نجاة الأمة والآخذين بجنود العقل

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: عرّف بعض العلماء والمفكرين، العقل على أنه "نور يقذفه الله في قلب الانسان، يكتشف من خلاله الحقائق.."، ويشببه البعض بانه "بمنزلة مصباح منير تملكه النفس البشرية وتتصرف به لرؤية الحقائق وكشفها، متى ما تريد وكيف تريد..". فيما عرّف آخرون العقلاء بانهم "الناس الذين يستخدمون العقل في المسار الصحيح، ويسخرونه في طريق تكاملهم، وتكامل مجتمعهم وخدمة الناس بما أمر به الشرع، ويبتعدون عن كل ما يلوث العقل، ويبعده عن صوابه، مثل: شرب الخمر وأعمال السوء، وغير ذلك من الأمور المشينة..".

إنها خير وسيلة للانسان، من خير نعمة يحصل عليها من الخالق – عزّ وجلّ- وحسب الحديث الشريف فانه – العقل- أشرف المخلوقات – مضمون الحديث- وقد سبق خلقه الانسان. مع ذلك تعيش الأمة اليوم، ومنذ فترة طويلة المعاناة والويلات في بقعة من الارض، ربما بما لم يشهده التاريخ الحديث. فهل هذا يعني أن في بلادنا شحّة في العقول من علماء ومبدعين ومفكرين..؟ مجرد مسحة بسيطة على لائحة اهل العلم والابداع في العالم، نجد أن نسبة كبيرة منهم يعودون الى بلدان الشرق الأدنى والاوسط، بمعنى أننا نمتلك مدرسة للعلماء والمبدعين والمفكرين، بما يشبه الينبوع الذي يمتذ بجذوره في العمق الحضاري.

المشكلة في استخدام العقل وآلية العقلاء في التوصل الى الحقائق وبناء أسس الحياة المستقيمة للناس. وهذا ما دفع سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "الصياغة الجديدة" الى التساؤل المثير؛ "هل العالم، هو عالم المجانين ام العقلاء..."؟! . ويجيب بنفسه على أن الجميع يؤكد عدم وجود مجانين في قادة وصنّاع القرار في العالم. ثم يضيف موضحاً بأن العكس هو الصحيح، وإلا من الذي أتى بالحروب المدمرة الى شعوب العالم، غير مصانع انتاج الاسلحة التي تجني عشرات المليارات من الدولارات عندما يخوض هذا الزعيم او ذاك الرئيس حرباً عبثية او بالنيابة او لأي سبب آخر، مع دولة اخرى، والعجيب أنه يمد يده لمصافحة اعدائه بعد وقف اطلاق النار والدخول في مرحلة السلم..! طبعاً هنالك امثلة عديدة وكثيرة على التناقضات التي يعيشها العالم، ونعيشه نحن ايضاً لما اكتسبناه خلال  العقود الماضية. فهنالك الانفاق الكبير على علم الطب وعلى  المؤسسات الطبية ومراكز الابحاث وابتكار العقاقير والعلاج، الى جانب امراض فتاكة تظهر من وسط هذا المجتمع، مثل "الايدز" وامراض معدية وخطيرة اخرى. كذلك الحال بالنسبة للنظام الاقتصادي الذي نرى كيف انه يكلف سكان العالم أعباء ثقيلة في قسوة الحياة المعيشية وصعوبة الحصول على فرصة العمل والسكن وغيرها.

من هنا نفهم، أن العقل الذي لا يقف دونه أحد، له جنوده وآلياته على الارض، كما إن للجهل الذي لا يقبله أحد –بأي شكل من الاشكال- له جنوده يتحركون في خطٍ متوازٍ مذهل، من الصعب تحديد علائم هذا السير، إلا من خلال الافرازات والاسقاطات، وايضاً من خلال المنجزات والمكتسبات.

ولنا عبرة بالحديث الشريف عن الامام الصادق، عليه السلام، عندما ذُّكر العقل في جمع من اصحابه، فقال: "اعرفوا العقل وجنده، والجهل وجنده، تهتدوا.." وقال: في سياق الحديث: اعطى الله العقل (75) جنداً، كما اعطى الجهل (75) جنداً. ثم عدّ الإمام جُند العقل وأردفهم بجند الجهل، ومما ذكره – عليه السلام-: "الإيمان وضده الكفر، والتصديق وضده الجحود، والرجاء وضده القنوط، والعدل وضده الجور، والرضا وضده السخط، والشكر وضده الكفران، والطمع وضده اليأس، والتوكل وضده الحرص، والرأفة وضدها القسوة، والفهم وضده الحمق، والعفة وضدّها التهتك، والزهد وضده الرغبة، والرفق وضده الخرق، والرهبة وضده الجرأة، والتؤدة وضدها التسرع، والحلم وضدها السفه، والصمت وضده الهذر، والتسليم وضده الشك، والصبر وضده الجزع، والصفح وضده الانتقام، والخضوع وضده التطاول، والأمانة وضدّها الخيانة، والإخلاص وضدّه الشوب، والشهامة وضدها البلادة، والمعرفة وضدّها الإنكار، والمداراة وضدها المكاشفة، وسلامة الغيب وضدها المماكرة، والكتمان وضده الإفشاء، والصلاة وضدها الإضاعة، والصوم وضده الإفطار، والجهاد وضده النكول، وبرّ الوالدين وضده العقوق، والحقيقة وضدها الرياء، والمعروف وضده المنكر، والستر وضده التبرج، والتقية وضدها الإذاعة، والإنصاف وضده الحمية، والتهيئة وضدها البغي، والنظافة وضدها القذر، والحياء وضدها الجلع..".

هنا؛ تبدو المهمة سهلة عندما تكون امامنا محددات الفعل السليم المؤدي الى البناء والتقدم وما يفيد المجتمع والانسان، مما يجعلنا نميز بينه وبين الفعل السقيم المؤدي الى الدمار، ليس فقط بالشكل الهائل والكبير، وعلى نطاق واسع، كما نلحظه في الحروب والسياسات الخاطئة لبعض الحكام، إنما في الاساليب الخاطئة التي يتبعها البعض في حياته اليومية، في محيط الاسرة والمدرسة والعمل وحتى الشارع ومع الناس جميعاً.. فنحن نبحث عن سُبل النجاة من الازمات، فهل هي مرتبطة بالحكومة والبلدية والشرطة و...؟! إنها تكمن في كل فرد في المجتمع. وإلا ما فائدة قانون المرور – مثلاً- إذا لا يوجد هنالك من يلتزم به، بل مافائدة الصلاة -  مثلاً- التي يصليها الواحد منّا وهي خالية من الشروط المطلوبة، والتي حددها القرآن الكريم: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر..}؟

وكما عرفنا دور العقل في الحياة، وانه الضوء الكاشف والنور الذي يبين لنا الحقائق، فنحن مدعوون الى معرفة هوية اهل العقل – العقلاء- من خلال تصرفاتهم وسلوكياتهم – جنودهم وآلياتهم- لُيصار الى التقليل – على الاقل- من حركة الجهل والتضليل والضياع التي نعاني منها، وهذا ما يقدمه لنا سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه: "التصرفات العقلائية"، باننا "اذا أردنا معرفة العقلاء وتشخيصهم في المجتمع والتأريخ، يمكن لنا ذلك وبسهولة فنقارنهم بأضدادهم - الذين هم غير العقلاء- أي: السفهاء والمجانين الذين يمارسون الأعمال الاعتباطية مما يضرون به أنفسهم والآخرين. فإذا وجدنا إنساناً لا يمارس الأعمال الاعتباطية، ولا يضر نفسه، ولا الآخرين فهو من العقلاء..".

وعند هذه النقطة نجد حلاً لمشكلة عويصة، لها جذور نفسية و معرفية.. فهنالك الكثير ممن يتبنون افكاراً وسلوكيات ومنظومة ثقافية متكاملة، يعدها هي الأفضل والأصح، وهي عين العقل والصواب، حتى وإن افرزت بعض الظواهر غير المحببة لدى الناس، فهي مبررة لديهم. وهذا ما نجده جلياً في الجماعات المتطرفة دينياً والمتحررة ثقافياً.. بيد أن العقل السليم مع جنده وآلياته هو الذي يفضح الجهل وكل الاعمال الخاطئة، امام الناس، حينئذ يمكننا القول بانحسار مساحات الجهل والتضليل والتسطيح في المجتمع والامة بشكل عام، والرؤية بعين الأمل بانفراج قريب.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 11/آيلول/2014 - 15/ذو القعدة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م