حالة اللاتوازن وأسباب تفكك الدول

حاتم حميد محسن

 

قد لا يبدو هناك ارتباط كبير بين العنف الاخير في الاقاليم السوفيتية سابقا واراقة الدماء المتواصلة في الشرق الاوسط. في الاولى، هناك قوة جديدة تحاول إعادة تأكيد ذاتها في منطقة كانت تحكمها قبل فترة ليست بعيدة. وفي الحالة الثانية، توجد جماعات طائفية متشددة تستولي على مساحات كبيرة من الاراضي بالقوة.

مع ذلك، كلا النزاعين ينبثقان من مصدر مشترك، كما يحصل في العديد من الصراعات الرئيسية الكبرى حول العالم. في كلتا الحالتين، هناك عدم تماثل بين حدود الدولة من جهة والهويات القومية من جهة اخرى– عدم توازن بين الدولة والامة. الدولة هي عدد من المؤسسات التي تدير منطقة معينة، اما الامة تتكون من الناس الذين، يرون انفسهم، يشتركون بخصائص مشتركة (اللغة، التاريخ، الثقافة، الدين) التي تخولهم لحكم الذات. في بعض اجزاء العالم، هناك انسجام جيد بين الدول والامم. في دول اخرى، لا يوجد مثل هذا الانسجام. في تلك المناطق، يوجد على الاقل بعض المواطنين الذين يعتقدون ان طموحاتهم القومية بالتحرر من الحكم الاجنبي ستتحقق على افضل صورة عبر خلق دولة منفصلة او عبر الالتحاق بدولة مجاورة يشتركون معها بنفس التماثل السكاني.

وعلى الرغم من ان عددا هائلا من المواطنين الاوكرانيين يفضلون الاستقلال عن الحكم الروسي "الاجنبي"، مثلا، لكن هناك مواطنين آخرين لاسيما في كريميا، وحتى في شرق اوكرانيا – يريدون التحرر من الحكم الاوكراني "الاجنبي". هم يعتقدون انهم يجب ان يلتحقوا بروسيا او يخلقوا دولة منفصلة متحالفة مع روسيا. في البلد الضعيف، عدم التوازن هذا بين الدولة والامة يمكن ان يقود الى اضطرابات اهلية، كما حصل في الايام الاولى في مدينة يورمادن Euromaidan باوكرانيا. وعندما يمتد عدم التوازن الى ماوراء الحدود، سيقود الى صراعات اقليمية، كما حصل حين توغلت روسيا عسكريا في كريميا.

 الشيء ذاته ينطبق على الشرق الاوسط، حيث نجد دولة العراق والشام الاسلامية منشغلة بكثافة في تحدي الحدود الدولية. جهودها لا يُحتمل ان تنجح في إعادة رسم الحدود بين دول المنطقة – القوى الكبرى والقوى الاقليمية سوف تعارض ذلك بكل ما تملك من قوة. غير ان الحدود القائمة بين دول المنطقة ستفقد كل ما تحمله من معنى عندما تكتسح الفوضى كلا الجانبين من الحدود.

ان القتال الاخير في الشرق الاوسط يُنظر اليه كصراع طائفي. فالجماعات ذات القيادة السنية في العراق ولبنان وسوريا جميعها تلقى الدعم من الدول السنية في الخليج، وتقف في مواجهة تحالف الحكومات الشيعية في ايران والعراق وحزب الله في لبنان. لكن العديد من الناس في هذه الدول لا يعتقدون ان نظام سايكس بيكو، الذي اوجدته القوى الاستعمارية الغربية، يستجيب للمطالب الشرعية في تقرير المصير القومي. وعلى مر السنين، كانت هناك تحديات هائلة للنظام، بما فيها الحركات المطالبة بـ"العراق الكبير" و "سوريا الكبرى" بعد استقلال هذه الدول عن الحكم الاستعماري الاوربي، وظهور حركة القومية العربية، في الخمسينات والستينات تحت حكم الرئيس جمال عبد الناصر، ثم مؤخراً الحركة الاسلامية (الاكثر تشددا المتمثلة بالقاعدة ودولة العراق والشام الاسلامية). وخلال كل ذلك، كان الكرد يتحدّون الحدود في ايران والعراق وسوريا وتركيا.

ان عدم التوازن بين الدولة والامة أصبح أكثر سوءاً نتيجة لفشل الدول العربية في بناء الامة. التحدي كان كبيرا منذ البداية بسبب عدم التماثل بين الحدود والهويات حين تكونت هذه الدول بعد الحرب العالمية الاولى. لكن الانظمة العربية لم تبني ابدا ذلك النوع من الانظمة السياسية الجامعة التي بإمكانها تخفيف المشكلة. واليوم، عندما نأتي لقضية الحرب والسلام، نجد الجماعات تميل للتماهي في هويتها الاثنية – الطائفية مع نظرائهم في دول اخرى اكثر بكثير من ميولهم تجاه رفاقهم من الطوائف المنافسة في نفس البلد. جميع دول الشرق، مثلا، منقسمة بعمق حول الحرب الاهلية في سوريا. جماعات السنّة يقدمون المقاتلين والسلاح والمال الى المسلحين الخاضعين لقيادات سنية، والشيعة يقومون بنفس الدور في دعمهم للحكومة السورية.

هناك الكثير من الحلول لمشكلة عدم التوازن بين الدولة والامة، لكنها تبقى جميعها حلولا شائكة.

الحل الاول

 وهو الحل الكلاسيكي ويتمثل بالتقسيم على طول الخطوط الطائفية الاثنية. ذلك يعني ايجاد اثنين (او أكثر) من الدول لاثنين (او أكثر) من الامم، وهذا الحل يرتكز على مبدأ ولسون في تقرير المصير القومي. ولكن في عدة اماكن، عادة يكون السكان ممتزجين ولا توجد خطوط جغرافية واضحة بين الجماعات السكانية. وفي اماكن اخرى، خاصة في العالم العربي، نجد التداخل واضحاً في العديد من تمايزات الهوية الدينية والطائفية والقبلية والاثنية والقومية. ذلك يجعل من الصعب جدا تقسيم الارض بشكل مقنع. وحتى لو كانت هناك خطوط واضحة بين وضمن الجماعات، فان الدول القائمة لا ترغب في الامتثال لكل الدعوات الانفصالية، وهي تخشى من وضع سابقة خطيرة قد تهددها لاحقا. باختصار، ايجاد اي نظام لدولة واضحة المعالم سيكون امرا عسيرا وبداية لسلسلة من المعارك الدموية.

الحل الثاني

 وهو ايجاد دولة متعددة القوميات، تستلزم اثنين او اكثر من القوميات يتقاسمون السلطة في دولة واحدة. هذا الحل جرى تطبيقه في العراق، لكن المستوى العالي من عدم الثقة، والسياسات المؤسفة وضعف مؤسسات الدولة العراقية حكم عمليا على النظام بالفشل. في الواقع، ان الحكومات المرتكزة على ترتيبات تقاسم السلطة، مثل قبرص ولبنان ويوغسلافيا، كانت تنزع دائما نحو الحرب الاهلية. (حتى بلجيكا مرت بوقت عصيب في إيجاد التوازن بين جماعات الـ Flemings وWalloons). ان ترتيبات تقاسم السلطة التي بدت ناجحة – او التي لم تقد للحرب الشاملة - حدثت في دول نالت الدعم من حضور دولي قوي، كما في البوسنة. الترتيبات الاخرى الناجحة لحكومات تقاسم السلطة كانت قد حصلت على المؤازرة من دولتين مشتركتين تمارسان ضغوطا للاعتدال على الطائفتين الخاصتين الّتين تنتسبان لهما. على سبيل المثال، المملكة المتحدة وايرلندا حثّتا الجماعات البروتستانتية والكاثوليكية لإبرام اتفاقية الجمعة العظيمة في ايرلندا الشمالية عام 1998. في الشرق الاوسط، لا يُتوقع من الغرب ان يرسل بناة سلام لدعم الحكومات المتقاسمة السلطة لفترات طويلة. كما ان الدول المؤثرة وذات الثقل في المنطقة – ايران والسعودية - التي يمكنها ممارسة ضغوط فعالة على المكونين الشيعي والسني هما خصمان رئيسيان.

الحل الثالث

 هو القومية المدنية – خلق دولة لجميع مواطنيها، كما في اوربا الغربية واجزاء كبيرة من الامريكيتين. لكن تلك الدول القومية انبثقت من ظروف تاريخية خاصة. في اوربا الغربية، كانت العملية دموية واخذت قرونا قبل ان تنشأ الدول القوية ذات الامم المتماسكة مثل فرنسا. في الامريكيتين، العملية استلزمت الكثير من الهجرة والتهميش للسكان الاصليين. مثل هذا النموذج لا يمكنه ان ينجح (او يكون جذابا) في بقية دول العالم.

الحل الرابع

 الحكم التسلطي وهو الحكم الذي حفظ الاستقرار لفترات طويلة في الدول المضطربة حاليا. الحاكم القوي يستطيع قمع الدعوات الاثنو قومية المتنافسة وبهذا يخلق مظهرا شكليا للتوازن. الولايات المتحدة انهت الاستقرار الظاهر في العراق بإزاحة صدام حسين من السلطة عام 2003 ومن ثم تفكيك المؤسسات العراقية القائمة. ذلك لا يعني القول ان صدام سيستمر لفترة اطول. لأن ما يحصل حاليا في منطقة الربيع العربي يبيّن، انه في عصر الدمقرطة وحقوق الانسان، سيفقد جميع الحكام الاقوياء في النهاية شرعيتهم وقدرتهم، خاصة في المجتمعات المنقسمة بعمق.

وبكلمة اخرى، لا توجد هناك حلول جيدة للشرق الاوسط الذي يكتسحه العنف حاليا. العراق وسوريا لا يوجد فيهما رجال حكم دكتاتورين لدرجة يستطيعون معها الحفاظ على تماسك بلديهما، كما لا يوجد امامهم الوقت الكافي لبناء قومية مدنية. اما الغرب فهو من غير المحتمل ان يتبنّى ارسال قوات كافية ونقود لدعم ترتيبات انظمة تقاسم الحكم لعدة عقود قادمة. في المستقبل المنظور، لا توجد قوى اقليمية يمكنها الدفع نحو الاعتدال. ولذا، فان التقسيم قد يحصل بسبب الفشل في منعه. اي إعادة رسمية لرسم الحدود ستكون بلا شك دموية ومكلفة. ولكن اذا تواصل العنف، فان التقسيم اللارسمي الناعم سيكون حتميا. الاقليم الكردي المستقل بحكم الامر الواقع وذات الاستقرار والازدهار النسبيين يبيّن ان التقسيم قد ينجح.

النتيجة من هكذا تقسيم ناعم سيكون اقليما كرديا في شمال العراق، واقليمين آخرين في الوسط والجنوب. وفي المدى البعيد، هذا الترتيب سيقود اما الى انفصال تام بكل ما يحمل من معنى او الى دولة متعددة القوميات. المحصلة ستعتمد على التطورات داخل المناطق المستقلة وعلى العلاقات في ما بينها. في تلك الاثناء، سيقبل الغرب بالامر الواقع وسيدعم القادة البرجماتيين والمعتدلين في كل منطقة. هؤلاء القادة يجب ان يكونوا مستجيبين لطموحات جماعاتهم الاثنو طائفية وايضا قادرين على التعاون مع قادة المناطق المستقلة الاخرى. وفي احسن سيناريو، ستتوقف الجماعات على الاقل عن القتال ضد بعضها البعض، بصرف النظر عما اذا كانت الحدود بينها هي نتيجة للامر الواقع ام لحكم القانون.

..........................................

State of Imbalance, why countries Break Up, Foreign Affairs, July 2014

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 27/تموز/2014 - 28/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م