[newsday.htm] 
 
 
 

 

الحياةُ في المصالحةِ الوطنيةِ بينَ (الأخوةِ)

محمد سعيد المخزومي

الناس من حيث الموقف السياسي صنفان..

قائدٌ ومَقُوُدٌ...

والقائد إما أن يكون محبا للخير, عاملا بالعدل, مؤمنا بالصلاح والاصلاح, متفانيا في حفظ النفوس...

واما أن يكون توّاقا للشر, عاملا بالظلم, كافرا بكل شيء اسمه الصلاح والاصلاح, متعطشا لإراقة الدماء, متلهفا للخراب والفساد والدمار.

فإن كان الأول فهومن أئمة الخير والعدل, وان كان الثاني فمن أئمة الظلم, والجور, والفساد.

وبناءا على هذا التصنيف البشري لطبيعة التابعية في الإنسان, فإن (المَقُوُدَ) من الناس للصنف الأول لابد أن يكونوا من أهل الإيمان بقيم الخير والفلاح, ومن أشياع الحق والصلاح, بينما المقود للصنف الثاني سيكون من اتباع الكفر واشياع الضلال.

ولأن ديدن أئمة الكفرِ, هوالكفرُ بالقيم, والتنكر للإنسانية, ودأبهم التسلط, والإرهاب , والاستحواذ بموارد الحياة, فسيكونون الاقرب إلى الغدر, والاسرع إلى نكث العهود ونقض الوعود, والاحرص على التربص بأهل الحق, والمسارعين إلى التَحَيُّن بالصادقين الفرص, والتدبير, والتخطيط, والاطاحة بهم.

ذلك لأنهم    ينظرون ولا يبصرون إلا أنفسهم, ولا يفهمون الناس إلا من خلال زاويتهم, فيعتبرون كل إنسان, خائن, شكّاكّ, سارق, يريد الاستحواذ على كل شيء في الحياة.

من هنا وجب أن يكون التعامل السياسي مع أئمة الكفر على حذر, بل حذر شديد, ونور وبيّنة لما ينبغي عمله مع هذه الفئة التي لم تكن لتتذوق طعم الحياة إلا من خلال الدم والهيمنة والتفرّد بالقرار, وتعبيد الناس لها.

كما يجب التعامل معهم بما تقتضية حكومة حماية الحياة والاستقرار على الأرض, وليس حكومة العبث بالحياة .

ومن تلك المقتضيات هي:

أولا: العدالة تقتضي أن ينال قتلة الشعب وباعثوا الرعب ومروّجوا الإرهاب, جزائهم العادل وفق قاعدة: (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الأَْلْبابِ) [1].

ثانيا: بالنسبة إلى أئمة الكفر الذين دأبوا على الاستخفاف بالعهود والاستهانة بالمواثيق, لطبيعتهم في ان يشتروا (بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) ولا يعتبروا لقيم الحق معيارا ( فصدّوا عَنْ سَبِيلِهِ) [2].

ولأنهم أهلُ غدر ومكر فَهُم لا يحفظون ميثاقا و(لا يَرْقُبُونَ فِيكم) عهدا ولا (إِلاًّ). وأن كلمة (إلّ) في اللغة هي القرابة والعهد.

وبذلك فهم لا يحفظون لكم عهدا (وَلا ذِمَّةً), وبهذه السجايا والطباع فإن (أُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ) [3] علما أن أقرب القرابة الأخوّة في الدين والمواطنة لأن الناس في المجتمع (إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)[4].

أما إذا عاد أولئك إلى الأمة وعاهدوا الله وشعبهم وواثقوا رعاتها على السلم وحماية الأمن والاستقرار و(تابُوا) عما كانوا عليه من التأليب ولم يكن في رقابهم دماء للشعب مهدورة, وعادوا إلى قيم الحق الذي عليه الأمة ومبادئ السلام التي يعمل عليها الشعب وهي التي سمُاها الله تَعالى بقوله (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) , عند ذلك (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) [5] الذي تدينون العمل به في بناء الحياة, وَهُم بذلك مواطنون لهم مالكم وعليهم ما عليكم, ما داموا على عهدهم.

(و) إما (َإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ ) كما هي عادة المعتدين من أئمة الكفر, وخرجوا على المواثيق التي واثقوا عليه (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) وخرجوا على الأمة وافسدوا استقرارها, وعملوا على الإخلال بالقيم التي تؤمنون بها عند ذلك فانتم في حل منهم (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ) ولا عهود (لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ)[6].

ثالثا: اما المتورطون من الناس مع أئمة الكفر, والمغرر بهم, فتعطى لهم الفرصة, إن تابوا وعادوا إلى أهل الحق الذي عليه غالبية الأمة فلهم ما لها وعليهم ما عليها من الحقوق والواجبات.

رابعا: وإذا ما نكث المتورطون المقودون للباطل, ورجعوا إلى جبهة الظلم التي كانوا عليها, وعادوا إلى كفرهم القديم بالقيم وانتهاكهم الحرمات وغدرهم بالإنسان, فيكون عندئذ عِدادُهم عدادَ أئمة الكفر الذين لا عهد و(لا أيمان لهم).

معالم مشروع المصالحة الوطنية

إن معرفة أبعاد مشروع المصالحة الوطنية يتسلزم بحثا واحاطة بالامور التالية:

الأمر الأول: تعريف الوطنية

لمشروع المصالحة الوطنية في الاصطلاح السياسي مداليل فضفاضة تتشكل وفق مشتهيات السياسيين النهمين إلى الحكم والهيمنة.

حتى صار مصطلح المواطنة عندهم يعني كل ما يريده الحاكم (سواء كان إنسانا أو عملا, أو مشروعا أو غيره, فتحولت الوطنية إلى معنى يدل على صدق الولاء للحزب المستبد, والتفاني في تذليل الناس لإرادة المتسلط, لاى أن اصبح كل من لا يخضع لإرادة الطاغوت ولا يوالي حزبه الدموي فاقدا للوطنية.

ثم تطوّر هذا المفهوم حسب ثقافة العنف لحكومة الطاغوت ليتحول إلى  علامة بارزة على العمالة للاجنبي, فصار الوطني من يتفانى في الذوبان في مشتهيات السلطان.

ليخرج عن الوطنية كل من ينقد الطاغوت ويطالب بالحقوق, لتبلور ثقافة الطاغوت معنى للوطنية بما يساوي الاعدام والتصفية التامة للمعارضة.

وفي زحمة هذا المصطلح وسحقه تحت اقدام الجبابرة ضاع الحق, وتلاشت الحقيقة, وإمّحى طعم الحياة.

إذن ما هي الوطنية وما معناها؟

الوطنية...شأنها شأن كل المصطلحات السياسية التي اندعكت تحت مشتهيات الحكام, الأمر الذي يستلزم ضرورة تحديد معانيها لغرض الوقوف على مضامينها السياسية, ومداليلها الحيوية.

 الوطنية نسبة إلى الوطن, والوطن في معاجم اللغة هومحل الاقامة والسكن, وان الاقامة والسكن كلمتان لهما من المعاني والدلالات التي تحمل معنى الركون والسكون إلى المكان, والاستقرار فيه, وحمل النفس عليه, حتى يصبح ذلك محلا للاستقرار والاستيطان.

ثم أن معنى الاستيطان والتوطن يحمل معنى الإقامة والمكوث الذي يستلزم العمل على البناء والعمارة وترتيب الحياة, وإلاّ فلا توطن ولا إقامة من دون بناء أوعمارة أواستقرار.

والوطنية نسبة الشيء إلى الوطن, والإنسان الوطني هوالذي يحب التوطن بذاك الوطن والعمل على بناءه, وعمارته, وتطويره, وان تطويره يستلزم محبته ومحبة أهله المواطنين معه على تلك الارض.

ومن هذا المعنى اللغوي والمدلول المعنوي للمواطنة, نستخلص القول على ان من يعمل على تدمير البلد, واهانة إنسانه, وتخريب اقتصادة, وتأخير عجلة تطويره, واسقاط هيبته وكرامته أمام الأمم الأخرى, ليس بوطني البتّة.

وعليه فإن المصالحة الوطنية يجب أن تكون مع من يشاطر المواطنين همومهم في البناء, والعمارة, والحياة, لا التفرد والاستبداد, والاستثراء والاستحواذ وغيرها من المفردات التي تسقط وطنية الإنسان وتخل في أحقيته بالمواطنة.   

الأمر الثاني: المصالحة بين الضحية والجلاّد فساد للحياة

أن تتصالح الأمة المظلومة مع أئمة الكفر المعتادين على الغدر ونكث العهود ونقض المواثيق إنما هو عين الإفساد للحياة, ذلك أنه يضع الظالمين والمظلومين على صعيد واحد, ويُساوي بينهم وبين محبي الخير والتواقين إلى إلاستقرار.

ولا يدل هذا إلا على عًيْنِ الغباء إن كان فاعلها من الذين لا يعلمون من علوم الحياة شيئا.

أوعلى عَيْنِ الخبُث أن كان ممن يريد بالأمة شرّا, وبالشعب ضرّا, ذلك من حيث أنه صنعٌ وخيمٌ, وفعلٌ جسيمٌ يقضي المساواة بين الظالم والمظلوم, والمعادلة بين الجائع والمتخوم, كما يعمل على المؤاخاة بين الجزّار والضحية.

في حين أن منطق العدل يقتضي العمل بقاعدة عدم المساواة بين الظالم والمظلوم عملاً بمبدأ (هَلْ يَسْتَوِي هُووَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوعَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)[7].

ومبدأ الحياة يقتضي أن  (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوأَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) 100/المائدة

أما إذا اصر البعض على ذلك فليعلموا إنما هو ظلم بيّنٌ وخطأ فاضحٌ و(إِنَّما يَتَذَكَّرُ) هذه المباديء فقط (أُولُوا الأَْلْبابِ)[8] من بني البشر وحدهم دون غيرهم.

وبناءا على إتقان منطق الحياة ومعرفة قواعد الاستقرار يجب العمل على المصالحة بين الأخوة المواطنين لا بين الذئاب الكاسرة وبين الحَمَلان الوديعة.

حيث أن من يعرف لغة الحياة ويعمل بمنطق العقل يفهم أن المصالحة تقع بين الأخوة دون غيرهم من ظالميهم وقاتليهم وجزاريهم, أما مع الأعداء فلا مصالحة بل هدنة وميثاق.

وان القانون الطبيعي للحياة, والنظام الحقيقي لتشييد الحضارة يقتضي إتّباع الناس لمباديء الحياة, ولوكانت المصالحة الوطنية بين الظالم والمظلوم نظاما تقتضيه طبيعة الفطرة الإنسانية لم يقل مؤسس الحياة (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) لأن الظالم غير الاخ, وأن المصالحة تستهدف الحفاظ على مبدأ (الأخوّة) في الاطار (الاجتماعي) المعروف (بالوطن).

تلك الأخوّة التي لا تتحقق بين المسالم والمحب للإنسانية وبين المتجبر المتعطش للدماء, لأن القاعدة الحاكمة في منطق الحياة تقول (إنَمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[9].

 الأمر الثالث: المصالحة الوطنية بين الإخوة(حياة)

وإذا كانت المصالحةَ بين الأخوةِ المتنازعينَ حياةٌ, فإن المصالحة بين

الظالم والمظلوم, أوبين الذئب الكاسر والحَمَلِ الوديع دمار .

وإذا كانت المصالحة الوطنية بين الاخوة في نزاع أخوي صلاح للمجتمع وبناء للحياة, فإن المصالحة بين الضحية وبين المتمرس على القتل فساد للمجتمع وخراب للحياة, كما يخرج المشروع عن كونه مصالحة وطنية.

أما إذا كان البعض في عراق اليوم يريد المصالحة الوطنية بمعنى ارجاع الناس بعضهم إلى بعض في الحقوق والواجبات والتعاون في البناء, فذلك خير لأن قانون الحياة ينص على أن: (الصلح خير) [10].  لما فيه من المنفعة لصالح المجتمع عموما.

أما إذا كان (الصلح) حسب ما ترتأيه السياسة من منطلق الغاية تبرر الوسيلة, واتّباعا لرغبات سلطات الاحتلال, أوتلبية لسياسة اتباع نظام الاستبداد تحت شعار المصالحة الوطنية, فذلك باطل لما فيه من تسليط الجائر السفّاح على الضحية المذبوح, وبقبوله يخرج المشروع عن مصداق (والصلحُ خيرٌ) ليدخل في مصداق والشر كارثة وضير.

علما أن جميع فقهاء المسلمين أجمعوا على تحريم الصلح المؤدي إلى فساد أمر المسلمين, بقوله صَلَّى الله عَلَيةِ وَآلِهِ وَسَلَّمَِّ: (إن الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرّم حلالا أوأحلّ حراما)[11].

وان من أبرز موارد الحرام وضع أمور المسلمين بيد الطغاة المتفرّدين بمصير الناس, الغائصين بدماءهم, والعابثين في اموالهم بالجور والظلم والعدوان .

وما ذكره الرسول صَلَّى الله عَلَيةِ وَآلِهِ وَسَلَّم من الصلح بين المسلمين ليس إلا من قبيل توجيه الخطاب للمسلمين لغرض مصالحة بعضهم بعضا, أما إذا كانت المصالحة بين المسلمين وبين البغاة منهم, والظالمين لهم, والجائرين عليهم, ممن تحكّموا في الرقاب, وسفكوا الدماء, وانتهكوا الاعراض, فلا يجوز تمكينهم منهم أوتسليطهم عليهم, عبر مشروع المؤاخاة أوما يسمى بالمصالحة الوطنية, ذلك أن حكم البُغاة معلوم في الشريعة الإسلامية وواضح حتى في القانون الدولي.

إذْ لم تجد نظاما في أمة من الأمم يقبل بالمصالحة بين شعبه وبين القتلة الجزارين, والمؤاخاة معهم, لأن مسؤولية نظام الحكم هي إدارة شؤون الناس بمراضاتهم, وبموجب الشريعة الإسلامية تكون الإدارة بمرضاتهم في طاعة الله.

وبعد وضوح معالم هذا المنطق الجلي للغة الحياة, فهل يريد ساسة العراق المصالحة الوطنية بين المحب للإنسانية والوطن وبين المتعطش للدم وتخريب الوطن؟!؟

الأمر الرابع: مشروع إدخال القتلة في العملية السياسية

إن ادخال قتلة الشعب ومروّجي العنف, في إدارة البلاد, أية بلاد كانت مع اقتراح الحكومة وقبول الشعب يشبه إلى حد بعيد مسرحية من نسج الخيال.

وإذا كان لهذا الافتراض مصداق واقعي فهو دليل على فشل الحكومة في إدارة البلاد نحو الخير والصلاح والأمن والرفاه, مما يحدوها لأن تأتي صاغرة, ضارعة, مذعنة لإرادة حكام الامس فتسالم الجزارين على بناء الوطن الذي اخربوه, وتشاركهم قيادة الشعب الذي ذبحوه .

وما هذا الافتراض إلا خيار العاجزين عن العمل بمقتضيات المنطق الحضاري الذي يكسبهم القوة والمنعة (ولهذا المنطق بحث مفصّل سنأتي عليه في حينه بحول الله تَعالى).

وساسة العراق اليوم... أمام خيار بناء البلاد وفق منطلقات الأمم الأخرى وإرادات ساستها وقواعد ثقافتها وبين أن يستلهموا من تراث الأمة الذي يحوي درر الكلم ويضم جواهر الدساتير, وقمم الفهم, وفيه من الرصيد التاريخي الثر الكبير.

 علما أن تاريخنا يحدثنا عن: عبد الله بن عباس وقد أشار على أمير المؤمنين عليه السلام عند انصرافه من مكة حاجّا، وقد بايعه الناس. فقال :

( يا أمير المؤمنين إنّ هذا أمر عظيم يُخاف غوائل الناس فيه، فاكتب لطلحة بولاية البصرة وللزبير بولاية الكوفة، واكتب إلى معاوية وذكّره القرابة والصلة وأقرّه على ولاية الشام حتى يبايعك، فإن بايعك وجرى على سنّتك وطاعة الله فاتركه على حاله، وإن خالفك فادعه إلى المدينة وأبدله بغيره ولا تموج بحار الفتنة.

فقال عليه السلام معاذ الله أن أفسد ديني بدنيا غيري, ولك يا ابن عباس أن تشير..)[12].

إن اشارة ابن عباس تريد من الإمام التعامل مع المعارضة الانقلابية (التي تريد الانقلاب على الحكم) بالمنطلق السياسي المغلوط في أن الغاية تبرر الوسيلة, ليضع  أمير المؤمنين عليه السلام يده بيد معاوية على ما فيه من الخلل والزلل, ومناهج الجهل .

وهوالذي يعلم أن معاوية على سر أبيه القائل يوم الانتهاء من مراسيم تسلم عثمان لخلافة المسلمين, قولته المشهورة على ما رواها الشعبي بقوله:

فلما دخل عثمان رحله دخل إليه بنو أمية حتى امتلأت بهم الدار، ثم أغلقوها عليهم، فقال أبوسفيان بن حرب: أعندكم أحد من غيركم، قالوا : لا، قال : يا بني امية تلقفوها تلقف الكرة, فوالذي يحلف به أبوسفيان، ما من عذاب ولا حساب، ولا جنة ولا نار، ولا بعث ولا قيامة)[13].

وقد كان أمير المؤمنين يعرف حقيقة هذه المعارضة الانقلابية التي ما آمنت بهذا الطريق أبدا إلا راغمة, وبالتالي فهي تتحين الفرص للانقلاب, فيوم قاتل معاوية جيوش المسلمين- على عهد الإمام الحسن-  وغالبهم بالخدعة وغباء المسلمين السياسي اضطر الإمام الحسن عَلَيهِ السَلام إلى مسالمته حقنا للدماء, وعندها دخل معاوية وحزبه ميدان العملية السياسية من اوسع ابوابها, وخطب خطبته المشهورة كخطبة أبيه المذكورة من قبل فقال:

إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا, إنكم لتفعلون ذلك, ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم, وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون, ألا وإني كنت منيت الحسن وأعطيه أشياء وجميعها تحت قدمي لا أفي بشي‏ء منها)[14].

ولمعرفة أمير المؤمنين عليه السلام بهذه النوايا الخبيثة فقد رفض أن يمنح الشرعية لحزب إنقلابي يتحين الفرص للاطاحة بالحكومة الشرعية منذ القِدَم, فقال لإبن عباس (معاذ الله أن أفسد ديني بدنيا غيري, ولك يا ابن عباس أن تشير عليَّ وأرى فإذا عصيتك فاطعني)[15].

ومن هذا الموقف السياسي الكبير الذي تعجز عن فهمه المدارس السياسية المتطورة مدنيّا, يمكن استخلاص العديد من الدروس السياسية والعبر التاريخية التي يحتاجها الساسة المخلصون في العالم.

 وقد رأيت أن أفرد لها بابا خاصا بها لتسليط الضوء على تلك الدروس.

الأمر الخامس: الدروس التي يجب أن يفهمها ساسة العراق

من هذا الموقف التاريخي لأمير المؤمنين عليه السلام من المعارضة الانقلابية التي كانت تخطط للتآمر والتمرد ضد الوطن والحكومة المنتخبة شرعيا, يمكننا تسليط الضوء على الدروس السياسية التالية النافع تدريسها في علم السياسية:

1.  الدرس الأول: تشخيص الحكومة للأهداف الانقلابية للمعارضة

وهذا التشخيص يكمن في أن معاوية أراد التمرد باديء البدء, وعزم الانقلاب على الحكومة التي بايعها الشعب وانتخبها, وهي أول حكومة جاءت عبر انتخاب شعبي متميز لمبايعة خليفة لرسول الله, لم تكن لأحد من قبل ولا من بعد .

2. الدرس الثاني: على الحكومة ألاّ تعمل بالمشورة الخاطئة ولو من مخلص

لما أراد ابن عباس المخلص لحكومة الإمام أن يبادر إلى انتهاج سياسة الالتفاف على الحزب الانقلابي, وذلك بإتّباع منهج الغاية تبرر الوسيلة, واعتبار قوة المعارضة وقساوتها, وفيهم طلحة والزبير ومعاوية وحزبه معه, الأمر الذي يستلزم من الإمام حسب عرف الساسة أن يداهن ويساوم فينفتح- حسب منطق اليوم-  مع هذه المعارضة الانقلابية ريثما يشتد العود لحكومة الإمام فينقض عليه فيعزله إن رأى ضرورة التخلص منه .

 فرفض الإمام تلك المشورة وان كانت من مخلص له مثل إبن عباس.

3. الدرس الثالث: الإمام يلقن السياسيين درسا في عدم المساومة على الحق

حيث رفض الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أن يضع أمور الأمة بيد رجل عُرف بخروجه على القيم الإسلامية وتمرده على الإنسانية هو وأبوه وعشيرته وذووه, وكان لهم الباع الطويل في التآمر على الحق والأمة والإنسانية.

4. الدرس الرابع: الإمام يريد اسقاط القواعد السياسية الخاطئة

إن انتهاج سياسة الغاية تبرر الوسيلة والقبول بالمعارضة الانقلابية وادخالها في إدارة البلاد وإشراكها في العملية السياسية يعني اضفاء الشرعية على فساد معاوية وحزبه وإشراك المعارضة الدموية التي لا تعرف للعهد لَوْناً ولا للميثاق طعماً.

5. الدرس الخامس: تشخيص الإمام تمرس المعارضة لمنهج الهدم

يعرف أمير المؤمنين عليه السلام أن فاقد الشيء لا يعطيه, ففاقد الإنسانية لا يستطيع إدارة الإنسانية, والمتمرس على الهدم والإبادة لا يحسن البناء ولا توفير السعادة.

6. الدرس السادس: معرفة الإمام طبيعة المعارضة

يعرف أمير المؤمنين عليه السلام أن من كانت ثقافته الاحتيال ودأبه التحالف, وديدنه التآمر سوف لن يحسن إلا فن الاحتيال والتآمر, وان المعارضة الانقلابية لا تعرف إلا التحالفات على حساب الحق والعمل الدؤوب من اجل المصالح الحزبية والمآرب الخاصة. وبالتالي فسوف لا تتقن إلا تخريب ما يريد الإمام بناءه خصوصا وان الأمة تنتظر من يبني حياتها, وقد سئمتْ الفتن, وتعبتْ من الويلات والمحن.

7. الدرس السابع: تشخيص الإمام لتاريخ المعارضة

يعرف أمير المؤمنين عليه السلام أن هذه المعارضة الانقلابية لا تريد اصلاحا قط, بسبب طبيعة نواياها وتاريخها وثقافتها ومنطلقاتها المعلنة منها والسرية, وهذا يحرّم تسليمها زمام قياد الناس.

8. الدرس الثامن: منح الشرعية لمعارضة فاسدة توجب دفع الثمن تاريخيا

وهذا ما كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يعرفه, إذ أن قبوله بادخال هذه المعارضة الانقلابية العنيفة ذات النهج الدموي, ومن ثم اقحامها في العملية السياسية ولو لفترة معينة, سيؤدي إلى تقوية شوكتها وتغلغلها في مرافق الدولة الأمر الذي يورط الأمة لأن تدفع الثمن باهضا, إذ لا تتمكن الأمة في المستقبل القريب فضلا عن البعيد من التمييز بين الغث والسمين فيما قد فعل معاوية في داخل الدولة الشرعية, كما تختلط على الأمة مفاسد معاوية إذا ما أخذت شرعيتها من حكومة أمير المؤمنين عليه السلام .

9. الدرس التاسع: الإمام يريد تجنيب (الأمة) ابهض ثمن في مرحلتها الحالية

وهذا يعني أن قبول اقتراح ادخال المعارضة الانقلابية الفاسدة في الحكم وتسليمها أمور الناس يجعل الإمام أمام خيارين صعبين, وعليه أن يختار اسهلهما على الأمة واقلهما خسارة, فكان الخيار الأول يفضي إلى اضفاء الشرعية على الفساد, الأمر الذي يزج الأمة في مأزق هيمنة الفساد عليها بعد أن يتغلغل شرعيا إلى كافة مفاصل الحياة مما يتعذر عليها التخلص منه.

بينما الخيار الثاني الذي يكمن في رفض التعامل مع جهات وأحزاب اعتادت الفساد وتمرست التخريب, ودأبت على العنف, وانتهجت الإبادة. وقد ينجح الإمام مع المعارضة الانقلابية فيطوّعها لإرادة الحق والسلم, وقد ترفض ويشتد عنفها وتتمرد وهو الذي قد حصل, وكان الإمام يرى قبول الخيار الثاني مع ما فيه من الخسائر المرحلية لكنه سيربح هو والامة معه المستقبل والمواقف التاريخية والدروس الثابتة التي ستتعلمها الأجيال منهم.

ولو نظرت اليوم إلى معاوية وحزبه وإلى أمير المؤمنين والمؤمنين الذين كانوا على نهجه, لوجدت التاريخ يمجّد ويذكر من ؟.

 ويذم من ويلعن ؟

  10. الدرس العاشر: الإمام يريد ان يجنب (نفسه) ابهض الأثمان تاريخيا

وذلك لأن الإمام بقبوله التعامل سياسيا مع الحزب الانقلابي العنيف سيفسد على الإمام مستقبل حياته الاخروية فضلا عن الدنوية, إذ أن الله سيسأله إذا ما مكّن الفاسد من الأمة, خصوصا وان مسؤولية الحاكم تبويء المقعد الإلهي الذي أراده الله للصالحين من عبادة فقال(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ )[16].

إذن فالحاكم مأمور أن يحكم الناس بالعدل, وتمكين المفسدين من الحكم يعني اتباع الهوى وغير ما أراد الله ونهى عنه فقال (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ) [17].

والعدل يقضي أن لا تُسلّط الحكومة على مصالح الناس من يُضلون عن سبيل الحق, ذلك أنه عملٌ سيءٌ وعاقبةُ العملِ السيءِ سيئةٌ كما قال تَعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [18].

وعليه فإن أمير المؤمنين عليه السلام كان حذراً فَرِقاً من حرمة تمكين الحزب الانقلابي وتسليمه شؤون الأمة, كما قال لإبن عباس: (معاذ الله أن أفسد ديني بدنيا غيري ..)

وبقي هذا نهج تبعه الإمام الحسين عليه السلام بعد اخيه الحسن, فلم يقل وانا لا ابايع يزيد. بل قال لجميع الحاضرين بما فيهم الأجيال القادمة, وكتب على جبين التاريخ درسا كبيرا, ورسم تاريخا مشرقا يقول: (... ويزيد شارب الخمر, قاتل النفس المحرمة, معلن بالفسق, ومثلي لا يبايع مثله, ولكن نصبح وتصبحون, وننظر وتنظرون, ايّنا أحق..) [19].

وبعد هذه الدروس, فهل قرأ ساسة العراق رسالة أمير المؤمنين عليه السلام.؟!؟

15/حزيران/2005


[1] - سورة  البقرة/179

[2] - سورة التوبه / 9

[3] - سورة التوبة/ 10 

[4] -  كما في قولالامام  أمير المؤمنين عليه السلام / شرح نهج البلاغة ج17 ص33

[5] - سورة التوبة/11

[6] - سورة التوبة /12

[7] - النحل /76

[8] - الزمر/ 9

[9] - 10/الحجرات.

[10] - سورة النساء / آية 128

10- الكافي - الشيخ الكليني ج 7   ص 413  وسنن ابن ماجة - لمحمد بن يزيد القزويني ج 2   ص 788, والجامع الصغير - لجلال الدين السيوطي ج 2   ص 116, كنز العمال - للمتقي الهندي ج 4   ص 365 

 [12]- بحارالأنوار ج : 34 ص : 284

[13] - السقيفة وفدك- الجوهري  ص 87

[14] - بحار الانوار ج44 ص48

[15] - نهج البلاغة ص532

[16] - سورة صَ /  آية 26

[17] - سورة صَ /  آية 26

[18] - سورة صَ /  آية 26

[19] -   بحار الانوار ج44  ص324

شبكة النبأ المعلوماتية - السبت 18/ حزيران/2005 - 11/ جمادى الأولى/1426