الغدير.. المرجعية

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: تُعد مسألة "القيادة" من اكثر الموضوعات جدلاً في التاريخ البشري، كما تُعد من اكثر المسائل مورد الاختلاف والنزاع عبر التاريخ، فقد جرت الحروب وسالت انهار من الدماء، وأزهقت الارواح ودفعت البشرية أثمان باهظة مقابل صراع لا يعود اليها بالمصلحة المباشرة، بقدر ما يعود عليها – على الاغلب – بالضرر البالغ، حيث نشهد معظم المتسلقين الى قمة السلطة، من خريجي المدارس الديكتاتورية، سواء في المعسكرات او في الاروقة الحزبية او المخابراتية.

وبما أن القيادة، تعني الولاء والطاعة، فانها تضع الناس دائماً امام مفترق طريقين لا ثالث لهما في اختيار المعيار الصحيح للقيادة السليمة التي تأخذ بيد الانسان والمجتمع الى حيث السعادة والخير والتقدم، ولا تدفعه نحو مهاوي الانحراف والفساد والضياع، لذا فمن اجل الوصول الى هذه القمة، نجد العامل النفسي يتدخل قبل غيره وبقوة، ليغلب احياناً كثيرة، العامل الديني والاخلاقي وحتى العقلي، فيتخذ الانسان قراره وفق معايير خاصة تمليه عليه نفسه، وليس دينه وأخلاقه وعقله. وهكذا كانت المسألة وراء أول جريمة في التاريخ البشري، عندما أقدم قابيل على قتل أخيه هابيل، عندما تقبّل الله تعالى قربان هابيل، وكان الأفضل والأحسن، لطاعته المحضة، وخلوص نيته وتقديم أعزّ ما لديه في سبيل الله تعالى، وهذا بمعنى أن هابيل سيكون الأجدر لخلافة أبيه النبي آدم عليه السلام.

وهكذا أيضاً، كانت محنة الإمام علي بن أبي طالب.. هذا الامام المظلوم، الذي طاله الظلم، ليس لأنه عمل شيئاً أثار به حفيظة ودفينة الآخرين، كما حصل لأخيه هابيل، بل لأن الرسول الاكرم، وبحكم وقضاء مبرم من السماء، أظهر هويته الحقيقية أمام المسلمين، في منطقة "غدير خُم"، وإذن؛ فهو أفضل من الآخرين، وكان لابد من القول على مضض: "بخٍ بخٍ لك يا علي.. اصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.."!.

لكن هل من سبيل الى قتل وإلغاء "الغدير"..؟! فالزمن تطور، والظروف تغيرت، وليس الامر بسهولة تصفية هابيل، لأن الهتاف جاء على مرأى ومسمع نحو مائة ألف مسلم، وقد أحصى العلامة الاميني في كتابه "الغدير" مائة وعشرة من اصحاب النبي، رووا هذه الحادثة والحقيقة التاريخية. إذن؛ لا مناصَ من الالتفاف على "الغدير"، ثم ضرب قلبها، وهي "الولاء" او "المرجعية"، التي يقول عنها سماحة الفقيه الراحل السيد محمد رضا الشيراز ي- قدس سره- في كتابه "منهج الغدير"، ان الحاجة الى المرجعية الدينية بعد رحيل الني الأعظم، صلى الله عليه وآله، هي نفس الحاجة الى النبوات والرسالات الالهية..".

 فما هو الدليل على أن النبي الاكرم أراد بـ "من كنت مولاه، فهذا عليّ مولاه"، الحكم والخلافة من بعده..؟! إنما – وكما يقولون- هو تقريب وإظهار المحبّة والودّ، ويسوقون الى ذلك دعاوى القرابة والصهرية، وهي بعيدة عن قيم الرسالة، وهم منها أبعد.. لكن "هدير الغدير"، وقوته اللامتناهية، أحبطت تلك المحاولة، فكانت المحاولة التالية، زرع بدائل لمرجعية الغدير، من قبيل، مرجعية الحاكم، وإن كان فاسقاً، ومرجعية الدستور، أو الوطن، أو الديمقراطية، أو حتى الحزب والايديولوجية، وشهدنا طيلة العقود الماضية، حجم الجهود المضنية التي بذلها أصحاب تلكم المرجعيات لتسويقها الى الواقع لكن دون فائدة. والفشل والاحباط يثبته الزمن تارةً، والناس تارةً أخرى.. فأي مرجعية من تلكم المرجعيات أثبتت نجاحها للشعوب والأمم خلال العقود بل القرون الماضية؟ حتى بات الناس وما يزالون في حيرة من أمرهم امام الحكّام، فاحياناً يجدون العجز في مرجعية الدستور، واحياناً يجدون الفشل في مرجعية الحزب والايدلوجية، وحتى يصابوا في احيانٍ كثيرة بالاحباط في مرجعية الوطن بعد أن قبلوا أن يكونوا "وطنيين"، لكنهم وجدوا انفسهم على حين غفلة، في الفيافي والصحاري وبين الوديان، مشردين، لا يحملون من وطنهم سوى أرواحهم.

من هنا يمكن القول أننا بحاجة الى "مرجعية الغدير"، حتى نعرف الحق فنعرف أهله، كما أوصانا إمامنا عليه السلام، قبل أن نعرف الأوامر الحكومية او العسكرية، وقبل أن نحفظ القوانين الوضعية، فإذا كان من شأنها تسيير شؤون الناس وتفادي الفوضى، فانها تبقى واقفة على قدم واحد، وإلا فان القانون جيد عندما يأمرك بالوقوف عند مفترق طرق، حتى تعبر السيارة الاخرى، او يعبر المشاة، لكنك تتفاجأ أن هذا القانون يتبخّر عندما تعدو سيارة أو موكب سيارات مظللة هذا المفترق، كما لو انه طريق مفتوح، لا أحد فيه. وقسْ عل ذلك.

نعم؛ القوانين والانظمة الحاكمة في العالم، فضلاً عن انظمة الحكم لدينا، تقرّ بفضل العدل والأمانة والصدق وغيرها من القيم السامية، كما تنبذ الظلم والخيانة والكذب، لكن من الذي يحدد أن هذا ظالم وذاك مظلوم..؟ أو هذا كاذب وذاك صادق..؟ انها مرجعية الغدير التي تصل بين الارض والسماء، وثبت بالدليل العقلي والنقلي، أنها الأجدر على قيادة الانسان والحياة، فهل ثبت أن نبي او وصي او رسول، أتى بما يلحق الناس الأذى والضيم والمعاناة، كما فعلها الطغاة والحاكمون الظلمة طيلة فترات التاريخ؟ واذا سألنا المشرعين والمقننين في برلمانات العالم؛ ما هو أساس وجذور القوانين التي تسنّوها للناس؟ سيأتي الجواب فضفاضاً، لا يصمد أمام الحاجات الاساسية والحقيقية للانسان، فالحرية والاستقلال الذي ينشده الانسان، تقومها الاخلاق والفضيلة، والتكفير والارهاب الذي ما يزال يهزّ جدار الامن في بلادنا، يعالجة "الغدير" بالمنطق والحجة البالغة، كما ان "الغدير" هو الذي يجعل أمير المؤمنين يستصلح الأراضي البور في المدينة، طيلة (25) عاماً، والقائمة طويلة.

يقول سماحة الفقيه الشيرازي – قدس سره- في كتابه المشار اليه: "إن عقلاء العالم في البرلمانات والمجالس التشريعية يعيشون حالة من التناقض، فالمجلس التشريعي الواحد يقرر قانوناً ثم ينقضه بعد فترة، وبعد فترة يعود اليه ثم ينقضه.. بينما القرآن الكريم يبين الكليّات ويبين المجملات.. فهو يضم النظام السياسي والنظام الاقتصادي، واليوم تطرح عليكم الآف الاسئلة حول  الاقتصاد، فمن الذي يجيب عنها.." يجيب سماحته بانه النبي الاعظم في حياته، من بعده يأتي "الغدير" الذي قام بهذه المهمة، وقد تجسد ذلك في أمير المؤمنين، عليه السلام، ومن بعده الائمة المعصومين، عليهم السلام.

من هنا فان قراراً شجاعاً وخطوات ثابتة وقوية نحو "الغدير"، تنفض عنّا غبار اليأس والاحباط والهزيمة وغيرها من علائم التخلف، عندها يتحسس الناس في بلادنا، طعم الانسانية والحرية والعدالة والفضيلة والقيم النبيلة، وهم في ذلك على القاعدة القرآنية الحكيمة، "لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ".

ومن اهم الخطوات التي يشير اليها سماحته في الوفاء للغدير، إعطاء "نهج البلاغة" حقه الطبيعي ومكانته الصحيحة في ساحة الثقافة والفكر، ويؤكد سماحة الفقيه الشيرازي في كتابه، بانه "يجب ان يكون مفخرة،وان يتلى في الفضائيات.. ذلك الاستاذ في جامعة "كمبريدج" البريطانية، يقول: لو طبق المسلمون ما جاء في نهج البلاغة لسادوا العالم..". ثم يضيف محذراً: "هنالك محاولات لإلغاء نهج البلاغة، وإلغاء الصحيفة العلوية، وإلغاء الامام امير المؤمنين..."، الامر الذي يستدعي التعبئة الشاملة والعمل الجاد لمواجهة هذه المحاولات أولاً، ثم المضي قدماً في الطريق الذي يرسمه لنا هذا "النهج" حتى نصل الى الاهداف والغايات التي يبحث عن كل انسان في العالم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 12/تشرين الأول/2014 - 17/ذو الحجة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م