عقوبة السجن من المنظور الإسلامي

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: ينظر المشرعون التابعون للدولة ومؤسساتها في العصر الراهن، الى عقوبة السجن على انها وسيلة للحد من الجرائم المختلفة، ويرون أيضا أن عقوبة السجن لابد منها لحفظ المجتمع من المجرمين، ونزعتهم الإجرامية التي تتشكل نتيجة لاسباب وراثية او تبعا لظروفهم المعيشية وحاضنتهم المجتمعية، وأسباب اخرى كثيرة قد تدفع الانسان نحو الجريمة، ونظرا للزيادة السكانية الهائلة وتضارب المصالح الفردية والجمعية، وانتشار النزعة المادية بين المجتمعات والافراد على حد سواء، فإن التجاوزات المختلفة وحالات التصادم بين الافراد والجماعات بل وحتى الدول، اصبحت من الظواهر المألوفة في العصر الراهن، ولعل التعقيد الذي تنطوي عليه الحياة البشرية الراهنة تجعل من عقوبة السجن مبررة.

فما هي نظرة الاسلام لهذه العقوبة، وكيف تعامل معها، وهل استند قادة الاسلام العظام في بناء دولة والمجتمع الى عقوبة السجن؟، من الواضح للجميع ان الادلة التاريخية تثبت قوة دولة المسلمين، ابان الرسالة النبوية وتحت قيادة النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن بعيدا عن اللجوء الى عقوبة السجن لبناء الدولة والمجتمع، بمعنى أن هذه العقوبة وفق رؤية الاسلام لا تُسهم في تحقيق ما يصبو اليه المجتمع ولا حتى الدولة، لأن قضية اصلاح الفرد والمجتمع لا يمكن أن تتم بوسائل القوة.

يقول سماحة المرجع الديني، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كتاب (من عبق المرجعية) حول هذا الجانب بوضوح تام: إن إصلاح الناس (يتحقّق بالهداية والتربية والتعامل الحسن وليس بالعقوبات). وهكذا فإن عقوبة السجن لا يمكن أن تسهم في تخليص المجتمع من مشكلاته المتنوعة، لذلك يضيف سماحة المرجع الشيرازي قائلا في هذا الجانب: (إن الموارد التي تستحق السجن في الإسلام هي قليلة جدّاً، ولمعرفة ذلك راجعوا القرآن الكريم وروايات أهل البيت صلوات الله عليهم، وراجعوا الفقه أيضاً). هكذا يمكن لنا متابعة هذه الرؤية الاسلامية بشكل واضح ودقيق لعقوبة السجن.

الإسلام دين الحريات

إن السجن كعقوبة، لا تصلح دائما لزرع التوبة في نفس الانسان، لذلك يرى الاسلام أن الاسلوب المغاير للسجن افضل منه، أي أن اسلوب التوعية وتطوير فهم الانسان للحياة، وشرح التعاليم الاسلامية في مواردها المختلفة، سوف يسهم في خلق انسان واع متنور وفاهم لتعقيدات الحياة، وسوف يكون اكثر التزاما اذا تم استخدام الجانب التربوي معه بدلا من عقوبة السجن، هكذا هي رؤية الإسلام، الذي يركّز على بناء الإنسان بالمعرفة والعلم واصلاحه بالاسلوب التربوي، افضل من اسلوب العقوبات.

فالإسلام كما يؤكد سماحة المرجع الشيرازي في الكتاب المذكور نفسه هو: )دين الحريّات مبدأً وشعاراً، وواقعاً وعملاً(. وقد قدم سماحة المرجع الشيرازي رؤيته في هذا الجانب عبر مؤلَّف خاص أسماه سماحته بـ (العقوبات في الاسلام)، وهذا الكتاب يمكن أن يغني المعنيين عن اساليب العقوبات الخاطئة، لان الكتاب مستمد من رؤية الاسلام للعقوبات، وكيفية تطبيقها ودرجة الجدوى التي تتحقق منها، فضلا عن النتائج الوخيمة التي يمكن أن تحدث عن العقوبات بصورة خاطئة ومتسرعة، لأن الجانب التربوي والاصلاحي أكثر ملائمة من سواه.

لذلك يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (أنا شخصياً ألّفت كتاباً في كربلاء قبل خمسين سنة، باسم - العقوبات في الإسلام- وتم ترجمته إلى الفارسية وطبع في إيران، وقد بحثت فيه فوائد وأضرار الحبس والسجن من وجهة النظر الشرعية والقانونية). بمعنى ان هذا الكتاب لسماحة المرجع الشيرازي لم يتطرق للعقوبات من وجهة نظر المشرّع الاسلامي او الشريعة الاسلامية ورؤية المنهج الاسلامي لاسلوب العقوبات الرادعة ومدى جدواها في بناء الفرد والمجتمع، بل ينطوي الكتاب المذكور ايضا على رؤية سماحة المرجع الشيرازي للقوانين التي يتم تطبيقها كعقوبة لمن يستحقها، وهكذا يمكن ان تتوفر للدارس رؤية مزدوجة تشمل الشرع الديني والقانون الوضعي في وقت واحد.

فشل المجازاة بالسجن

لم يكن السجن في الإسلام ابان دولته العظمى، سبيلا لإصلاح المجتمع، وتخليصه من المجرمين، ولم يكن الحاكم الاسلامي بحاجة الى هذه العقوبة الرادعة، لكي يضمن سلامة الفرد والمجتمع، بل لا يعاقب الاسلام الناس وفقا للقوانين الوضعية، كونها قد تتسبب في الظلم، وانتهاك سمة العدل في المجتمع، فكثيرا من حالات السجن التي يتعرض لها الافراد لا تستند الى العدل، بل هي ظالمة كون اساسها هو الظلم، يحدث هذا في الغالب في الحكومات المستبدة، وفي ظل الحكام الذين لا يراعون حقوق الشعب، وغالبا ما يجد مثل هذا الحاكم مبررات كثيرة تبيح له معاقبة الناس بالسجن، وهو ليس من استحقاقهم، فكل من يعارض الحاكم المستبد معرض لعقوبة السجن، وحريته في الرأي مصادرة تماما، لذلك تخطئ القوانين الوضعية عندما يكون مصدرها الحاكم الطاغية، من هنا يرى الاسلام جدوى في الاصلاح والتربية خيرا من السجن.

لذلك نقرأ لسماحة المرجع الشيرازي قوله في هذا المضمار: (إنّ الإسلام لا يعاقب على مخالفة القوانين المكتوبة، سواء جاءت عن الملك أم الأمير أم البرلمان أم غيرها، بل الإسلام يعاقب على مخالفة القوانين الإلهية فقط، وهي ما ذكرت في الكتب الإسلامية، وبذلك تحصر العقوبات في الجرائم فقط). وهكذا يمكن ان يكون هناك مبرر لعقوبة السجن في حالات محددة تنحصر في ارتكاب الجرائم بحق الاخرين، من لدن مجرمين متمرسين، ربما يمتهنون الجريمة ويرتكبون الكثير من الجرائم الشنيعة بدم بارد.

لذلك فخلاصة الرؤية الاسلامية لعقوبة السجن، يمكن ان نجدها في القول المركّز والمختصر والدقيق لسماحة المرجع الشيرازي، عندما أكد سماحته قائلا حول هذا الموضوع: (خلاصة القول: ان المجازاة بالسجن في غير مواردها الشرعية، أمر غير مجدي وفاشل). وبهذا ينبغي ان تخضع عقوبة السجن الى الموارد الشرعية الدقيقة، حتى يمكن تجنب الاشكالات الكثيرة التي يتعرض لها المجتمع والفرد في وقت واحد، لاسيما اذ تم تدارس الرؤية الاسلامية لهذه العقوبة بصورة متوازنة وعميقة، وعدم التمسك بالتبريرات التي تستند الى رؤية واحدة تتمثل بقضية التعقيد الذي يعيشه الانسان في المعمورة كلها، وتزايد التصادمات وتضارب المصالح وما شابه، فحتى عندما تكون المجتمعات كبيرة، فإن عقوبة السجن لا تعطي الثمار المطلوبة مثلما يمكن ان تحققه التربية والتوعية والاصلاح القائم على الفهم والاقناع.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 28/آب/2014 - 1/ذو القعدة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م