كيف نفكر في الشرق الأوسط الجديد

دينيس روس

 

لعل الجهود التي بذلها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري من أجل وقف إطلاق النار لم تفلح في وضع حد للصراع الدائر في غزة، ولكنها أثارت الكثير من التعليقات. فقد مزّقته الصحافة الإسرائيلية [بتهجمها عليه]، حتى تلك التي يفترض أنها متعاطفة ظاهرياً مثل صحيفة "هآرتس" اليسارية، إذ نشرت هذه الأخيرة مقالاً لاذعاً عن مساعيه الدبلوماسية تحت عنوان "ما الذي كان يفكر فيه؟" وفي الواقع أن وزير الخارجية سعى لأسباب مفهومة إلى إنهاء أعمال القتل، ليس بدافع إنساني فحسب بل نزولاً عند تعليمات الرئيس أوباما أيضاً الذي اضطره إلى "الضغط من أجل وقف فوري للأعمال العدائية على أساس العودة إلى اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقعته إسرائيل و «حماس» في تشرين الثاني/نوفمبر 2012".

ومع أن إرشادات الرئيس الأمريكي قد تكون منطقية، إلا أنها لم تأخذ بعين الاعتبار الحقائق الجديدة. فأولاً، إنّ اتفاق عام 2012 لم يفعل شيئاً لمنع «حماس» من بناء شبكة مركّبة من الأنفاق لتطلق منها الصواريخ على إسرائيل وتتسلل إليها - ولن تقبل إسرائيل بالعيش مع أنفاقٍ تتغلغل في البلاد وتشكل على حد قول مواطن إسرائيلي "مسدساً مصوباً على رؤوسنا". ثانياً، إن مصر في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي مختلفة اليوم عن الأيام الخوالي، إذ باتت تجد في «حماس» تهديداً وليس حليفاً محتملاً. وليس لديها مصلحة في إنقاذ «حماس» أو السماح لها بالاستفادة من الصراع الحالي. ثالثاً، يرى السعوديون والإماراتيون والأردنيون في جماعة «الإخوان المسلمين» التي انبثقت عنها «حماس»، خطراً يضاهي الخطر الإيراني. وعلى غرار مصر، تريد هذه الدول العربية المعتدلة أن ترى «حماس» تخسر لا أن تفوز.

وتسهم هذه الحقائق الجديدة في تبرير سبب شنّ «حماس» هذه الجولة القتالية: فقد كانت في عزلة ووضع مالي يائس. وكانت مصر قد قطعت على الحركة أنفاق التهريب من سيناء إلى قطاع غزة، التي كانت تشكل غالبية إيراداتها، فيما استُنزف مصدر تمويلها الرئيسي الآخر - أي الإيرانيين - بسبب الخلافات بشأن الصراع السوري والأولويات الإيرانية الأخرى. وقد توقعت «حماس» أنّ اتفاق المصالحة التي توصلت إليه مع السلطة الفلسطينية سيدفع هذه الأخيرة إلى تحمل التزامات «حماس» المالية. لكن السلطة الفلسطينية امتنعت عن ذلك وتعذّر على «حماس» دفع الرواتب. وحيث لم يكن لديها ما تخسره، شنت «حماس» هذه الجولة من القتال آملةً، بحكم دورها كمحور المقاومة وبفعل التعاطف التي كسبته جراء عدد الضحايا الكبير من الفلسطينيين المدنيين وإلحاقها بعض الخسائر على الأقل بإسرائيل، أن تسترجع دورها كلاعب لا غنى عن التعامل معه وإرضائه.

وتستوجب هذه الاستراتيجية التهكمية، على أقل تقدير، كسب «حماس» شيئاً ما من هذا الصراع في الوقت الذي يقتصر فيه مناصروها على تركيا وقطر. لكن الشرق الأوسط اليوم يختلف عما كان عليه عام 2012 حين كان «الإخوان المسلمون» يحكمون مصر وكان يبدو أن زحف الإسلاميين يمتد على المنطقة بأسرها. ولإسرائيل ومصر والسعودية والإمارات والأردن اليوم هدفٌ مشترك هو إضعاف «حماس». وحتى السلطة الفلسطينية تشاركهم هذا الهدف، ولكن مع تزايد عدد الضحايا الفلسطينيين في غزة، يجد زعيمها الرئيس محمود عباس نفسه في مأزق مستحيل: فهو أيضاً يستميت لوقف القتال لكنه لا يستطيع تحمل خروج «حماس» بدور المنتصرة الرمزية من هذا القتال.

مما لا شك فيه أن إدارة أوباما أدركت ما الذي يحدث مع الرئيس عباس وأيقنت التوترات المتصاعدة في الضفة الغربية والخسائر البشرية الفادحة في غزة، فأملت أن تتمكن من إنهاء هذا الصراع. وحين رفضت «حماس» الاقتراح المصري الأول لوقف إطلاق النار وتبنت مصر دوراً غير فاعلٍ في معظم الأحيان، يبدو أن فريق الرئيس أوباما اعتقد أن تركيا وقطر قد تتمكنان من استخدام نفوذهما على «حماس» من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار.

لكن هنا أيضاً نرى الحقائق الجديدة تعرقل مثل هذه المقاربة. فتركيا وقطر تسعيان إلى الهدف نفسه الذي تسعى إليه «حماس»، وهو تحقيق النصر- بما يعنيه ذلك من انتهاء القتال ورفع الحصار عن غزة وعدم إخضاع البضائع التي تدخل القطاع إلى أي تدابير احتياطية قد تحول دون قدرة «حماس» على إعادة بناء بنيتها التحتية العسكرية من الصواريخ والأنفاق. وليست إسرائيل وحدها الطرف الذي لا يمكنه قبول هذه النتيجة، فالمصريون أو السعوديون أو حلفائهم الإقليميين أيضاً لا يمكنهم قبولها. والحق يقال، أن مصر لا تزال هي العنصر المؤثر. فهي تسيطر على معبر رفح - المدخل الجنوبي لغزة - الذي بات اليوم مغلقاً. والمثير للسخرية هو أن المعابر الوحيدة إلى غزة اليوم التي تعمل على الإطلاق هي معابر إسرائيلية. لذلك حين ينتهي هذا الصراع، سيكون لمصر تأثيراً هائلاً على ما ومَن الذي يمكن أن يدخل إلى غزة ويخرج منها.

ويشكل ذلك عامل نفوذ لمصر. فعلاقتها مع إسرائيل ذات أهمية، وثقة إسرائيل بأن مصر تشاركها المصلحة نفسها في عدم السماح لحركة «حماس» بإعادة بناء قدراتها العسكرية تعني أن مصر قادرة على التأثير في الموقف الإسرائيلي. وفي نهاية المطاف، قد تتمكن مصر من التأثير على «حماس» أيضاً لأن هذه الأخيرة، على أقل تقدير، تحتاج لأن يكون معبر رفح مفتوحاً في نهاية الصراع - حتى لو أصرت مصر، كما هو مرجّح، على تمركز قوات السلطة الفلسطينية عند المعبر. ويقيناً، في سبيل إنهاء الصراع، من الممكن أن ترضخ مصر إلى قيام قطر بدفع رواتب «حماس» وتسمح بدخول هذه الأموال عبر معبر رفح. لكن نهج مصر تجاه «حماس» - وهي الدولة التي تعتبر أن الحركة تسهم في التهديدات التي تواجهها في سيناء- يقضي بمواصلة احتواء «حماس»، وسيكون ذلك هدفاً مصرياً في أي اتفاق تتوسط فيه مصر لوقف إطلاق النار.

وبيت القصيد هو أن الصراع سينتهي لا محالة. فمن الممكن أن ينتهي إما بحصيلة تم التفاوض عليها وتركز فيها الولايات المتحدة على مصر وليس على تركيا أو قطر، وإما أن ينتهي حين تدمر إسرائيل [جميع] الأنفاق وترى «حماس» أن ترسانة صواريخها تتضاءل بشدة وأن الثمن في غزة بات باهظاً للغاية. ومما يُحسب لصالح الوزير كيري أنه تصوّر أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي حاول التوصل إليه، سيؤدي إلى إيقاف القتال لكن [في الوقت نفسه] تستطيع [بموجبه] إسرائيل أن تنهي تدمير الأنفاق. ومع أن هذا الاتفاق لم ينجح حتى الآن، إلا أنه قد يصبح واقعاً إذا ما عملت الولايات المتحدة حصرياً من خلال المصريين.

وبالإضافة إلى ذلك، ثمة نقطة أكبر يُستحسن على إدارة أوباما النظر فيها أيضاً. إذ يجدر بها قراءة المشهد الاستراتيجي الجديد في المنطقة والعمل على أساسه. ويجب أن يصيغ هذا المشهد الحسابات الأمريكية حين تقارب واشنطن المسائل الكبرى حول السلام بين إسرائيل وفلسطين، وحول سوريا والعراق وإيران. وخلال العامين والنصف المتبقيين من ولاية هذه الإدارة، عليها أن تتعامل مع الشرق الأوسط واضعةً نصب عينيها هدفاً أكثر شمولاً، وأن تقيّم كيف تدعم سياساتها اليومية هذا الهدف أو تنتقص منه، ألا وهو: كيف تضمن أن يكون أصدقاء الولايات المتحدة في المنطقة أكثر قوة بحلول كانون الثاني/يناير 2017، وأن يكون أعداؤهم (وأعداء الولايات المتحدة) أكثر ضعفاً؟ وفي النهاية، سيكون من الحكمة للرئيس أوباما والوزير كيري أن يتعاطيا مع الصراع الراهن، ونهايته، بأخذهما هذا الهدف في الاعتبار.

* دينيس روس هو مستشار وزميل ويليام ديفيدسون المتميز في معهد واشنطن. وكان قد شغل منصب مساعد خاص للرئيس أوباما في الفترة 2009-2011.

http://www.washingtoninstitute.org/

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 3/آب/2014 - 6/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م