وقفة مع مقاييس عدم المساواة وإشكالاتها

حاتم حميد محسن

 

كتاب (رأس المال في القرن الواحد والعشرين) لـ توماس بكتي Thomas Piketty (1) الصادر مؤخراً كان من بين كتب الاقتصاد النادرة التي ضربت رقما قياسيا في عدد النسخ المباعة، حيث اصبحت قضية اللامساواة في صدارة النقاشات السياسية الساخنة. غير ان الكتاب أثار اسئلة هامة، مثل اي مقياس لعدم المساواة يجب ان يحظى بالاهتمام.

 الاقتصاديون عموما يعتقدون بوجود ثلاثة مقاييس للتفاوت الاقتصادي جميعها متشابهة، لكنها متميزة: اللامساواة في الدخل، اللامساواة في الاستهلاك واللامساواة في الثروة. وبشكل عام تعتبر اللامساواة في الثروة هي الاكثر حدة في التوزيع من بين الثلاثة، اما الاستهلاك فهو الاقل حدة في التفاوت. في امريكا، مثلا، يشير معامل ارتباط جني Gini coefficients (قياس للامساواة فيه يمثل الرقم 1 أعظم لا مساواة بينما يمثل الصفر مساواة تامة في المجتمع) الى 0.78 للثروة و 0.63 للدخل، ولكن فقط 0.40 للاستهلاك. والشيء المشترك في كل القياسات هو الميل نحو الصعود خلال فترة الثلاثين سنة الماضية.

قياس عدم المساواة في الدخل هو اكثر القياسات شيوعا، لأن البيانات التي يحملها هي الاكثر شمولية. لكنه عند الحديث عن الكيفية التي تؤثر بها اللامساواة على الناس فهو ربما يكون المقياس الاقل اثارة للاهتمام من بين الثلاثة.

اما اللامساواة في الاستهلاك، مع انها يصعب قياسها، فهي توفر افضل تمثيل للرفاهية الاجتماعية. هذا بسبب ان مستوى معيشة الناس يعتمد على كمية السلع والخدمات التي يستهلكونها، بدلا من عدد دولارات الاجور التي يتقاضونها. الاستهلاك يُعتقد ايضا له منفعة حدية متناقصة، بمعنى، الشخص الافقر سيقيّم الوحدة الاضافية من الاستهلاك أكثر من نظيره الأغنى. وهكذا فان نشر الاستهلاك بالتساوي سيعظّم الرفاهية التراكمية الكلية. عدم المساواة في الاستهلاك يجب نظريا ان تتعقب الدخل بشكل وثيق، ومع ان الدليل لم يكن قاطعا، فان البحوث الاخيرة تقترح ان الاثنين ارتفعا جنبا الى جنب خلال الثلاثين سنة الاخيرة.

مقياس الثروة هو ايضا مقياس هام طالما ان الثروة يمكن توريثها، خلافاً للدخل. عندما تتزايد عدم المساواة في الثروة، فان نصيب الولادات يصبح وبشكل متزايد مقرر هام لمستويات المعيشة. وبالنتيجة، المجتمع الذي يريد ضمان مستوى متساوي من الفرص، لاترتبط فيه المحصلات بقوة بالألقاب، سوف يسعى جاهداً لإبقاء اللامساواة في الثروة في مستويات منخفضة ومقبولة.

ان العلاقة بين اللامساواة في الثروة والدخل هي نوعا ما معتمة. فاذا كان المقياسان مرتبطين ايجابيا في عدة دول، مثل امريكا (حيث اللامساواة عالية) وجنوب كوريا (حيث اللامساواة منخفضة)، فانهما ينحرفان في دول اخرى. مثلا، سويسرا والدانيمارك فيهما أعلى مستوى من اللامساواة في الثروة ضمن مجموعة دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD، ولكن لديهما نسبيا مستويات قليلة من اللامساواة في الدخل. مقابل ذلك نجد، اليابان وايطاليا فيهما تفاوت كبير في الدخول، لكن عدم المساواة في الثروة هي في مستويات معتدلة.

في جميع المقاييس الثلاثة للامساواة يُلاحظ هناك ارتباط ايجابي بينهم. عدم المساواة في الثروة تولّد عدم مساواة في الدخل، التي بدورها تولّد عدم مساواة في الاستهلاك. هنا تبرز اهمية العناية بالقياس المُستخدم، المقياس يهم كثيراً عندما نقرر الكيفية التي تستجيب بها السياسة بأفضل صورة ممكنة. انظر، مثلا، الى ضريبة الثروة التصاعدية التي يدعو لها المؤلف بكتي في كتابه. فرض ضرائب على ثروات العوائل الكبيرة هو بالتأكيد سيقلل من اللامساواة في الثروة. غير ان، تأثيرها على عدم المساواة في الاستهلاك هو اقل وضوحا. وبينما تقلل الضرائب من دخل العوائل الثرية، هي ايضا تزيد حوافزهم للاستهلاك ليتجنبوا عبء الضريبة. وهكذا من الممكن للضرائب ان تزيد فعلاً اللامساواة في الاستهلاك، على الاقل في المدى القصير. وعكس ذلك، بالنسبة لضرائب الاستهلاك التصاعدية، المصممة لتقليل مستوى اللامساواة في الاستهلاك، سوف تفاقم اللامساواة في الثروة.

هذه السياسات ستكون لها تأثيرات مختلفة جدا وربما معاكسة تماما على المقياسين المذكورين لعدم المساواة. وهكذا فان الطريقة التي نقيس بها اللامساواة، والخيار الذي نرغب اتباعه لتقليلها، سيكون له تأثير حاسم على الاستجابة المثلى للسياسة. وبالرغم من التعقيدات في كيفية اعتماد افضل قياس لعدم المساواة، لكن المهم وبنفس القدر هو كيفية مواجهة نزعة التصاعد في اللامساواة.

Measuring inequality, The Economist, Jul 16th 2014.

...........................................

الهوامش

(1)      كتاب "رأس المال في القرن الواحد والعشرين" للاقتصادي الفرنسي توماس بكتي، يتناول قضية عدم المساواة في الثروة والدخل في اوربا والولايات المتحدة منذ القرن الثامن عشر. الكتاب صدر اولاً باللغة الفرنسية في عام 2013 ثم تُرجم الى الانجليزية في شهر ابريل 2014. كانت للكتاب ردود افعال واسعة وحقق الرقم الاول في حجم النسخ المباعة طبقا لنشرة صحيفة ذي نيويورك تايمز.

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 16/آب/2014 - 19/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م