحة وكان البعض يبحث عنها عابرا حدود كربلاء الى النخيب ثم الفلوجة لشرائها ومن ثم المجئ بها على اظهر الحمير في طرق صحراوية بعيدا عن اعين الشرطة والقوات الاميركية والبولندية، وكانت كلها اسلحة خفيفة ليس لها ان تقاوم الاسلحة الثقيلة في الطرف الاخر.

ومن المفارقات الباعثة على السخرية ان مدينة الصدر (الثورة) عندما دخلت في العام 2004 في هدنة مع القوات المتعددة الجنسيات وسلّمت السلاح مقابل اثمان مادية مغرية ليس أقل لفقراء المدينة، كان البعض يتجه الى بعض مدن وبلدات شمال وغرب بغداد لشراء خردة السلاح والاسلحة العتيقة باثمان رخيصة وتسليمها لقوات المتعددة الجنسيات على انها من الاسلحة المخبئة في مدينة الصدر، سعيا وراء الربح المادي!

هذا هو العراق، فلو انطق الله ارضه لقالت مقابر الشهداء الجماعية نحن هنا ولقالت مقابر الكتب نحن هنا ولقالت مخابئ ومقابر السلاح نحن هنا، ولو بث الله الروح في المقابر الجماعية لأنبتت صحارى العراق غابات من الشهداء، لكن النظام خلّف لاهل الشمال ووسط وجنوب العراق مقابر البشر والكتب وترك لسكان ضواحي بغداد وبلدات شمال وغرب بغداد مقابر السلاح والعتاد والمتفجرات يستخدمها البعض في حصد ارواح الأطفال والنساء وموظفي الدولة تحت دعوى جهاد المحتل.

بالامس حصدوا أرواح العراقيين وهم قعّد في غياهب السجون وطمروها في مقابر جماعية واليوم يحصدونها والعراقيون يسيرون على اقدامهم. بالامس مقابر جماعية تحت الأرض واليوم مجازر جماعية فوق الأرض، وعجلة الاعلام المتمذهبة لا زالت تبحث من بين نحور العراقيين واستحياء النساء وخراب البيوت عن مقاومة شريفة!

صورة قاتمة: في ظلمة الليل، والجو بارد في بداية شهر محرم من العام 1400 هجرية رموا الينا في معتقل دائرة أمن كربلاء بكومة من اللحم، نهضنا اليه، فكان رجلا شيخا طاعنا بالسن، سألناه عن جريمته قال انه من مدينة ابن الحمزة في جنوب العراق اعتقل بتهمة بيع اشرطة حسينية، وانه في الليلة السابقة طلب من الجلادين ماءأً فسقوه بولاً!!.

وفي أحد الأيام زار نائب وزير الداخلية، عزيز صالح النومان (المعتقل حاليا لدى القوات الاميركية) مديرية أمن كربلاء (كان قبلها محافظا للمدينة) ومرّ علينا وتوقف للحظات امام الزنزانة وسألنا عن التهم الموجهة الينا بطريقة أبوية مفتعلة، فكان الشيخ الطاعن بالسن أعلانا صوتا وأجرأنا على قول الحقيقة أمام الجلادين الذين سيسلخون جلدنا ضربا حالما يغادر النومان إن شكونا اليه معاناة التعذيب البدني والجسدي، فاستمع النومان اليه ووعده بالنظر في قضيته!

مفارقة: لا ادري كيف لم تكتشف فرق التفتيش خلال ثلاثة عشر عاما هذه المقابر واكتشف الناس عددا منها بعد السقوط مباشرة، وكيف لم تكتشفها اقمار اميركا الاصطناعية التي كانت تحصى على صدام أنفاسه؟!

*الرأي الآخر للدراسات/ لندن

 [email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية -الاثنين 8/ اب/2005 - 2/ رجب/1426