في التغيير الذاتي.. تجاوز مرحلة المراهقة السياسية

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: في البلاد التي تتحول فيها الأنظمة السياسية من ديكتاتورية الى ديمقراطية، يتعين على ابنائها طي مراحل النمو والتطور السياسي لبناء هيكلية النظام الجديد، ثم التعرّف على تفاصيل الاجراءات المطلوبة والقواعد اللازم اتباعها ضمن المسار الديمقراطي، من اجل طي مرحلة الماضي والحؤول دون تكرار ظهور ممارسات وعلائم داء الديكتاتورية. كل ذلك يتم من خلال عملية تغيير ذاتي وإعداد نفسي ليكون القائمين بالامر على أهبة الاستعداد لتقديم نموذج جديد لنظام سياسي ينعكس ايجاباً على الوضع الاجتماعي والاقتصادي، لا ان يكون الجميع منتظرون القوالب الجديدة تأتيهم من الخارج، وتصل اليهم النصائح والتوجيهات هاتفياً وربما حضورياً، من هذه العاصمة وتلك الشخصية الدولية المتنفذة.

 في البلاد العربية الخارجة للتوّ من قبضة الديكتاتورية، نلاحظ ظاهرة غريبة على البناء السياسي للدول المتحضرة، وهي الرغبة الجامحة في التشبث بمرحلة المراهقة السياسية، وعدم تجاوزها نحو النضوج والتطور، وربما يكون من الاسباب؛ تجذر حالة المعارضة في النفوس والعقول، فيكون السلوك والموقف متأثراً بأجواء الماضي، ومن سماتها الصراع والمواجهة الكلامية والفكرية وحتى بالسلاح.. ومن سماتها ايضاً البحث عن الإثارة واختلاق المشاكل والأزمات لتحقيق الوجود والحصول على مكاسب في الساحة. ففي جميع بلادنا العربية المتحولة الى الديمقراطية، لم تتمكن واحدة منها، من الانتقال الى مرحلة بناء الدولة بمؤسساتها الدستورية وقواعدها الديمقراطية. إنما نلاحظ تكريس ثقافة الإلغاء والتهميش وتوظيف خيرات وقدرات البلد لمصالح حزبية ضيقة او لتلميع صورة الرئيس على أنه "راعي الديمقراطية"!.

ولمن يبحث عن التحول من المراهقة السياسية الى النضوج والتطور السياسي، يطالع كتاب "ممارسة التغيير لانقاذ المسلمين" لسماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- حيث يؤكد مرة اخرى على ضرورة "الفهم السياسي" من قبل افراد المجتمع بشكل عام، والنواب والوزراء والمسؤولين بشكل خاص، وطالما اشار سماحته الى هذه النقطة الجوهرية والاساس في بناء الدولة الناجحة التي ترفل بالعطاء، في اكثر من كتاب. وهنا يوصي سماحته بـ"الاضطلاع في السياسة وذلك لا يكون إلا بتدارسها وتباحثها، والمطالعة الكثيرة فيها والأخذ والعطاء بموازينها وفق خصوصياتها".

مراكز البحث والدراسة والمشورة

رغم ما يعرفه الساسة في بلادنا من حجم اعتماد الانظمة السياسية المتقدمة على مركز البحث والدراسة في صنع القرار، وايضاً الاعتماد على المستشارين الكفوئين للمساعدة على اتخاذ القرار الصائب. بيد أن الملاحظ عدم وجود ارادة حقيقية للتطلع الى مديات أوسع وأعمق في المسائل السياسية، بما يمكنهم من اتخاذ القرارات الصحيحة وتوجيه دفة الحكم بشكل يتناسب مع طموحات الشعب نحو البديل الديمقراطي. وهذا ما نلاحظه جليّاً في التجربة العراقية، حيث يتركز الاهتمام على امور جانبية وصغيرة مثل القضايا الخدمية، مع وجود قضايا اساس في الدولة مثل الأمن الاقتصاد والعلاقات الخارجية، ولنا أدلة وشواهد لا تُحصى من تسابق هذا الوزير وذاك المسؤول الكبير على افتتاح مجسّر، او متنزه، او مجمع سكني. فيما هنالك قضايا اساس لابد من متابعتها وانجازها لها علاقة بالبنية التحتية للانطلاق منها نحو التطور والتقدم في البلاد، مثل الحريات الفردية والعامة على الصعيد الاجتماعي، وتطوير وسائل الانتاج والاستثمار على الصعيد الاقتصادي. وهذا ما يحذر منه سماحته في كتابه لمن يريد التغيير الحقيقي حيث يصف تلكم الامور الجانبية والصغيرة، بـ "الدخيلة على الفهم السياسي.."، كما يتهم المتلبسين رداء السياسة، بمجانبه الحقيقة عندما ينشغل "بالتوافه والمكرّرات، والغفلة عن الهدف الأسمى، أرأيت من كان له مريض مبتلى بالسرطان وإذا لم يعالجه علاجاً سريعاً أدى إلى موته، ثم حصلت في يده بثرة صغيرة تؤلمه لكنها ليست قاتلة ولا تسبب له العطب هل يشتغل بالبثرة أو بالسرطان..؟ إنه إن ادعى الفهم ثم اشتغل أولاً بمعالجة البثرة دون السرطان أعطاك دليلاً عملياً صارخاً على أنه لا يفهم شيئاً..".

من هنا نفهم، عدم اهتمام معظم الساسة في بلادنا – ان لم نقل جميعهم- بالمشورة الصادرة من علماء وباحثين في مؤسسات اكاديمية ودينية، وعدم اهتمامهم بأمر مراكز الدراسات والابحاث التي من شأنها ان تقدم للسياسي خيارات عديدة وتكشف له عن حقائق ورؤى تفيده في اتخاذ القرار الصائب. فهكذا مراكز يكون قوام عملها ونشاطها التخطيط والتفكير بطريقة استراتجيية بمديات واسعة، حيث يؤخذ كل شيء بعين الاعتبار، وهذا ربما لا يتناسب مع المستوى المحدود لتفكير الكثير من الساسة.

ضياع الأهداف الكبيرة

من المؤكد أن النظرة الضيقة والتفكير المحدود للبعض الساسة يجعله بعيداً جداً عن الاهداف الاستراتيجية والطموحات التي جاءت به الى سدة الحكم. لنلاحظ تجاربنا الديمقراطية.. الجميع يدعي انه يحقق جميع طموحات واهداف الشعب والبلد في النمو والعمران والرفاهية، بيد ان الاختبار يكون خلف مكتب النائب او الوزير او المدير، حيث هنالك تذوب كل الوعود والادعاءات، وتظهر حقيقة الاهداف التي من اجلها يبذل هذا وذاك جهده للحصول على وافر الاصوات والفوز بالانتخابات، ثم تسلّق سلم السلطة. وربما اصبح جلياً لدى عامة الناس المسافة البعيدة بين الاهداف الكبيرة للشعب والبلد وبين الاهداف الصغيرة والخاصة لبعض الساسة، وهذا بحد ذاته يفسر استمرار حالة اللااستقرار السياسي والاقتصادي ، وسقوط الناس في مستنقع ازمات خانقة مثل البطالة والغلاء والتضخم والفساد الاداري.

وفي هذا السياق يدعو سماحة الامام الراحل لصبّ كل "الإمكانيات والصلاحيات في طريق العلاج والتغيير حتى أن الأمر لو كان بحاجة إلى تأليف كتاب حول المرأة أو العامل والفلاح أو كيفية علاج الاقتصاد أو ما أشبه لزم صبّه في التيار العام للتغيير اقتداءً بالرسول، صلى الله عليه وآله، حيث جعل حتى من شؤونه الفردية وقضاياه الشخصية مورداً نحو المصب العام لتقدم الإسلام إلى الأمام..".

ان التقدم الذي حققه النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، في دولته وحضارته المجيدة، جاء من خلال توظيف كل شيء لصالح المجموع، بعيداً عن الفئوية والعشائرية، فقد كان جالساً في مسجد صغير متواضع دون سقف يحميه من حرارة الشمس وهطول المطر، وفي مدينة صغيرة حديثة النشوء وغير معروفة على الخارطة آنذاك، بيد ان كل حركاته وسكناته كانت ذات اشعاعات بعيدة تصل الى أقاصي العالم. وعندما نطالع السيرة المطهرة، نجد انه حارب وصالح وتحالف على الصعيد السياسي، وفي المجتمع بنائه للبيوت حول المسجد لأقربائه واصحابه واهتمامه بالشريحة الفقيرة وحتى مسألة زواجه المتكرر وغير ذلك كثير، كلها كانت تصب في الصالح العام .

لكن لنلاحظ ما يجري في بلداننا حيث يتم توظيف كل شيء، من قدرات وامكانات وخيرات، من اجل اهداف بسيطة زائلة، مثل ان يكون هذا رئيساً للوزراء او ذاك وزيراً او نائباً للرئيس او... فتكون النتيجة ان يكون البلد الاول في الفساد الاداري وفي انعدام الأمن والاستقرار وفي التبعية للخارج في كل شيء.

لعل ابرز شاهد على وجود المراهقة السياسية ما يجري في العراق حالياً، ليس اليوم، إنما منذ سنوات، حيث عجز معظم الساسة من تجاوز هذه المرحلة، فهم يكررون نفس الاساليب والتصرفات والخطابات، حتى بات من الصعب على المواطن البسيطة التكهّن بما سيفعله الممثلون عنه في البرلمان، وهل سينجحون في تشكيل الحكومة في القريب العاجل أم لا.. فكل شيء يكتنفه الغموض علاوة على حجم الاحباط والخيبة المنتشرة اساساً في اوساط المجتمع.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 26/تموز/2014 - 27/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م