في التغيير الذاتي.. قوة الإيمان وفرص الانتصار

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: هنالك اعتقاد واسع بان القوة المادية تعد الاولى في حسم الصراعات والحروب على مختلف الاصعدة، مثل قوة السلاح والمال والمخابرات والاعلام، بسبب سرعة تأثيرها في الميدان، فنلاحظ التفوق العسكري في المجالات الثلاثة المعروفة: الجو والبر والبحر، يمثل عامل قوة وردع كبيرين لدى دول العالم، كما نلاحظ الاعتماد الكبير على عوامل الحسم والنصر الاخرى، وكلما تطورت وقوت شوكة هذه العوامل، كان تحقيق النصر أقرب واسهل، والعكس بالعكس طبعاً.. بينما تجارب الأمم الناجحة والمتفوقة في كل شيء – وليس في الحرب فقط – تؤكد أن الإيمان بخوض الصراع والحرب والتضحية من اجلها، تمثل القاعدة الاساس التي تقف عليها القوة المادية، ولا استغناء عنها بالمرة، مهما كانت كبيرة ومهيبة.

ولعل ما جرى في العراق في عهد الطاغية صدام، يكون مثالاً حيّاً وبارزاً في هذا السياق، فالاميركيون عبئوا قواتهم العسكرية لشن الهجوم الكبير بهدف الاطاحة بنظام صدام، تحت شعار "إسقاط صدام من اجل عالم آمن"، فبهذا الشعار والهدف، جاء اكثر من 160 ألف جندي اميركي الى العراق، علماً أن هذه الحرب جاءت خارج الشرعية الدولية، وقد دعت اليها الولايات المتحدة بمبررات صاغتها وأقنعت بها العالم.. في كل الاحوال تحقق الهدف والمراد، في المقابل نلاحظ "صدام" الذي طالما ادعى انه افضل زعيم حكم العراق، عبأ الشعب العراقي وحشد قواه العسكرية، بل عمل على عسكرة المجتمع بأسره، والغاية هو توفير الأمن لشخصه هو، وليس للشعب العراقي او العراق كبلد ووطن، فضلاً عن ان يكون ذلك للمنطقة او العالم. وكان ما كان!.

واليوم نبحث عن فرص الانتصار في حرب معقدة وشائكة تقاطعت فيها الاتجاهات السياسية مع الاتجاهات الفكرية، ويتجلى لنا يوماً بعد آخر أهمية الجانب المعنوي وتحديداً الايمان بالغايات والاهداف التي من اجلها يضحي الانسان بامواله ونفسه وحياته.. وهذا ما دعانا اليه سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- قبل سنوات طوال في كتابه "نحو التغيير"، اذ يقول: "المعنويات العالية عادة تأتي بالنصر، من دون فرق في هذه القاعدة بين المسلمين وغيرهم، أي وإنْ كانت أهداف المحاربين من وراء الحرب غير نبيلة أو غير مخلصة لكنهم إذا تمتعوا بمعنويات عالية، فإنها تعد من مقومات النصر". هذه المعنويات لا تأتي من فراغ، إنما بحاجة الى جذور تمتد في أعماق العقيدة والثقافة والحضارة، لذا يوضح سماحته: ".. أن الشيء الذي حاز على أهمية عظيمة وكان مؤثراً في المعركة هو الإيمان القوي الذي يحل في القلوب..".

ويورد سماحته تجارب رائعة من تاريخنا الاسلامي في قوة الإيمان ودوره في تعزيز المعنويات وخلق الدوافع القوية لفعل المستحيلات وتحقيق الانتصارات الباهرة مهما كانت القوة الكاسرة في الجهة المقابلة.

ومن ابرز التجارب، فتح مدينة "القسطنطينية" عاصمة الدولة البيزنطينية، فقد كانت تعد من اكبر وأهم مدن العالم حينها، تأسست عام (330) للميلاد، بمعنى انها كانت تمثل عاصمة الدولة المسيحية – إن صحّ التعبير- لذا كانت هذه الدولة تستميت بشعبها من اجل الدفاع عن هذه المدينة الاستراتيجية. لذا كانت دائماً هدفاً للحكام المسلمين الذين حاولوا جاهدين فتحها والسيطرة عليها لتحقيق نصر سياسي كبير يوسعوا من خلاله رقعة سيطرتهم وهيمنتهم في العالم. وحسب المصادر فان البداية كانت من عام (44) للهجرة في عهد معاوية، واستمرت الحملات العسكرية حتى عهد الحاكم الأموي سليمان ابن عبد الملك، لكن لم يفلح الأمويون في فتح هذه المدينة. وفي العهد العباسي جرّب الحكام العباسيون ذلك، فكان الفشل حليفهم. حتى جاء العهد العثماني وفي زمن الحاكم "محمد الفاتح" فتمكن من فتح القسطنطينية وضمها الى البلاد الاسلامية.

العبرة من هذه التجربة – كما يُضيئ لنا سماحة الامام الراحل- أن الشعوب التي تعيش تحت وطأة الظلم والقمع والتمييز، لا يمكن ان تؤمن بحرب يقودها الحاكم، مهما كانت الاسباب، حتى وإن كان الطرف المقابل هو البادئ في الحرب، كما حصل في انهيار الدولة الساسانية في ايران على يد المسلمين، رغم التفوق العسكري والعلمي لدى الفرس، إلا ان هشاشة القاعدة الجماهيرية وانفصال الجماهير عن القيادة، والنقمة المتصاعدة من الناس، جعلت الحرب بمنزلة حلقة إنقاذ للشعب الايراني – آنذاك- من مستنقع الظلم والدماء والاستعباد.

وسر صمود القسطنطينية طيلة قرون من الزمن، هو الايمان.. فقد التقت اهداف الدولة البيزنطينية مع طموحات الشعب المسيحي آنذاك، إذ كان الاثنان يشعران بخطر الإسلام عليهم وعلى مصالحهم، فكانت التعبئة الناجحة وزيادة وتطوير القدرات العسكرية، واندماج الناس في اجواء الحرب وتحشيد القوى وتعزيزها، علماً ان هذه الدولة كانت معروفة تاريخياً بتفوقها  العسكري حيث كانت وسائل متطورة في ذلك الزمان، مثل القلاع والأسوار والمنجنيق وغيرها.

يقول سماحة الامام الراحل عن "محمد الفاتح" أنه كان عالماً قبل ان يكون حاكماً او سلطاناً، "فحدّد مقومات النصر وقام بإعدادها من قوة الجيش وتقوية معنوياته، فوضع لذلك برنامجاً خاصاً، وما إنْ رتب وضع الجيش عسكريا، حتى أمر العلماء أنْ يرفعوا من معنويات الناس إلى أعلى درجة ممكنة، وأن يذكّروا الناس بثواب الجهاد في سبيل الله، وثواب قتال الكفار الذين يخططون ضد المسلمين. ثم أمر في يوم جمعة إلى الصلاة جماعة، ودعا إلى البكاء أثناء الصلاة، إيماناً منه بأنّ للبكاء تأثيراً على القلوب أكثر من تأثير أي عمل عاطفي آخر. ومن جهة أخرى، أمر عدداً من رجاله أن يتغلغلوا في بلاد الروم لتقصي أخبارهم، وبعد مدة قصيرة عادوا، وجاءوا بخبر مفادُه أنّ علماءهم منشغلون بالبحث حول أنّه لما أصيب عيسى – عليه السلام- هل أصيب في ناسوتيته أم لاهوتيته؟! وأما البقية فمنشغلون بالتجارة والبيع والشراء، وملذاتهم، ولم يوجد هناك أي مؤشر يدل على أنّ الروم متأهبون للقتال. كما أن الظلم قد تفشى في حكامهم، والشعب قد تعب من جور طغاتهم".

من هنا نعرف اهمية الايمان في البناء المعنوي بما يمكن ابناء الامة من مواجهة التحديات والمخاطر التي تهدد الوطن والمقدسات، وإلا فان الحكام والانظمة السياسية لا يفوتها التعبئة المعنوية والنفسية في الحروب، مستخدمة وسائل الاعلام لتمرير افكار وتكريس ثقافة معينة، بيد أن التجارب أثبتت عدم صدقية هذه النوايا، فكانت الى التغرير والتضليل أقرب منها الى الحالة المعنوية الحقيقية التي ترتكز على الايمان والقناعة القلبية الراسخة.

وهذا بحد ذاته بحاجة الى عملية تغيير ذاتي بهدف تقويم الحالة النفسية والثقافية في المجتمع بما يمهد الارضية لبناء قاعدة ايمانية رصينة تحمل مسؤولية المواجهة مع العدو مهما كانت قسوته وقدرته، لذا يشير سماحة الامام الراحل الى هذا الشرط الاساس في الانتصار بأي معركة، ربما تكون في الميدان وبالاسلحة والتضحية بالدماء، وربما تكون في المواجهات الفكرية والثقافية، فمن السهل جداً عملية الاختراق اذا كانت القاعدة الايمانية هشّة وضعيفة، فالناس لا يضحون بانفسهم واموالهم من اجل اشخاص او احزاب او جماعات معينة لها مصالحها الخاصة، إنما يضحون ويقدمون كل شيء من اجل قيم ومبادئ سامية.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 18/تشرين الأول/2014 - 23/ذو الحجة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م