في التغيير الذاتي.. لنقرأ عن ثقافة عاشوراء

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: عندما تعزم الشعوب على التغيير فانها تبحث عن محور ثقافي تنطلق منه لتحقيق الأفضل في السلوك والعادات والقناعات، فنجد هنالك اللجوء الى العاطفة والحب بين افراد المجتمع، او الى السلم ونبذ العنف، او تعميق وتكريس الولاء للوطن او العرق واتخاذه ركيزه لكل انسان بأن يغير نحو الاحسن ويحقق ما يريده في اطار المصلحة العامة. هكذا نجد بعض البلاد المتقدمة والناجحة في العالم، سواءً على الصعيد السياسي او الاقتصادي.

والى جانب هذه الانماط الثقافية، تقف ثقافة عاشوراء تصدح بخطابها الانساني والحضاري الذي يعمّ العالم بأسره، فهي ليست ثقافة فئوية ولا مناطقية ولا قومية، إنما هي تحاكي الفطرة الانسانية. وقد بيّن الامام الحسين، عليه السلام، معالم هذه الثقافة في الخطوات الاولى من مسيرته نحو كربلاء، بتحديد اهدافه: "... إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي رسول الله وأبي علي بن أبي طالب..".

فما علاقة سيرة الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله بثقافة عاشوراء؟

سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني  الشيرازي – دام ظله- يشير الى حقيقة العلاقة الوثيقة بين ثقافة عاشوراء، وهي ثقافة التضحية والفداء، وبين تلك السيرة المضيئة. وفي كلمة له يوضح سماحته بان ما يفسر كلام الامام، عليه السلام – آنفاً- هو "أن الذين جاؤوا بعد رسول الله، صلى الله عليه وآله، وقبل أمير المؤمنين صلوات الله عليه وبعده، كانوا قد شوّهوا صورة الإسلام. فبعضهم سمّى نفسه خليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله، ومنهم معاوية، حيث قام وخلال يوم أو يومين أو ثلاثة وعبر رسوله بسر بن أرطاة إلى اليمن، بذبح أكثر من ثلاثين ألفاً من الأبرياء في اليمن، كان فيهم الرضّع والشيوخ والحوامل والأطفال. وقد قتل هؤلاء الأبرياء لا في حرب بل لأنهم كانوا يعتقدون بعليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه بأنه خليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله فقط..".

ثقافة عاشوراء وتحقيق السعادة

يتصور الكثير أن مفهوم السعادة ينصرف دائماً لحالة الفرح والابتهاج والحالات الظاهرية التي يرتاح لها الانسان، وهي جزء من هذا المفهوم طبعاً، لكن ليس كله، إذ ان مجرد إفتقاد الامن في منطقة سكنية صغيرة، من شأنه ان يسلب النوم من جفون أهلها، مهما امتلكوا من الامكانات والقدرات المالدية. لان العنف بمنزلة الفيروس في جسم الانسان لا يتم القضاء عليه إلا بسلسلة اجراءات طبية وفق قواعد علمية خاصة ودقيقة، وأي خطأ ربما يودي بحياة المريض قبل الفيروس.. لذا نجد سماحة المرجع الشيرازي يؤكد أن العالم إذا اتّبع ثقافة عاشوراء كان سعيداً.. ولكن اليوم لا سعادة في العالم، بل الشقاء قد ملأ العالم في كل مجال. نعم هناك في بعض البلدان بعض الحريات أكثر من بعض البلدان الأخرى، أما هل فيها سعادة، وهل يعيش فيها الإنسان مرتاحاً ولا يخاف المستقبل؟، ولكن هذا الأمر يوجد في ظل ثقافة عاشوراء".

والدليل على ذلك، ما خلفه الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، من ثقافة التسامح والتعايش والسلام والشعور بالمسؤولية.. وكذلك فعل أمير المؤمنين، عليه السلام، عندما آلت اليه الخلافة بعد إقصاء دام (25) عاماً. فقد كان من حقهم في ظروف عديدة تحكيم السيف والقوة في أعدائهم والمحاربين لهم، وهم غير ملومين لما تسببوا فيه من إراقة دماء الابرياء وأرعبوا ودمروا وأساؤوا وفعلوا كل ما يستحق العقوبة القاسية، ولعل واقعة فتح مكة دليل على السيرة التي اشار اليها الامام الحسين، عليه السلام، وكذلك واقعة الغرف التي اختبأ فيها أعداء أمير المؤمنين، عليه السلام، بعد هزيمتهم في "معركة الجمل"، بالبصرة، وكان بامكانه الفتك بهم، وهم عبد الله بن الزبير ومروان وغيرهم من قادة الحرب، إلا انه، عليه السلام، لم يضحي بقيمه ومبادئه السامية، من اجل لذة الانتقام العابرة، كما يفعل ذلك الكثير في الوقت الحاضر.

هذه الثقافة هي التي تصنع السعادة الحقيقية للانسان، ففي كل أحواله وظروفه المعيشية والاقتصادية وحتى مستواه الثقافي والعلمي، يمتلك السعادة والاستقرار النفسي، لذا نجد الفقير والغني والعالم والمتعلم وكل شرائح وفئات المجتمع، ومن كل مكان، يتجهون صوب مرقد الامام الحسين، عليه السلام، تاركين بيوتهم ومكان سكناهم الوثير والمريح، ليشاركوا مراسيم إحياء ذكرى عاشوراء او الاربعين، في ظروف، ربما تكون صعبة بعض الشيء، بيد انها لن تكون عقبة امام هؤلاء الذين عرفوا الامام الحسين، وحملوا ثقافته.

مسؤولية الشباب

الثقافة الحيّة والنابضة في المجتمع تنمو لدى الشريحة الحيّة والطافحة بالحيوية والقدرات الذهنية والعضلية، ألا وهي شريحة الشباب.. فاذا كان الكثير من الشباب يبحث عن الجديد من المعارف والعلوم ويرنو الى التطور والتقدم وضمان المستقبل، فانه يجد ما يطلبه في ثقافة عاشوراء، وهي ثقافة التضحية من اجل القيم والمبادئ، ومن اجل حياة سعيدة للانسان ملؤها الكرامة والعزّ. أما طريقة  الوصول الى هذه الثقافة فهو كما يشير علينا سماحة المرجع الشيرازي، بأن نقرأ التاريخ وعدم الاكتفاء بما نسمع.. وقد وجه وصيته بالتحديد الى شباب العراق ووصف المسؤولية عليهم في الوقت الحاضر بانها "مسؤولية كبرى"، لأن الشباب العراقي – يقول سماحته ما مضمونه- انه عانى خلال السنوات الماضية من الضنك والظلم والحرمان والاضطهاد، "ومقابل هذه المظالم، هناك ثقافة بيّنها الإمام أمير المؤمنين، صلوات الله عليه في قوله: "عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُه"، وصدق سلام الله عليه في ذلك وعمله صدّق ذلك".

نعم؛ هنالك تجارب للانسانية في البحث عن السعادة والكرامة والحرية، ونجدها في المكتبة التاريخية والفكرية، بيد أن مكتبة عاشوراء لها طابع آخر، فهي ليست من النوع الذي يمكن الطعن في افكارها وطروحاتها او حتى تقويمها وتعديلها كما يحصل في عديد الافكار والثقافات البشرية السائدة اليوم، فهي صحيحة ومفيدة لاصحابها، وليس لكل البشر على مر الاجيال كما هو الحال في ثقافة عاشوراء، وثقافة اهل البيت، عليهم السلام.

إذن؛ نحن امام عملية تغيير ذاتي حقيقي بفضل هذه الثقافة التي من شأنها ان تغير ليس فقط الفرد والمجتمع في بقعة جغرافية محدودة، إنما العالم بأسره، من هنا، يحمل سماحته الشباب هذه المسؤولية الحضارية.. يقول: "..تحمّلوا هذه المسؤولية واعملوا من أجل هذه المسؤولية، وتفهّموا هذه المسؤولية، واجعلوا أنفسكم في مستوى هذه المسؤولية. فهذه المسؤولية هي ليست مسؤولية إنقاذ العراق فقط، أو إنقاذ المنطقة فقط، بل إنقاذ العالم على المدى البعيد. وهذه مسؤولية شباب العراق من العراق، وشباب غير العراق، كل من بلده".

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 25/تشرين الأول/2014 - 30/ذو الحجة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م