ثنائية الحرية الفكرية والعملية

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

شبكة النبأ: للحرية وجهان، أحدهما فكري تنظيري، والآخر عملي تطبيقي، لذلك من يخطط لاستثمار الحرية واستنطاقها بالشكل الصحيح، ليس امامه سوى السعي الى فهم الحرية، فهما عميقا واعيا، في شقيْها الفكري والعملي، والسبب الذي يدعو الى التركيز على هذا الامر، هو تحقيق الفائدة القصوى من مبدأ الحرية، فحرية الفكر تعني عدم قسر الانسان وإجباره على رأي محدد، أو دفعه تحت ضغوط شتى، للايمان بفكر معيّن من دون إقناع وفهم عميق له، لذلك لا يمكن أن يشعر الانسان بحرية الفكر وهو مكبّل وموجَّه مسبقا بما لا يرغب او يؤمن به.

أما حرية العمل، فلا ينبغي أن يُجبر الانسان بالقوة على اداء عمل محدد مسبقا، إلا في حالة رغبته بذلك، بمعنى ان الانسان حر في اختيار العمل الذي يراه مناسبا له، ويجد في ذاته رغبة للقيام بهذا العمل، حتى يستطيع أن يبدع في ويتطور ويتميز، على خلاف من يقوم بعمل ما وهو لا يرغبه ولا يستسيغه لأسباب قد تكون خارج ارادة الانسان، لذا حرية العمل مكفولة ومحددة بقبول الانسان بهذا العمل أو ذاك، يتضح لنا أن الحرية تقوم على مرتكزين اساسين، الاول المرتكز الفكري والثاني المرتكز العملي، وفي الجمع بين هذين المرتكزين تبلغ حرية الانسان جوهرها، فيشعر انه كائن حر يفكر ويعمل بإرادته من دون قسر ولا إجبار.

يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كتاب (من عبق المرجعية) حول هذا الموضوع: (هناك حريّتان موجودتان في الإسلام، حريّة الفكر حيث يقول تعالى: لا إكراه في الدين*، وحريّة العمل؛ للقاعدة المسلّمة لدى الفقهاء: الناس مسلّطون على أنفسهم).

ويؤكد سماحته بما لا يقبل الشك، وبالأسانيد الثابتة أن (الإسلام هو دين الحريّة)، ويضيف سماحته قائلا في الكتاب المذكور نفسه: إن (الإسلام دين الحريّات مبدأ وشعاراً، وواقعاً وعملاً). وبهذا تكتمل مقومات الحرية، وتستند الى الجانين الفكري والعملي، فالاسلام يحث الناس على أن تشمل الحرية فكرا انسانيا متميزا، وفي الوقت نفسه، يمكن أن يتحول هذا الفكر الى صيغة عملية، يمكن أن تحقق للانسان منفعة، وتقدما، لاسيما في مجال خدمة العقل وتطويره، وتوازن الذات، وتعميق حالة عدم الاكراه والايمان بها بصورة فعلية، لأن الاسلام: (ملتزم بمبدأ - لا إكراه في الدين- في مختلف مجالات الحياة) كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي.

تجسيد الحرية الفكرية

كيف يمكن أن تتجسد الحرية الفكرية بصورة ثابتة، لا تقبل التشكيك؟، وكيف يمكن أن نتأكد أن الاسلام ملتزم فكريا وعمليا بالحرية، كمبدأ حياة لا يمكن اهماله او التنكّر له بأي حال من الاحوال؟، إننا سنجد مثل هذه الاجابات والتأكيدات في النصوص القرآنية التي تبلغ في معناها قمة الوضوح، حتى لأدنى المستويات المعرفية والذهنية.

فعندما نقرأ قول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال، عندما يؤكد سماحته على: (أن الحرية الفكرية تتجسد في الإسلام من خلال الآيات الكريمة: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). فهذا دليل قاطع على غياب القسرية والفرض بالقوة، بمعنى أن الايمان او عدمه بهذا الفكر خاضع لقناعة الانسان، وهو حر في ذلك، وليس هناك إجبار في الامر، وهذا يعني أعلى درجات الحرية، عندما يقول النص القرآني للانسان، (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، ولكن هناك توضيح لهذا الفكر، حتى يصبح الانسان على معرفة ودراية بما يفيده وبما يضره، بعد ذلك هو الذي يقرر قبول الفكر او رفضه.

من هنا يتضح لنا كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي، أن اسلوب الضغط على الناس يتنافى مع روح الاسلام ومبادئه، ويتضح هذا من خلال قول سماحته بوضوح تام في الكتاب المذكور نفسه: إن (اسلوب الإسلام، لا ضغط فيه ولا إكراه). أما على الصعيد العملي، فليس هناك من له الحق في التدخل بهذا الجانب، إلا اذا كان يلحق ضررا بالانسان، نتيجة لعدم المعرفة او القصدية بإيذاء النفس، ما عدا ذلك فالانسان حر فيما يختاره من عمل يراه مناسبا له وقادرا على التعاطي معه من دون معوقات، كذلك يتم التدخل في منع الانسان من عمل ما، اذا كان هذا العمل يلحق ضررا بالاخرين، هنا لابد أن يكون هناك تدخل في حرية العمل، يتناسب مع حجم الضرر الذي قد يلحقه بالآخرين.

 لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي في ملاحظة له عن هذا الجانب اذ يؤكد سماحته: إن (الإسلام يقول لك: اعمل ما تشاء، فلك حريّة العمل شرطية ألاّ تضر غيرك). كذلك يرى الاسلام إن حرية الرأي مقدسة، لما تحمله للانسان من فوائد جمة، تسمح له بتطوير حياته، وتمنحه قدرة على التغيير، واكتشاف البدائل التي تصنع له واقعا افضل، ومرتبة اعلى بين الآخرين، لهذا يلتزم الاسلام التزاما قطعيا بحرية الرأي.

كما نلاحظ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال، بالكتاب المذكور نفسه، عندما يؤكد سماحته على أن: (حريّة الرأي في نظام الله وقانون الإسلام أكثر تقديساً حتى من الشهادتين، فالإسلام يريد أن يجعل الناس أحراراً).

لا ضغط ولا إكراه

يحتاج العقل الى المعرفة المسبقة، حتى يحدد الاختيار السليم، بمعنى أكثر دقة، أن الانسان لا يستطيع أن يحدد إختيار سليما من دون معاونة فكرية تعريفية يحصل عليها من مصادر تتسق وبيئته وعقائده وما يؤمن به، فإذا كان يؤمن بالاسلام كدين له، سوف يعتمد في سلوكه وحتى افكاره، على المبادئ والتعاليم الاسلامية التي تساعده على تحديد خياراته الحياتية بصورة سليمة، وهذا التعريف لا يُفرَض فرضا على الانسان، أي انه يقبل به بمحض إرادته، بعد يقتنع ويؤمن به.

في هذه الحالة لا يوجد ضغط على الانسان ولا إكراه، إنما هناك شرح وتوضيح للمبادئ السليمة التي ينبغي أن يؤمن بها ويحدد مساراته في ضوئها، وطالما أن القرآن يقول بشكل صريح أن (لا إكراه في الدين)، فهذا يعني أن الانسان حر في افكاره وافعاله، وحتى تكون الافكار والافعال سليمة لا تضر الآخرين، لابد أن تكون هناك ضوابط يلتزم بها الانسان، حتى لا يخرج عن المسارات الصحيحة التي تتسبب في ضرر للآخرين، هذه الضوابط عبارة عن ارشادات وتوجيهات، يقدمها الاسلام للانسان بصورة طوعية وبعيدا عن الضغط، أي انها مساعدة له حتى يسير في الاتجاه الصحيح.

يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال بالكتاب نفسه: (لا ضغط ولا جبر ولا إكراه ولا كبت للحريّة في الإسلام، ولكن ثمة توجيهات وإرشادات تبيّن لك السلوك الأحسن، تقول: هذا صحيح وهذا مستحبّ وهذا مفضّل وهذا مكروه). ويبقى الاختيار للانسان نفسه، إذ انه حر في تحديد ما يؤمن به، وطالما أن الانسان يبحث بالفطرة عمّا ينفعه، فإنه سوف يوظّف الفكر الاسلامي لصالحه، حتى يفيد نفسه، ولا يضر الآخرين في الوقت نفسه.

وهذا يؤكد حضور الحرية الكبير في الاسلام، فالانسان حر فيما يفكر ويؤمن ويعمل، وهناك شرط مهم لا يعترض عليه انسان سويّ، هو أن لا تؤذي الآخرين بأفكارك وأعمالك، وهذا الشرط يمكن أن يحصل عليه الانسان من خلال ايمانه وتطبيقه للتعاليم الاسلامية السمحاء، وبهذا فإن الحرية في الاسلام لا يحدها سوى التجاوز على الناس.

لذلك يؤكد سماحة المرجع الشيرازي قائلا حول هذا الموضوع بوضوح تام: إن (الحريّات الموجودة في الإسلام لا نظير لها في التاريخ). ويصف سماحته الحرية بأنها: (نعمة إلهيّة عظمى ينبغي اغتنامها على أحسن وجه).

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 20/تشرين الثاني/2014 - 26/محرم/1436

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1436هـ  /  1999- 2014م