بلير والجعفري بين ثقافة السلطة وثقافة المعارضة... حادثتان وموقفان

محمد حسن الموسوي

الحادثة الاولى هي تفجيرات لندن يوم الخميس الاسود والتي نفذها ارهابيون باكستانيون , والثانية هي التفجير المروع الذي حصل في المسيب في العراق يوم السبت الدامي ونفذته الزمر الارهابية من تكفيريين وهابيين وبعثيين صداميين.

في حادثة لندن بلغ عدد الضحايا من الابرياء اثنان وخمسون شخصا, اما في حادثة المسيب فبلغ عدد الضحايا من العراقييين العزل المائة اي ضعف ضحايا لندن ناهيك عن الجرحى.

في لندن اختلطت دماء المسيحيين بالمسلمين الذين تحتضنهم مدينة الضباب دون ان يفرق الارهابيون بينهم. وفي المسيب تلك المدينة الجميلة بفراتها وبجسرها المتمييز والذي تغنى به الشعراء (سيبوني على جسر المسيب) امتزجت دماء اطفال المسلمين الشيعة بدماء شيبهم وشبابهم ونسائهم دون ان تاخذ الارهابيين بهم رحمة.

في كلتي الحادثتين المستهدف واحد والفاعل واحد. المستهدف هو الانسان والجاني هو عدو الانسان. المستهدف انصارالحرية والديمقراطية والفاعل اتباع العبودية والديكتاتورية. المستهدف المدنية والتحضر والقاتل الظلامية والرجعية. في لندن ادان كل الاسوياء هذه الفعلة الشنعاء ليسمع صدى الادانة في المسيب وفي البصرة الفيحاء.

لكن كيف كان موقف الساسة في كل من بريطانيا والعراق من الحادثتين؟ وبكلمة اخرى كيف كان موقف بلير من حادثة لندن وكيف كان موقف الجعفري من حادثة المسيب؟ مسؤولان ومصيبتان فكيف تعامل كل واحد منهما مع مصيبته؟

بلير كان في (ادنبرة) يرأس اجتماعات قادة الثمان الكبار التي تستضيفها اسكتلندا . وما ادراك ما قمة الثمان الكبار؟ وما ادراك من قادة الثمان الكبار؟ بوش وشرودر وشيراك وبوتين وبرلوسكوني و... الخ. كان بلير يناقش مع هؤلاء الزعماء شؤون العالم بأسره حينما همس بأذنه احد مساعديه (سيادة رئيس الحكومة حصل عمل ارهابي في مترو الانفاق في لندن) تسمّر بلير في مكانه, كان وقع النبأ عليه شديدا. اكفهرمحياه المبتسم وعبسَّ وجهه المنشرح. غارت مقلتاه وتيبست شفتاه هذا ولمّا يعلم بعد عدد الضحايا من رعاياه .

ترك الاجتماع حين سماع الخبر وسارع الى الاعلام. بدت اطرافه وهو يواسي الامة البريطانية ترتعش ليس من الخوف كما قد يُعتقد بل من ثقل الشعور بالمسؤولية تجاه مواطنيه. وآساهم وتوعد بالقاء القبض على الفاعلين وتقديمهم للعدالة وطلب من ابناء شعبه عدم الانجرار لما يريده الارهابيون من اثارة للنزعة العنصرية والنعرة الدينية بين ابناء الامة البريطانية من مسلمين ومسيحيين وآخرين. سارع الى تبرئة الاسلام من هذا العمل الارهابي وماذا بعد؟ ترك اجتماعات الثمان على اهميتها وقطع زيارته الى اسكتلندا ورجع من حينه الى لندن حيث المصاب.

شكل غرفة للطوارئ (Emergency Room) لمواجهة الخطب العظيم والجلل الجسيم والنابع من اختراق امني . تعهد لمواطنيه بحل مشكلة المواصلات التي تسببت بها التفجيرات بأقرب وقت ممكن. وفعلاً عالج المعضلة وعادت الحياة الى لندن في اليوم الثاني وكأن شيئاً لم يكن.

وخلال ذلك تحدث الى مواطنيه مرتين لا أكثر وفي كل مرة أستغرق حديثه خمس دقائق لا غير وبكلمات واضحة وبسيطة تخلو من أي تنظير او تسطير. سمى الاشياء بمسمياتها ووضع النقاط على الحروف من دون ان يتحدث اليهم عن فلسفة الشفافية او المركب الاجتماعي او رحم المحنة وغيرها من الطلاسم التي بات يستمع اليها العراقيون صباحا ومساءا هذه الايام في احاديث رئيس حكومتهم. هذا هو موقف بلير من مصيبته فكيف كان موقف الجعفري من مصيبة المسيب؟

كان الجعفري قد حطّ الرحال لتوه في طهران في زيارته (التاريخية) لأيران حينما وقعت الواقعة وازفة الأزفة. توقع الجميع ان ينهي الجعفري الزيارة ويقفل عائداً على عجل ليقف الى جنب ذوي الضحايا وليخفف من وطأة المصيبة عليهم بعد ان يزور موقع الحادثة ويعود الجرحى الذين اكتضت بهم المستشفيات ويرفع من معنوياتهم ويطيب خواطرهم فالناس تريد ان ترى من انتخبوهم الى جنبهم في السراء والضراء. تريد ان تراهم في الميدان لكن شيئا من ذلك لم يقع.

مسؤول واحد فقط تواجد مع الناس ذلك هو الجلبي الذي زار المدينة المسبية المسيب والتقى بالمواطنين هناك ولم يكتف ببيانات للاستنكار كما فعل غيره من المسؤوليين ومنهم الجعفري الذي اصر على اتمام زيارته الى ايران بل زاد الطين بلة حينما مددها بعد انتهائها لغرض لقاء مرشد الجمهورية الايرانية وكأن لقاء الخامنئي اهم من ازهاق ارواح العراقيين خصوصا وان المرشد الايراني غير معني بالملفات التي جاء الجعفري لبحثها مع الحكومة الايرانية.

كل ما فعله الجعفري انه (أستنكر) الجريمة وكأنه فرد عادي من افراد الشعب وليس مسؤولا ورئيساً لحكومة من واجبه معالجة الازمات والنكبات وحلها لا استنكارها وشجبها. فاذا كان هذا هو حال رئيس الحكومة لا يقوى على فعل شئ سوى الاستنكار فماذا سيكون حال الاخرين؟

لكم هو الفرق شاسع بين موقفي بلير والجعفري. الفرق بينهما هو الفرق بين من يتصرف كرجل دولة وسلطة وبين من يتصرف كرجل معارضة. فرجل الدولة يقدم مصلحة دولته وشعبه قبل اي شئ آخر بينما رجل المعارضة يقدم مصلحته الشخصية والحزبية على اي شئ آخر.

رجل الدولة من يفكر بعقلية الدولة والامة ورجل المعارضة لا يتعدى تفكيره حدود مصلحته الشخصية او الحزبية.ان الفرق بين الرجلين هو الفرق بين من يتصرف من وحي ثقافة السلطة وبين من يفتقر الى تلك الثقافة وشتان بين الاثنين. ان موقف بلير نابع من شعوره بعظيم المسؤولية الملقاة على عاتقه من توليه منصب رئاسة الحكومة ومن احترامه لمواطنيه وتبجيله لقدسية ارواحهم وسلامتهم. بلير يعي جيدا ما تعنيه الحكمة البريطانية القائلة (Deeds, not words) وتعني نريد افعالا لا اقوالا. ويعلم جيدا انه مسؤول ٌ امام مواطنيه الذين انتخبوه عن اقواله التي يجب ان يحولها الى افعال ومن هنا تجده سارع الى فعل ماذكرناه عند سماعه نبأ الحادثة.

لكن لماذا لم يفعل الجعفري ذلك ايضا وهو (الداعية) الذي يترنم بالقرآن ليل نهار وبقوله تعالى ( يآيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون) وبالحديث الشريف (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)؟

أيعقل ان يكون بلير وهو البروتستانتي اكثر تمسكاً بأخلاق القرآن والسنة من الجعفري وهو الذي فنى عمره يعلم الناس تعاليم القرآن والسنة؟ ام ان في الامر كما يقولون انَّ؟ نعم في الامر انَّ. لكن ما هذه الـ (انَّ) ؟ هذا ما سأبينه في وقت لاحق.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية - الاحد 24/ تموز/2005 - 16/ جمادى الأولى/1426