الإمام الصادق (ع) ومنهج الحوار العلمي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: عندما تحتوشنا الفتنة الطائفية وذراعها التكفير، وما جنته على الأمة من ويلات ومآسي، نستذكر الإمام الصادق، عليه السلام، الذي تمر هذه الأيام ذكرى استشهاده في الخامس والعشرين من شهر شوال المكرم، وكيف انه واجه ألسنة هذه الفتنة منذ بداياتها الأولى، حيث كان رموزها يضعون اللبنات الأولى لأفكارهم ومعتقداتهم التي توهموا أنها كشفاً وابتكاراً لمن يريد ان يفهم الدين بالشكل  الذي يناسبه!.

وعندما نتحدث عن "مدرسة الامام الصادق" وجامعته العلمية، فنحن نشير الى مدرسة الحوار العلمي والمنطق والبرهان القاطع. نظراً الى ان عهد الامام، عليه السلام، كان يمثل اكبر فسحة زمنية في حينها لظهور عقائد ونظريات عديدة تحولت فيما بعد الى مذاهب دينية، وهنالك سببين أو اكثر، باختصار:

انطلاق حركة الترجمة لكتب الفلسفة اليونانية التي تضم نظريات في الخالق والوجود والإنسان، وتم ذلك على خلفية الاحتكاك بين المسلمين والشعوب الأخرى خلال الفتوحات الإسلامية.

تشجيع بعض الحكام على انتشار الأفكار والتصورات العقائدية واتخاذها مذهباً سياسياً ودعامة لنظامهم السياسي لمواجهة الفكر الأصيل المتمثل في الأئمة المعصومين، عليهم السلام، الذين كانوا يرون فيهم الخطر المحدق على شرعيتهم في السلطة. كما تبنى معاوية "القدرية" التي تبرر له ديكتاتوريته وسياسته القمعية. و المأمون العباسي "المعتزلة"، كونها تنفي مبدأ الامامة والولاية لأهل البيت، عليهم السلام، وأن الخلافة من بعد رسول الله، لعلي بن أبي طالب وابنائه. كما قالوا بـ "خلق القرآن" وانه لم ينزل على شكل آيات كريمة قدمت الاحكام والشرائع والسنن للمجتمع.  

هذا الواقع الجديد على الأمة جعل المسلمين في حيرة من أمرهم، فلم يتمكنوا من التمييز بين هذه النظريات الجديدة وبين النظرية الاسلامية المتكاملة للحياة. الامر الذي جعل الامام الصادق امام المهمة الحضارية لتبيين معالم الدين وتثبيت اركان الثقافة والفكر الاصيل، بما يمكن الناس من الاستدلال والاحتجاج امام الملحدين والزنادقة الذين كثروا في عصره.

ان الصخرة الكبيرة التي اصطدم بها أصحاب الفكر الآخر، قوة الحجة والاستدلال لدى مدرسة الامام الصادق، فقد تميزت هذه المدرسة بالشمولية في الفكر والثقافة وسعة أفقها، وحسب ما يذكر الباحثون فان مدرسة الإمام الصادق، كانت الرائدة في مناهج التربية والتعليم، حيث ضمت اختصاصيين في علوم شتى، مثل هشام بن الحكم الذي تخصص في المباحث النظرية، فيما تخصص زرارة ومحمد بن مسلم وأشباههم في المسائل الدينية، كما تخصص جابر بن حيان في الرياضيات، وهكذا.

حتى أنه كان يأتيه الرجل فيسأله عما يريد من نوع الثقافة، فاذا كان الفقه، يدلّه على العالم المختص، أو التفسير فيشير إلى صاحبه، أو الحديث والسيرة، أو الرياضيات، أو الطب، أو الكيمياء ، فيشير إلى تلامذته الأخصائيين، فيذهب الرجل بملازمة من أراد حتى يخرج رجلاً قديراً بارعاً في ذلك الفن.

من هنا يجدر بنا الاشارة الى التخطيط الحكيم للامام، عليه السلام لمواجهة موجة الانحراف الفكري في زمانه عبر سلاح الفكر نفسه وبطريقة الحوار، فقد وضع رسم ثلاث خطوط متوازية في هذا الطريق:

الأول: لقد خصّ فرعاً من مدرسته بالذين يعرفون فلسفة اليونان بصورة خاصة وغيرها بصورة عامة، ويعرفون وجهة نظر الإسلام إليها والحجج التي تنقضها، وكان من هؤلاء هشـام بن الحكـم المفّوه الشهـير، وعمران بن أعين، ومحمد بن النعمان الأحول، وهشام بن سالم، وغيرهم من مشاهير علم الحكمة والكلام، العارفين بمقاييس الإسلام النظرية أيضا.

الثاني: كتب رسائل في ذلك، مثل رسالته الشهيرة بعنوان: (توحيد المفضل)، ورسالته المسماة بـ (الإهليلجة) وغيرها.

الثالث: المواجهة الشخصية لرموز الإلحاد. كون هذه العملية الأخيرة، أبلغ في مقابلة الموجة من اللتين سبقتا. ولمن يريد مطالعة الحوارات والمناظرات الفكرية بين الامام وبين الزنادقة والملحدين، هناك مؤلفات وكتب تضم العديد من هذه الحوارات الطويلة، وقد كان هؤلاء يبحثون عن الامام، في المدينة المنورة او خلال موسم الحج، بزعم انهم يقدرون على تمرير افكارهم وتصوراتهم ويكرسونها في المجتمع، اذا تمكنوا من إفحام الامام امام الناس، فكانت النتيجة عكسية تماماً. ولعل محاور واحدة تكفينا للاستدلال على عظمة المهمة التي نهض بها الامام وخدم بها الدين والثقافة والانسانية.

نجد قوة الحجة والدليل في مدرسة الامام الصادق، عليه السلام، ثم نلاحظ الخذلان في الجبهة المقابلة بسبب التناقضات والاصطدام بالعقل والمنطق والفطرة، اذ كان الهدف النهائي لهؤلاء الهروب من الحقيقة، والعاقبة كانت الفشل الذريع والهزيمة الفكرية المدوية التي بدأت منذ عهد الامام الصادق، عليه السلام، واستمرت مع حياة الأئمة المعصومين، عليهم السلام، حيث واصلوا مهمة التصدي للافكار الوافدة والدخيلة بالحوار والمحاججة والمجادلة بالتي هي أحسن.. كما نقرأ في المناظرة الشهيرة بين الامام الرضا، عليه السلام، واقطاب الاديان والمذاهب الاخرى بحضور المأمون العباسي، وايضاً في تصدّيه، عليه السلام، طيلة فترة امامته لمحاولات البعض من المتأثرين بالثقافة والفكر الاجنبي، تمرير سلعتهم في المجتمع الاسلامي.

هذه الهزيمة الفكرية التي تعود الى تلك الحقبة، هي التي دفعت الحكام لان يتدبروا امرهم ويعدوا العدّة لمواجهة الخطر المحدق عليهم، إذ ان استمرار هذه المدرسة في نهجها يعني سلب الشرعية منهم، وتكوين نظرية جديدة في الحكم والدولة والعلاقة مع المجتمع، فضلاً عن تقديم النموذج الحقيقي للنظام الاسلامي الذي طالما حاولوا إخفاءه عن الاذهان. وهكذا نجدهم يلجأون فوراً الى العنف والتصفية الجسدية بعد ان يعجز اللسان والعقل عن أداء دوره البناء والصحيح.

من هنا يمكن القول: ان سلاح التضليل الذي امتشقه الحكام، منذ معاوية بن ابي سفيان، تحطم وتهشم امام سلاح أمضى وأقوى امتشقه الأئمة المعصومون، وفي طليعتم الامام الصادق، عليه السلام، وهو سلاح الحوار الذي يصرع الطرف المقابل ويقضي عليه ويكون سبباً في يقظة المئات او الآلاف من المغرر بهم والمخدوعين، وعودتهم جادة الصواب. وهذا تحديداً يفسر بقاء التشيع حيّاً نابضاً بالفكر الاصيل والثقافة الانسانية رغم كل الدماء التي تسيل والتضحيات الجسام التي لا تتوقف.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 23/آب/2014 - 26/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م