الاحتياطي الفيدرالي وحربه الثقافية

مارك رو

 

كمبريدج ــ في مؤتمر مغلق حضره كبار المصرفيين والقائمين على الهيئات التنظيمية وبعض الأكاديميين، استغل محافِظ الاحتياطي الفيدرالي دانييل تارولو ورئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك ويليام دودلي مكانتهما النافذة للقيام بعمل غير متوقع على الإطلاق. فبدلاً من التركيز على كيفية تعزيز استقرار البنوك ــ توجيه المزيد من رأس المال نحو أكبر المؤسسات، والحد من أكثر أنشطتها خطورة، وتحديد كيفية إدارة البنوك الفاشلة من دون التدخل لإنقاذها ــ انهمك المسؤولون في مناقشة أحوال المصرفيين أنفسهم.

فقد ركز تارولو على سوء السلوك الإداري، زاعماً أن المديرين الذي لا يذعنون بالكامل وعن طيب خاطر للتنظيمات لابد أن يواجهوا عقوبات أشد صرامة من تلك التي يواجهونها الآن. وبدلاً من إلقاء اللوم على مخالفات وانتهاكات ترتكب من قِبَل "بضع تفاحات فاسدة"، أصر على ضرورة فرض المؤسسات لضوابط تمنع "التفاحات الفاسدة" من تسميم المنظمة بالكامل. ولتحقيق هذه الغاية، يتعين على المنظمات أن تعمل على ترسيخ احترام القانون، والتنظيم، وثقة الجماهير في أنظمة التعويضات والمكافآت والرواتب الداخلية.

وعلاوة على ذلك، استشهد تارولو بملاحقة الأفراد جنائياً وسجنهم باعتبار ذلك الوسيلة الأكثر فاعلية لردع السلوك غير القانوني، مثل انتهاكات قانون منع الاحتكار. ولكن بطبيعة الحال، وكما اعترف تارولو شخصيا، فإن ملاحقة أي فرد جنائياً في مثل هذه الانتهاكات أمر صعب، لأن القائمين على التنظيم يفتقرون إلى صلاحيات الضبطية الجنائية، بسبب العقبات الاستدلالية المرتفعة والظروف غير المؤكدة غالبا. ولكن القائمين على التنظيم لم يستغلوا الصلاحيات التي يملكونها بالفعل لمعاقبة المديرين المنحرفين: فبوسعهم أن يمنعوا هؤلاء الأفراد من العمل في مجال التمويل.

ووفقاً لتارولو فإن قِلة من حالات "حظر ممارسة العمل المصرفي" المختارة بعناية من الممكن أن تغير الصناعة المالية إلى الأفضل. كما حث تارولو مجالس إدارة البنوك وكبار المسؤولين التنفيذيين على استباق حالات الحظر هذه بفصل المديرين الأكثر إثارة للريبة علنا، وليس صرفهم من الباب الخلفي بهدوء. وهذه العقوبة العلنية كفيلة بردع بقية العاملين في المنظمة عن السلوك السيئ.

كما وضع دودلي عبء التغيير على كبار مديري البنوك. وفي مناقشة ثقافة البنوك ــ الموضوع الرئيسي على قائمة اهتماماته هو وبنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك ــ شجع دودلي كبار المصرفيين على مواءمة ثقافات منظماتهم مع المصلحة العامة والقيم التنظيمية المتغيرة. وبدلاً من النظر إلى القانون باعتباره مشكلة ينبغي لهم التعامل معها، والتهرب منها إن أمكن، فيتعين على المصرفيين أن يدركوا أهميته الحيوية ويحترمونها (وهي النقطة التي ذكرها تارولو أيضا). وبهذا المعني، كما يقول دودلي، فإن الصناعة المصرفية "ليست قريبة إلى حيث ينبغي لها أن تكون".

ومثله كمثل تارولو، أكَّد دودلي على ضرورة عدم التعامل مع الانتهاكات بوصفها تصرفات معزولة يمارسها موظفون منحرفون، بل كدليل على فشل كبار المديرين ــ من مجلس الإدارة إلى الجناح التنفيذي ــ في توجيه ثقافة البنك على النحو الصحيح. وبالتالي فإن الانتهاكات لابد أن تعمل على تحفيز الجهود المتضافرة من جانب كبار المديرين لإخضاع المصرفيين المارقين المزعومين لسيطرتهم وتشريب منظماتهم بروح الالتزام والنزاهة. وإذا عجزوا عن القيام بهذه المهمة فإن الاستنتاج المعقول كما يرى دودلي هو أن المنظمة أكبر من أن تُدار بنجاح.

وقد يرى بعض المستمعين على الأقل أن هذا البيان ربما يثير ذكريات عن التاجر المعروف باسم "حوت لندن"، الذي خسر ستة مليارات دولار على الأقل في جيه بي مورجان تشيس ــ أكبر بنوك أميركا ــ في عام 2012. فقد فشل فريق إدارة المخاطر في البنك، وهو الأفضل سُمعة في العالم، في تحديد هوية التاجر المارق الذي كان بين ظهرانيهم إلى أن فات الأوان.

إن التركيز على مسؤولية الأفراد داخل البنوك يمثل تغييراً ملحوظاً في النهج الذي يتبناه القائمون على التنظيم، وقد تعزز ذلك التغيير بفعل مبادرة ثالثة، والتي أكَّد عليها متحدثون آخرون: استخدام نظام التعويض المؤجل القائم على الدين لربط أجور المديرين بسلامة البنك وصحته.

ولن يكون تحفيز التحول في ثقافة البنوك بالمهمة اليسيرة. فالمصرفيون يعلمون أن خوض قدر كبير من المخاطر المنخفضة الاحتمالات والعالية التأثير يفيد غالباً المساهمين في البنك ويعزز من مكافآتهم شخصيا. ولكن عندما تسوء الأمور، فإن الحكومة تتحمل قسماً كبيراً من الفاتورة ــ ويعاني الاقتصادي الحقيقي.

وما يزيد من تعقيد الأمور أن خوض المجازفات من قِبَل البنوك ــ وبمستويات قصوى غالبا ــ ليس في كل الأحوال تصرفاً غير أخلاقي ومارقاً ومحتالا. فهو كثيراً ما يبدو مسؤولاً ومبدعا. والمشكلة في الإبداع هي أن لا أحد يستطيع أن يتنبأ بالتأثير الذي قد يخلفه على وجه التحديد. والواقع أن الأزمة المالية في الفترة 2008-2009 كانت راجعة إلى الخطأ والمعلومات غير الصحيحة وليس الاحتيال وسوء السلوك الصريح من قِبَل المصرفيين.

ومع ذلك فإن مثل هذه المبادرات الثقافية والسلوكية التي اقترحها تارولو ودودلي تستحق المتابعة. والواقع أن التوفيق بين المصالح المالية للمديرين وكبار المصرفيين وبين الجهود التي يبذلها القائمون على التنظيم لتعزيز رأس المال والحد من المجازفة وجعل إفلاس البنوك احتمالاً حقيقياً من شأنه أن يقطع شوطاً طويلاً نحو جعل البنوك أكثر أمانا.

ولكن هناك نصيحة بالغة الأهمية: فلابد أن تكون الأولوية للأهداف التنظيمية الأساسية التي يحددها القائمون على التنظيم قبل الأهداف الناعمة المرتبطة بالثقافة، والتي من الواجب أن تدعم الأهداف الأساسية لا أن تحل محلها. ومن الواضح أن تارولو ودودلي يدركون هذا ــ ولكن غيرهم من المسؤولين الأقل مهارة قد لا يدركونه.

وإذا بدأت الجهود التي تركز على الناس في حجب المسؤوليات الأساسية التي يتولاها القائمون على التنظيم، فإن قدراً كبيراً من التقدم الذي تم إحرازه في السنوات الأخيرة نحو تعزيز السلامة المصرفية سوف يذهب أدراج الرياح. وقد يتبين أن هذا كان بمثابة الخطوة الأكثر خطورة على الإطلاق.

* أستاذ في كلية الحقوق بجامعة هارفارد، هو خبير في قانون الأوراق المالية والأسواق المالية. وهو مؤلف العديد من الدراسات عن تأثير السياسة على تنظيم الشركات وحوكمة الشركات في جميع أنحاء العالم

https://www.project-syndicate.org/

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 22/تشرين الثاني/2014 - 28/محرم/1436

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1436هـ  /  1999- 2014م