لماذا خفت الحديث عن الفساد؟

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: تتغير اهتمامات الصحف ووسائل الاعلام الاخرى بالاحداث تبعا لصخبها وضجيجها.. فحدث يتسيد الساحة يوما او اكثر، ثم يختفي ليتسيد حدث غيره ويختفي وهكذا دواليك.

احداث اخرى تبقى متصدرة للتعاطي الاعلامي معها، لكنه تصدر يفتقر الى البريق او الوهج، وتبقى متابعته من باب الاعتياد او الروتين او اشغال المساحات الزمنية لنشرات الاخبار والبرامج الاخرى.

على سبيل المثال، الحدث السوري، المصري، اليمني، الاوكراني، وغيرها تشهد ارتفاعا او انخفاضا في الملاحقة تبعا لتطوراتها او خفوتها وسكونها، ومنها ما يبقى متصدرا لدواع سياسية او ايديولوجية للوسيلة الاعلامية والقائمين عليها.

عراقيا وقبل العاشر من حزيران، كان الحدث والحديث الطاغي هو الفساد المالي في حكومة السابقة، ومن خلاله اشتهرت قناة البغدادية ومذيعها انور الحمداني عبر عدد من الملفات، التي اثارت الكثير من الغبار، ولم تتحول الى حقائق من خلال احكام قضائية ناجزة.

وحتى الصحف العراقية اليومية، كان الشغل الشاغل لها هو الفساد المالي، على طريقة كشف مصدر لم يذكر اسمه، او ذكر احد المسؤولين الذي رفض التعريف بنفسه، وغيرها من تنسيبات.

بعد العاشر من حزيران، ودخول داعش الى الموصل، اختفى او تراجع الحديث عن الفساد المالي، وتقدم زخم (لا صوت يعلو على صوت المعركة) على جميع الاصوات، ربما لاعتقاد ان خطر داعش هو اكبر من اخطار غيره كالفساد المالي مثلا.

الشهور الماضية لم يتم اقرار الموازنة فيها، وهناك حديث عن تقشف في المصاريف اذا اقرت، وعند الحديث عن النازحين ومشاكلهم، بدأت تطفو على السطح نبرة اتهامات وان كانت ضيقة، بفساد مالي في المساعدات المخصصة لهؤلاء النازحين، وهل يمكن حل مشاكلهم وخاصة السكنية، حيث يقيمون الان في المدارس وقد تاجل بدء العام الدراسي بسبب تلك الاقامة، ويقيمون في الحسينيات والمساجد ونحن على ابواب زيارات مليونية.

صوت المعركة والغبار المتطاير تحت وقع اسلحتها، يحاول ان يخفي ملفات الفساد القديمة منها والمستحدثة، ومن تلك المستحدثة، مجزرة سبايكر، ومجازر اخرى اثناء احتلال الموصل وبعدها، والاموال المخصصة للحشد الشعبي والنازحين والمهجرين.

وجد كاتب السطور، ان لاباس من اثارة موضوعة الفساد المالي، والذي حاولت اصوات المعركة اخفاءه او على الاقل اخفاته، ان يتناوله من خلال بعض الكلمات العامية، والتي لها اصل وفصل راسخ في العربية الفصحى، لكنها تغيرت قليلا او كثيرا على لسان العامة في اللهجة العراقية، ومن ذلك كلمة (كرص) بكسر الكاف وفتح الراء، وتعني سكن من خوف فلم يتحرك.. محرفة من (كرز – كروزا) اي دخل واستخفى.. والقانص (كارز) للوحش مختبيء.. و(الكارز) بمعنى المستخفي، كما يقول ابن منظور في لسانه العربي.

وكرص الشيء دقه. ويكرص اي يدق. والكريص: الجوز بالسمن وهذه المرة من ابن سيدة في المحكم والمحيط الاعظم، وفي حالات الفساد المالي، يمكن ان يشير الجوز بالسمن الى الغنيمة العزظيمة.

ومنه شرطي المرور الذي (يكرص – يكرز) في تقاطعات الشوارع  للسائقين المخالفين، ولكثير منهم غير المخالفين حين ينتهي دوام القانون الرسمي، ويبدأ عمل (البلصة) وهي الرشوة واخذ المال بغير حق ودون وجه شرعي. وفي المحيط: بلصه بلصا، اخذ ماله منه ولم يدع عنده شيئا.

و(البلس) من لاخير عنده او عنده ابلاس وشر، معربة من (بلوّس) ومعناه الحيلة والكذب والحيّال والكذاب ومنه مشتق ايضا (الابليس).

 ومن الكلمات التي يستعملها الناس لتصوير وتفسير وشرح مايحدث امامهم وما يسمعون به من اخرين، عن اخذ الاموال من الناس، كلمة (غمت) بضم الغين، وتعني اخذ الشيء خفية وعلى عجلة. وغمته غطاه، وهي محرفة غمد وغمده اخذه بختل، غمته اذا غطاه، وغمته في الماء اذا غطّسه فيه. كما تقول العامة اخذ له (غمتة) هي مقدار ما يحتوي الكف. وهو كف الكثير من الفاسدين، والتي يمكن ان تقبض على عشرة دفاتر صكوك، او عشرات السندات المالية،  و(الغمت) يبقي لديك بعضا من مالك الذي يشاركك فيه الكثير من هؤلاء الفاسدين، فلكل منهم نصيبه مما تحمل في جيبك او دارك مما ادخرته لسنوات طويلة، الا ان (كشول) بالكاف الفارسية، فهي لا تبقي لديك شيئا.

فهي تعني: جمع ما وجده فاخذه. ويقولون (كشولوهم الحرامية) اي جمع السراق كل مالديهم واخذوه. وهي ربما من (كش) و (ولى) اي جمعوا واخذوا وراحوا. ويتذكر العراقيون ما اخذه رجالات النظام السابق ونسوته، رغد واخواتها، وساجدة وحمواتها، اضافة الى زوجات الرفاق المناضلين، من اخوة الرئيس السابق غير الاشقاء، ثم جاء دور رجالات العهد الجديد، وهم يشتركون مع السابقين في هوسهم بعملة (اضع في الله ثقتي) وهي الدولار، واغتنوا مما غنموا في سنوات قليلة ثم واذا بهم خارج الحدود، قد (فلفصوا)، و(فلفص): اراد التخلص من القابض عليه او من امر وقع فيه فتلوّى وجذب نفسه. ثم نسمع بتصريحات الحكومة وان العدالة ستطاردهم وسوف يصدرون مذكرات اعتقال الى الانتربول بحقهم. كل هذا ولم نسمع بواحد منهم قد قبضت عليه الحكومة او جلبته مذكرات الانتربول. سمعنا عن احدهم قبل مدة وقد اطلق سراحه بكفالة مالية بلغت 100 مليون دينار عراقي، رغم اتهامه بفساد مالي ضخم. وهذا المبلغ لايساوي عمولة (تندر) واحد لترميم عشر مدارس. ولكنهم وكما يعتقد رجل الشارع العراقي، ورجل المطر (هي رهمت هيج) يريدون ان (يلغمطوا) الحسابات بينهم.

و(لغمط) الحساب، اي شوّشه قصد الاختلاس. ولا يصدق رجل الشارع ما يسمع، فهو يعتقد ان الجميع (لهيبية) و(لهيبي) من لا امانة له. محرفة (نهيبي)، والعامة تقول (نهيبي) وصفا للمرتشي والسارق، الذي (يمعط معطا) جميع ما امامه، ومعط تعني نتف قليلا من الصوف او الشعر وفرّ. وذئب امعط: قليل الشعر وهو الذي تساقط عنه شعره وقيل هو الطويل على وجه الارض. ولص امعط على التمثيل بذلك، يمثل بالذئب الامعط. ويستخدم العراقيون تعبير (ذيب امعط) في وصف الرجل الفهلوي الذي يستطيع الفوز والحصول على اي شيء.

لا يصدق العراقيون ما يقال، فما يحدث ببساطة شديدة، هو نوع من الفرهود، وله حضور واسع الطيف في ذاكرة هؤلاء، فالفرهود يعنون به النهب علنا كانه مباح للجميع.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 25/تشرين الأول/2014 - 30/ذو الحجة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م