اخلاقيات التغيير

التعلق بالدنيا

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: يقول الامام الصادق عليه السلام: (وإذا لم يرد الله بعبد خيرا وكله إلى نفسه وكان  صدره ضيقا حرجا، فإن جرى على لسانه حق لم يعقد قلبه عليه، وإذا لم يعقد قلبه عليه لم يعطه الله العمل به، فإذا اجتمع ذلك عليه حتى يموت وهو على تلك الحال كان عند الله  من المنافقين وصار ما جرى على لسانه من الحق الذى لم يعطه الله أن يعقد قلبه عليه  ولم يعطه العمل به حجة عليه يوم القيامة)...

يمكن قراءة هذه الفقرة قراءة اولى مباشرة، ليس فيها اي مجال من مجالات التاويل، وتكون منحصرة وقتها بالانسان الفرد في حياته، بغض النظر عن مكانة هذا الفرد او موقعه ضمن هذا المجتمع..

وقد تكون منحصرة اذا ذهبنا ابعد من ذلك في مجال التفسير المباشر، في رجال الدين الذين يعظون الناس وينصحوهم، لكنهم في حياتهم يفارقون ماينصحون ويعظون الاخرين به..

ويمكن قراءة هذه الفقرة قراءة تاويلية، حيث كل كلمة فيها تقود الى مضمر يشير اكثر مما يصرح، ليكون الانسان الفرد في حياته، له ارتباط وثيق بموقعه ومكانته داخل هذا المجتمع، وبالتالي ارتباط حياة الاخرين بحياته هو وموقعه ووظيفته، اداءا جيدا او سيئا لها.

 ويمكن لمثل هذه القراءة ان تنسجم مع الكثير من الاحداث السابقة والراهنة، والتي قد تقع في المستقبل، ومن ذلك ايضا اذا اوردنا مثل رجل الدين الذي يعظ وينصح دون ايمان او اعتقاد بما يعظ به وينصح، وتكون الصورة التي امامنا هي وعاظ السلاطين الذين يوجدون دائما وابدا في حواشي السلطان وعلى اطراف ابوابه، وعلى اعتاب نعمه، وقد تشير ايضا الى تجربة من تجارب الاسلام السياسي حين انتقل من صفوف المعارضة الى صفوف الحاكمين بعد عدد من التغييرات في بعض البلدان كمصر وتجربة الاخوان المسلمين، وقد تشير ايضا الى دول انظمتها السياسية انظمة دينية، يحكم فيها رجل الدين ويتقلد المناصب والمراكز الرفيعة فيها، كايران مثلا او كحكومة طالبان ايام تسلطها على افغانستان قبل العام 2001 ، وحتى الاخوان المسلمون في مصر رغم قصر تجربتهم وعدم تمكنهم من الحكم، لكن حتى هذه الفترة القصيرة شهدت هذا التقاطع بين الوعظ والنصح وبين التطبيق.

في شرحه لهذه الفقرة، يعمد المرجع الديني اية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) في كتابه (نهج الشيعة.. تدبرات في رسالة الامام الصادق عليه السلام الى الشيعة) يعمد الى قراءتها من خلال ثلاث زوايا هي: التعلق بالدنيا، واصلاح النفس، والظلم حتى في اقل مصاديقه تحققا والتي لانلتفت اليها.

فالدنيا كما يقول السيد المرجع: (غير مقتصرة على المحرمات، بل تشمل الحلال ايضا.. نعم، التعلق بالدنيا شيء، والاستفادة من نعمها المجردة عن التعلق والتبعية شيء اخر).

تشتمل الدنيا على الكثير من المصاديق منها: المال، والشباب، والرئاسة، والمظهر الجميل، وليس هذا فحسب، فقد عد القران الكريم التفاخر بالاولاد وغير ذلك من الدنيا.

حول الزاوية الثانية، يستشهد السيد صادق الشيرازي بما ورد عن الامام علي عليه السلام: (الا وانه من لم يكن له من نفسه واعظ لم يكن له من الله حافظ). فمن (يريد اصلاح نفسه يحتاج قبل موعظة الاخرين ان يكون له واعظ من نفسه، والا فلن تغنيه مواعظ الاخرين ويكون ممن (وكله الله الى نفسه) فينحرف ويصبح كابوسا يجثم فوق كيان المجتمع).

وهذا مانراه حين يؤثر الانسان الفرد من خلال موقعه ووظيفته في المجتمع على الاخرين عبر سلطة او نفوذ يتيحها له الموقع او الوظيفة، لينحرف عن مسار مايتطلبه الموقع وتلك الوظيفة، ويكون كابوسا فعليا يجثم على كيان المجتمع ككل.

ويستذكر السيد صادق الشيرازي قصة مسلم بن عقيل في الكوفة والاساليب التي لجأ اليها ابن زياد للالتفاف على تحركاته واجهاضها، فهو (اي ابن زياد) قد وعد الناس بمختلف الوعود، ورغبهم بالمال، ناهيك انه دفع الاموال الى البعض وامرهم بتوزيع الاعلام، والمناداة بان كل من يرفع علما منها على باب داره فان ماله ونفسه في امان.. كما اعطى الوعود والعهود الى جماعة اخرين يضمن لهم المناصب والمسؤوليات.

وكذا تمكن من تفريق الكوفة بوعوده، الى عدة اقسام لانجاح خططه الشيطانية للايقاع بمسلم بن عقيل، وقد حدث له بعض ما اراد، حيث تمكن من تفريق الناس عن مسلم بن عقيل، وهذه هي صورة الدنيا التي قال عنها امير المؤمنين بانها اهون عليه من قطعة عظم خنزير في فم مجذوب.

هذا الفعل يحيلنا الى مايحدث راهنا من قبل العديد من السلطات الحاكمة، حين تلجأ الى سلاح التسقيط وترفعه بوجه المعارضين لها، في محاولة لابعاد الناس عن الالتفاف حول تلك الشخصيات المعارضة، لكن زمن بن عقيل يختلف عن هذا الزمن الراهن، فالان قد تعددت الوسائل الاعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي، ولايمكن بحال من الاحوال حجب الحقائق او مصادرتها لجهة معينة مهما اوتيت من سلطات او نفوذ.

حول الزاوية الثالثة التي يقدمها لنا السيد صادق الشيرازي في قراءته تلك، هناك الظلم، والذي يصرح الفقهاء بحرمته ، الا ان معظم الناس يجهلون الكثير من مصاديقه ومن ذلك مثلا: ان يخيف الوالد طفله ليقوم بعمل ما، فهو من الظلم عرفا وان فعل الوالد ذلك من باب المحبة، فان هذه المحبة تتحول بذلك الى مصداق للظلم..

فالظلم غير منحصر في اكل مال الاخرين دون رضاهم، وليس هو مجرد الاستجابة للشهوات الباطلة.. فمثل هذه التصرفات من الوالد مع اولاده تعد ظلما.

فكيف يمكن النظر الى ماتقوم به الحكومات المستبدة تجاه مواطنيها وتجاه الشخصيات المعارضة لها، وهي تمارس ابشع انواع التنكيل والتعذيب بهم، وليس ينبع ذلك من محبة لهؤلاء، بل استشعارا بالخوف من هؤلاء جميعا، والذين يكشفون بمعارضتهم لها عدم شرعية انظمتهم السياسية او شرعية قوانينهم.

من خلال هذه الزوايا الثلاث، يكون الانسان قد مهد لارضية (لم يرد الله بعبد خيرا)، فالله سبحانه وتعالى لايقرر لانسان ما لايقرره هو لنفسه، بل الانسان هو الذي يمهد الارضية، ومفتاح سعادته ومفتاح شقائه بيده قبل ان يكون بيد الاحرين.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 23/تشرين الثاني/2014 - 29/محرم/1436

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1436هـ  /  1999- 2014م