الاقتصاد العالمي .. بين أزمة الدول الناشئة والمخاطر الجيوسياسية

 

شبكة النبأ: يبدو أن الاقتصاد العالمي هذا العام دخل مرحلة اكثر صعوبة على صعيد النمو المالي والاستثمار الاستراتجي، وذلك نتيجة لتباطوء الاقتصاديات العالمية الكبرى والنمو في منطقة اليورو ضعيف وكل ذلك على خلفية المخاطر الجيوسياسية والمالية الكبيرة.

إذ يرى معظم المحللين الاقتصاديين أن اقتصاد العالم يبحث عن حلول بديلة لتفادي انهيار الاسعار والمخاطر الجيوسياسية المرتبطة بـ تكثيف النزاعات في اوكرانيا والشرق الاوسط اضافة الى الغموض المتنامي في موضوع نتائج الاستفتاء حول الاستقلال في اسكتلندا، وكذلك ضعف بعض الاقتصاديات الناشئة امام احتمال التشدد النقدي في الولايات المتحدة.

كما يرى هؤلاء المحليين أن حركة هروب الرساميل التي سجلت في بعض الدول الناشئة (البرازيل وتركيا والهند وغيرها) تظهر بوادر تراجع على ضوء التطبيع التدريجي للوضع النقدي في الولايات المتحدة، ومن مباعث القلق التي تهدد نمو الاقتصاد ايضا ان اليونان تستعد لمعاودة النمو وستسعى للحصول على اموال جديدة في الاسواق وذلك لاول مرة منذ اربع سنوات، في وقت تتعافى منطقة اليورو ببطء من ازمتها، غير ان المخاوف من وقوع اضطرابات كبرى في الاسواق المالية تبدو مستبعدة في الوقت الحاضر.

وامام هذا المشهد المتناقض جدا، بات واضحا ان المعالجات السياسية تختلف بحسب المناطق، وان النهوض العالمي بحاجة لمواصلة دعم حركة الطلب ومنطقة اليورو بشكل خاص بحاجة الى دعم نقدي اكثر قوة للافلات من الانزلاق نحو الانكماش، كما إن التعافي في الاقتصادات المتقدمة يمضي في مساره إلا أن تباطؤ الأنشطة في الأسواق الناشئة لن يسمح إلا بوتيرة نمو عالمي متوسطة على أفضل تقدير في المدى القريب.

بينما يرى بعض الاقتصاديين المتخصصين انه نظرا لان الاقتصادات الناشئة تمثل حاليا أكثر من نصف الاقتصاد العالمي فان استمرار الاداء الاقتصادي الضعيف في عدة أسواق ناشئة يرجح ان تظل وتيرة النمو العالمي متوسطة على المدى القريب.

وخلاصة القول الحال أن الاقتصاد العالمي برمته في عام 2014 سيعاني من تقلبات متواصلة وستعاني الأسواق المالية من تذبذبات حادة قبل أن تستقر إذا ما تمكنت بلدان العالم ومؤسساته المالية من التعامل بمرونة للتغلب على العديد من الأزمات، وبالأخص أزمة منطقة اليورو وتصاعد التوترات الجيوسياسية، مما ينذر بعودة ظهور الغموض الاقتصادي من خلال السياسات الاستراتيجية المالية الاحتكارية، التي تفاقم من مشاكل الانظمة المالية حول العالم، وقد نتج للتاثيرات الجانبية لهذه السياسيات اختلالات في التوازن بالمنظومة الاقتصادية العالمية.

تباطوء الاقتصاديات العالمية الكبرى

فقد خفضت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية توقعاتها لنمو اجمالي الناتج الداخلي في منطقة اليورو في 2014 بواقع 0,4 نقطة مقارنة بتوقعاتها الاخيرة، ليصل الى 0,8 بالمئة، وبواقع 0,6 نقطة لتوقعاتها للعام 2015 ليصل الى 1,1 بالمئة.

وهذا النمو الضعيف يمثل "الوجه الاكثر اثارة للقلق" الذي لاحظته منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في بيان، وفي فرنسا خصوصا، استندت المنظمة الى التوقعات التي اعلنتها الحكومة اخيرا، وتوقعت 0,4 بالمئة لهذه السنة ثم 1,0 بالمئة للسنة المقبلة. وفي ايار/مايو، كانت اعربت عن الامل في نمو من 0,9 بالمئة ثم 1,5 بالمئة.

ولم تفلت المانيا، المحرك الاقتصادي لمنطقة اليورو، وخضعت لتصحيح بالمستوى نفسه: فنموها الاقتصادي يرتقب ان يسجل 1,5 بالمئة هذه السنة، خصوصا وانه لا يتوقع تسريعا للعام 2015. بحسب فرانس برس.

اما المراجعة الاكبر في منطقة اليورو فاصابت ايطاليا حيث اعلنت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية انكماشا (-0,4 بالمئة) لهذه السنة و0,1 بالمئة فقط من النمو للسنة المقبلة، وامام التباطؤ في منطقة اليورو، تسجل الاقتصاديات الكبرى الاخرى مستويات افضل، بحسب المنظمة رغم انها لا تنجو من تباطؤ ما.

وقالت المنظمة "هناك درجة اختلاف (...). النهوض في الولايات المتحدة متين، والنمو على السكة في اليابان والصين، بينما يتعزز في الهند بعد ميل للضعف اخيرا. وعلى العكس، يبدو ان النمو في مننطقة اليورو محكوم بالبقاء ضعيفا على المدى القصير، في حين لن تخرج البرازيل من الانكماش الا ببطء".

وبالنسبة الى الولايات المتحدة، فقد صححت المنظمة ايضا توقعاتها واشارت الى انخفاض، لكن النمو المتوقع يبقى قويا: 2,1 بالمئة في 2014 (مقابل 2,6 بالمئة متوقعة في ايار/مايو)، ثم 3,1 بالمئة في 2015 (مقابل 3,5 بالمئة)، وستسجل الصين نموا من 7,4 بالمئة هذه السنة و7,3 بالمئة السنة المقبلة، وهي توقعات لم تتبدل منذ ايار/مايو.

في حين ستشهد الهند نموا من 5,7 بالمئة هذه السنة (0,8 نقطة افضل من ايار/مايو) و5,9 بالمئة في 2015 (دون تغيير)، وبين الدول الناشئة، تسجل البرازيل الوجه السيء: فمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية لا تتوقع سوى نمو من 0,3 بالمئة هذه السنة (-1,5 نقطة مقارنة بتوقعات ايار/مايو)، ثم 1,4 بالمئة في 2015 (-0,8 نقطة مقارنة بايار/مايو).

من جهة اخرى، وعلى غرار صندوق النقد الدولي، تبدي منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية قلقها حيال الارتياح السائد في الاسواق المالية والذي يبدو لها "غير مرتبط" بالاقتصاد الحقيقي ومعرضا لخطر "تصحيح قاس".

البحث عن الحلول

في سياق متصل فيجتمع كبار المسؤولين الماليين في العالم في واشنطن وسط اجواء قاتمة في ظل المخاوف من انهيار الاسعار في اوروبا والازمة الجيوسياسية في اوكرانيا والمخاوف من نمو ضعيف، غير ان جدول الاعمال ليس قاتما بالقدر الذي كان متوقعا لاجتماع وزراء مالية دول مجموعة العشرين لكبرى البلدان الناشئة والمتطورة الذين يلتقون في العاصمة الاميركية على هامش الاجتماعات الربيعية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

وقال مصدر اوروبي ان المناقشات ستتناول "تطبيع السياسة النقدية وانعكاساته" غير ان المخاوف من وقوع اضطرابات كبرى في الاسواق المالية تبدو مستبعدة في الوقت الحاضر، وقال رئيس قسم الاقتصاد في صندوق النقد الدولي اوليفييه بلانشار "باختصار، ان الانتعاش يتعزز"، غير ان مشكلات اخرى طرأت وفي طليعتها مشكلة اوكرانيا حيث لا يستبعد تسجيل تصعيد في الازمة مع ما يثير ذلك من مخاوف حيال انعكاساتها الاقتصادية سواء في الاحتياطي الفدرالي الاميركي الذي يخشى تبعات "سلبية"، او في صندوق النقد الدولي الذي خفض توقعاته للنمو مشيرا الى "تصاعد التوترات الجيوسياسية". بحسب فرانس برس.

وستطرح المسالة للمناقشة خلال اجتماع يعقده وزراء مالية الدول الصناعية في مجموعة السبع بعد ظهر الخميس في واشنطن، كما يتوقع ان تحتل حيزا هاما في البيان الذي سيصدر عن مجموعة العشرين، كما سيكون مستوى التضخم الضعيف في اوروبا في صلب المناقشات وفي حال تفاقم هذا التوجه وتحول الى انهيار في الاسعار (انخفاض مطول في الاسعار عند الاستهلاك) فان ذلك قد يكبح النشاط ويزيد من عبء الديون على المالية العامة التي لا تزال ضعيفة.

غير ان هذا التشخيص للوضع الاقتصادي ليس موضع اجماع حيث حذر وزير الخزانة الاميركي من انهيار الاسعار داعيا الاوروبيين لاعارة "اهتمام اكبر" لهذه المخاطر، وهو موقف عبر عنه ايضا المسؤول الثاني في صندوق النقد الدولي ديفيد ليبتون الذي اعتبر هذه المعركة "اساسية"، لكن الراي يختلف في الضفة الاخرى من المحيط الاطلسي وقال المصدر الاوروبي "علينا ان نتكلم بشكل بناء مع صندوق النقد الدولي ونشرح له لماذا لا نرى توجها نحو انهيار الاسعار او لا نخشى انهيارا في الاسعار".

وبالرغم من دعوات الصندوق الملحة، فان البنك المركزي الاوروبي يرفض في الوقت الحاضر اتخاذ تدابير محددة مشيرا الى ان التضخم ضعيف "اينما كان" في الدول الصناعية وليس فقط في منطقة اليورو.

وراى نائب رئيس المفوضية الاوروبية سيم كلاس الاربعاء ان مخاطر انهيار معمم في الاسعار "ضعيفة"، كما ستسعى الدول العشرين لوضع توجهات من اجل تحقيق الهدف الذي حددته خلال اجتماعها في سيدني في نهاية شباط/فبراير والقاضي بتحقيق زيادة في النمو بمعدل نقطتين مئويتين اضافيتين بحلول 2018.

وقال مصدر اميركي "قلما تبدلت الامور منذ سيدني" مشيرا الى ان الاهداف لم تتغير، وتبدو هذه المهمة صعبة اذ يتوقع صندوق النقد الدولي نشاطا "ضعيفا" في اوروبا ويخشى ان تكون طاقات النمو "تقلصت" في بعض الدول الناشئة نتيجة نقاط ضعف هيكلية.

من جهة اخرى تعهدت بعض الدول ومنها فرنسا بخفض نفقاتها العامة رغم ان ذلك قد يكبح النشاط الاقتصادي، ولو ان باريس تدعو الى اعطاء النمو الاولوية على ضبط الميزانية، اما موضوع الفوارق الاقتصادية الذي كان مركز اهتمام في دافوس وفي تقارير صندوق النقد الدولي الاخيرة، فيبدو انه تراجع على جدول اعمال العالم، وهو ما يندد به المجتمع المدني، وحذرت منظمة اوكسفام لمكافحة الفقر من ان "الفوارق القصوى تفاقمت" مشيرة الى ان الاشخاص ال67 الاكثر ثراء باتوا يمتلكون ما يوازي مجموع ما يمتلكه نصف سكان العالم الاكثر فقرا. وترى اوكسفام ان الوقت حان لينتقل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من "الخطاب" الى الافعال.

الاقتصادات الناشئة تكبح التعافي العالمي

من جهته قال رينتارو تاماكي كبير اقتصاديي المنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بالانابة في بيان "التعافي التدريجي للاقتصادات المتقدمة مشجع - حتى إن كانت معدلات النمو تراجعت في الأشهر الأولى من العام الحالي - في حين من المرجح ان ينال التباطؤ في الاسواق الناشئة من النمو العالمي". بحسب رويترز.

وذكرت المنظمة في تحديث لرؤيتها للاقتصاد العالمي أن الاقتصادات المتقدمة الكبرى ستسجل في النصف الأول من العام الجاري وتيرة نمو ابطأ مما كانت عليه في النصف الثاني من العام الماضي ولكنها أفضل كثيرا من المعدلات البطيئة في أواخر 2012 وأوائل 2013.

وتوقعت المنظمة ان يتباطأ النمو في الولايات المتحدة إلى 1.7 بالمئة في الربع الأول مقارنة بالربع السابق على أساس سنوي بعد أن سجل 2.4 بالمئة في الربع الاخير من العام الماضي حين تضرر النشاط الاقتصادي بسبب سوء الاحوال الجويةـ ومن المتوقع ارتفاع النمو في اليابان 4.8 بالمئة في الربع الأول مقارنة بالربع السابق إذ يكثف المستهلكون مشترياتهم قبل زيادة ضريبة المبيعات في أول ابريل نيسان.

وفي اوروبا توقعت المنظمة ان تسجل المانيا معدل نمو فصلي 3.7 بالمئة على أساس سنوي في الربع الاول ثم ينخفض إلى 2.5 بالمئة، ومن المتوقع ان تسجل فرنسا ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو بعد المانيا 0.7 بالمئة فقط في أول ثلاثة أشهر ثم يرتفع المعدل إلى واحد بالمئة في الربع الثاني، وخارج منطقة اليورو من المتوقع ان ينمو الاقتصاد البريطاني 3.3 بالمئة في الربعين الأول والثاني.

وفي الاسواق الناشئة ذكرت المنظمة ان بعض الاقتصادات تشهد تراجعا ملحوظا لقوة الدفع اذ كشف نزوح رؤوس الاموال نقاط الضعف في عدد من الدول، وأشارت إلى البرازيل والهند وجنوب افريقيا وتركيا ضمن الدول التي اضطرت لرفع أسعار الفائدة لكبح نزوح رأس المال، وتابعت المنظمة ان ضعف القوائم المالية في الصين يزيد من خطر تباطؤ حاد هناك.

التدفقات النقدية ليست في صالح الاقتصاد العالمي

الى ذلك وعلى الرغم من اتفاق كبار المسؤولين بالدول الغنية والفقيرة في الآونة الأخيرة على تحسن الاقتصاد العالمي إلا أنهم يبدون قلقين، فبالنسبة للدول الفقيرة تقود سياسات التيسير النقدي في الاقتصادات المتقدمة لتذبذب كبير في تدفقات رؤوس الأموال مما قد يزعزع استقرار الأسواق الناشئة أما الدول الغنية فترى أن اكتناز العملة في الدول النامية يعرقل التقدم نحو مزيد من الاستقرار الاقتصادي العالمي.

ويبدو أن التوترات التي تراكمت على مر السنوات قد تفاقمت خلال اجتماع وزراء مالية ومحافظي البنوك المركزية في مجموعة العشرين في واشنطن الأسبوع الماضي ودللت الكلمات القاسية في تصريحات من واشنطن ودلهي على ذلك، وتقول الدول الثرية والفقيرة إنها تعمل بما يحقق مصالحها وتجعل المبررات المنطقية التي يسوقها كل طرف الخلاف غير قابل للحل.

ورغم اتفاق دول مجموعة العشرين على تحسن أوضاع الاقتصاد العالمي إلا أن التوترات تشير إلى عدم إحراز تقدم يذكر في إعادة التوازن للاقتصاد العالمي بدلا مما نراه حاليا من اقتراض ضخم من جانب الدول الغنية للاستيراد من الدول الفقيرة. بحسب رويترز.

وتقول الدول المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة إن جهود التحفيز تفيد الاقتصادات الناشئة من خلال دعم الاقتصاد العالمي وتضيف أن اعتماد الفقراء على التدخل في أسواق العملة يكبح الاقتصاد العالمي.

وتجمع أغلب الأسواق الناشئة احتياطيات من الدولار للإبقاء على عملاتها منخفضة لتحفيز التصدير مما يدفع الدول المتقدمة للاقتراض لتغطية قيمة الواردات.

ويعتقد معظم الاقتصاديين أن بوسع الساسة في أنحاء العالم العالم أن بفعلوا المزيد لمساعدة اقتصاداتهم على النمو لكن الدول الغنية تحجم عن الاعتماد على زيادة الإنفاق بما يتجاوز الإيرادات بينما عادة ما تتأخر الاقتصادات الناشئة في تعزيز المنافسة في أسواقها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 18/آيلول/2014 - 22/ذو القعدة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م