استراتيجية غربية للتعامل مع روسيا المضمحلة

جوزيف ناي

 

كمبريدج ــ في الآونة الأخيرة كانت مجموعة استراتيجية أسبن، وهي مجموعة غير حزبية تتألف من خبراء في السياسة الخارجية ويتولى رئاستها بالمشاركة معي مستشار الأمن القومي الأميركي السابق برينت سكوكروفت، تتصارع مع السؤال حول كيفية الرد على تصرفات روسيا في أوكرانيا. والآن يتصارع حلف شمال الأطلسي مع نفس السؤال.

ففي حين يتعين على الغرب أن يقاوم تحدي الرئيس الروسي فلاديمير بوتن للقاعدة المعمول بها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945 والمتمثلة في عدم الاستيلاء على الأراضي بالقوة، فلا ينبغي له أن يعزل روسيا بالكامل، فهي الدولة التي تتداخل مصالح الغرب ومصالحها في ما يتصل بالأمن النووي، ومنع الانتشار النووي، ومكافحة الإرهاب، والقطب الشمالي، والقضايا الإقليمية مثل إيران وأفغانستان. وعلاوة على ذلك فإن العوامل الجغرافية البسيطة تعطي بوتن ميزة في أي تصعيد للنزاع في أوكرانيا.

من الطبيعي أن يشعر المرء بالغضب إزاء خداع بوتن، ولكن الغضب ليس استراتيجية. ويتعين على الغرب أن يفرض عقوبات مالية وأخرى في مجال الطاقة لردع روسيا في أوكرانيا؛ ولكن لا ينبغي للغرب أيضاً أن يغفل عن ضرورة العمل مع روسيا بشأن قضايا أخرى. والتوفيق بين هذه الأهداف ليس بالمهمة السهلة، ولن يكسب أي من الجانبين من اندلاع حرب باردة جديدة. وبالتالي فليس من المستغرب أن تنقسم مجموعة أسبن بين داعين إلى الضغط وآخرين يدعون إلى عقد الصفقات، وخاصة عندما يتعلق الأمر بتوصيات سياسية بعينها.

ولابد من وضع هذه المعضلة في منظور طويل الأجل: فما هي الهيئة التي نتمنى أن نرى روسيا عليها بعد عشر سنوات من الآن؟ على الرغم من استخدام بوتن العدواني للقوة والدعاية المهددة المتوعدة، فإن روسيا دولة في انحدار. واستراتيجية بوتن غير الليبرالية التي تتمثل في النظر إلى الشرق وشن حرب غير تقليدية على الغرب في الوقت نفسه كفيلة بتحويل روسيا إلى محطة وقود للصين في حين تقطع اقتصادها عن رأس المال الغربي والتكنولوجيا والاتصالات التي يحتاج إليها.

قد يرحب بعض معارضي روسيا بانحدارها على أمل أن تحل المشكلة ذاتها في نهاية المطاف. ولكن هذا قِصَر نظر واضح. فقبل قرن من الزمان، تسبب انحدار الإمبراطورية النمساوية المجرية والإمبراطورية العثمانية في إرباك النظام الدولي. صحيح أن الانحدار التدريجي، مثل ذلك الذي شهدته روما القديمة أو أسبانيا في القرن الثامن عشر، أقل إرباكاً من التدهور السريع، ولكن في نهاية المطاف لابد أن يضم أفضل السيناريوهات روسيا المتعافية المستعيدة لتوازنها على مدى العقد المقبل.

الواقع أن الأدلة التي تؤكد تراجع روسيا غامرة. فبفضل ارتفاع أسعار النفط في بداية القرن حصل الاقتصاد على دفعة مصطنعة زائفة، حتى أن مؤسسة جولدمان ساكس أدرجت روسيا بين الأسواق الناشئة الكبرى على مستوى العالم (فهي واحدة من بلدان مجموعة البريك، جنباً إلى جنب مع البرازيل والهند والصين). ولكن اليوم اختفى ذلك النمو. فالناتج المحلي الإجمالي في روسيا يبلغ نحو واحد على سبعة من حجم نظيره في الولايات المتحدة، ويبلغ نصيب الفرد الروسي في الدخل (من حيث تعادل القوة الشرائية) نحو 18 ألف دولار أميركي، أي ما يقرب من ثلث نظيره في الولايات المتحدة.

ويشكل النفط والغاز ثلثي الصادرات الروسية، ونصف إيرادات الدولة، ونحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين تشكل الصادرات من التكنولوجيا الفائقة 7% فقط من صادراتها المصنعة (مقارنة بنحو 28% للولايات المتحدة). ويتم تخصيص الموارد بقدر كبير من انعدام الكفاءة في مختلف قطاعات الاقتصاد، حيث يعمل فساد البنية المؤسسية والقانونية على تعويق الاستثمار الخاص. وبرغم جاذبية الثقافة الروسية التقليدية ودعوة بوتن لتعزيز القوة الروسية الناعمة، فإن سلوكه المستأسد كان سبباً في زرع انعدام الثقة. فقِلة من الأجانب يشاهدن الأفلام الروسية الآن، ولم تحقق أي جامعة روسية مرتبة ضمن أفضل مائة جامعة على مستوى العالم في العام الماضي.

صحيح أن احتمالات التفتت العرقي أصبحت أدنى كثيراً مما كانت عليه في أيام الاتحاد السوفييتي، ولكنها تظل تمثل مشكلة في القوقاز. فكان غير الروس يشكلون نصف سكان الاتحاد السوفييتي؛ والآن يشكلون نحو 20% من الاتحاد الروسي ويحتلون 30% من أراضيه.

ونظام الصحة العامة هناك في حالة من الفوضى. ومعدلات المواليد آخذة في الانخفاض، في حين تزايدت معدلات الوفيات، فالذكر الروسي المتوسط يتوفى في أوائل الستينات. وتشير تقديرات المدى المتوسط الصادرة عن خبراء الديموغرافيا في الأمم المتحدة إلى أن عدد سكان روسيا قد ينخفض من 145 مليون نسمة اليوم إلى 121 مليون نسمة بحلول منتصف هذا القرن.

ولكن برغم أن روسيا في هذه المرحلة تبدو أشبه بجمهورية موز صناعية، فإن أبواباً عديدة لا تزال مفتوحة على المستقبل. فروسيا تمتلك الموارد البشرية الموهوبة، وبوسع بعض القطاعات مثل صناعة الدفاع أن تقدم منتجات متطورة ومتقدمة للغاية. ويعتقد بعض المحللين أن روسيا، بالاستعانة بالإصلاح والتحديث، سوف تتمكن من التغلب على مشاكلها.

والواقع أن الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف، الذي كان يخشى أن تقع روسيا في فخ الدخل المتوسط بدلاً من بلوغ مراتب البلدان المتقدمة، وضع الخطط للقيام بذلك على وجه التحديد. ولكن لم يتم تنفيذ إلا أقل القليل من هذه الخطط، وذلك نظراً للفساد المستشري. وفي عهد بوتن، فشل تحول روسيا إلى عصر ما بعد الإمبريالية، وتظل روسيا مشغولة ومهمومة بمكانتها في العالم وممزقة بين هويتها الأوروبية التاريخية وهويتها السلافية.

إن بوتن يفتقر إلى الاستراتيجية اللازمة لتعافي روسيا في الأجل الطويل ويتصرف على نحو انتهازي ــ ولو بنجاح أحياناً في الأمد القريب ــ مع انعدام الأمن الداخلي، والتهديدات الخارجية المتصورة، ونقاط ضعف جيرانه. وبالتالي فقد تحولت روسيا إلى مفسد رجعي للوضع الراهن الدولي ــ وتسعى إلى لعب دور المحفز لغيرها من القوى الرجعية.

ولكن إيديولوجية معاداة الليبرالية والقومية الروسية مصدر فقير للقوة الناعمة التي تحتاج إليها روسيا حتى يتسنى لها أن تزيد من نفوذها الإقليمي والعالمي. وبالتالي فإن التوقعات بأن يتمكن اتحاد أوراسي بقيادة روسيا من منافسة الاتحاد الأوروبي محدودة للغاية.

وأياً كانت نتائج رجعية بوتن، فإن الأسلحة النووية التي تمتلكها روسيا، فضلاً عن النفط والغاز والمهارات في مجال التكنولوجيا الرقمية، وقربها من أوروبا، كل هذا من شأنه أن يعطي بوتن الموارد الكافية لافتعال المشاكل للغرب والنظام الدولي. والواقع أن تصميم وتنفيذ استراتيجية تحتوي سلوك بوتن في حين تحافظ على المشاركة الطويلة الأجل مع روسيا يشكل واحداً من أكثر التحديات التي تواجه المجتمع الدولي اليوم أهمية.

* سكرتير مساعد وزير الدفاع السابق، وأستاذ في جامعة هارفارد، مؤلف كتاب القوة الناعمة، أحدث مؤلفاته كتاب (بعنوان مستقبل القوة)، و(القيادة الرئاسية وخلق عصر أمريكا)

https://www.project-syndicate.org/

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 10/آيلول/2014 - 14/ذو القعدة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م