ولايته .. من مقتضيات التدين

موقع الإمام الشيرازي

 

كان الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أول الناس (فتياناً ورجالاً) في الإسلام، وأولهم استجابة لدعوة أخيه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا غرو في ذلك، حيث إنه لم يسجد في حياته لصنم قط، حتى قيل فيه استثناءً، (كرم الله وجهه)، فضلاً لما تقدم من علاقته الخاصة برسول الله (صلى الله عليه وآله). وعليه فإن العلاقة الوشيجة والمتفردة بالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، تعد من أوثق منابع تأسيس شخصية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولذا فإن سائر المصادر والروايات، لم تذكر أية مخالفة من أمير المؤمنين لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، في قول أو عمل أو تقرير، حتى ساعة شهادته (عليه السلام)، وبالتأكيد بعد وفاته (صلى الله عليه وآله)، فكل ما كان ينطق به (عليه السلام)، إنما عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، موصوف بالصحة والوثاقة المطلقة، فهو مدينة باب علم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتى أنه عندما كان يسأل عن علمه بالغيب، يقول: (إنما هو علم الله علمه لجبريل، وقد علمه جبريل لرسول الله، ورسول الله علمنيه)، وهو بذلك متفرد دون سواه، بينما نسب للآخرين من الصحابة، مخالفات للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) عن اجتهاد أو غيره.

وبذلك، فإن من مكنون هذه العدالة المطلقة، والوثاقة التامة، يمكن بشكل عقلائي، فهم دلالة وصفه بالعصمة، حيث إن ما يروى عنه (عليه السلام) صحيحاً، فهو عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو أمر مفروغ منه، وكذا كل ما يصح عنه من أفعال وتقريرات. وهكذا أهل العصمة الأئمة من أبنائه (عليهم السلام)، ولذا ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام)، إنه إنما لا يعنعن في حديثه، بمعنى لا ينسبه، لأنه إنما يروي بالمطلق عن أبيه وأبائه عن رسول الله حصراً. وقد أشير لهذه الجزئية في حديث السلسلة الذهبية، الذي روي بالإجماع والتواتر، عن الإمام الرضا (عليه السلام) في رحلته الى خراسان، إذ التمس العلماء منه حديثاً عن آبائه يذكرونه له، فقال حدّثني أبي موسى الكاظم، عن أبيه جعفر الصادق، عن أبيه محمّد الباقر، عن أبيه على زين العابدين، عن أبيه الحسين شهيد كربلاء، عن أخيه الحسن المجتبى، عن أبيه علي بن أبي طالب، أنه قال: حدّثني حبيبي وقرّة عيني رسول الله (صلى الله عليه وآله)، عن جبرئيل أنه قال: سمعت ربّ العزّة سبحانه يقول (كلمة لا إله إلاّ الله حصني، ومن قالها دخل حصني، ومن دخل حصني أمن عذابي). وقال أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء، عن سلفه من المحدثين، (لو قرئ هذا الإسناد على مجنون لأفاق من جنونه). وقال إمام الحنابلة فيه مثل ذلك، حتى وصف بحديث السلسلة الذهبية، حيث لا يضاهيه سند سواه، دلالة على الوثاقة والعدالة المطلقة لسائر حلقاته، وهو بذلك يشير إلى هذه العلاقة الفريدة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، والأئمة الأعلام من ولده (عليهم السلام)، برسول الله الأكرم (صلى الله عليه وآله). كما أن هذا الحديث الثابت، يدحض مزاعم التطرف، التي تتهم أتباع مذهب آل البيت(عليهم السلام)، بأنهم يذهبون إلى تكفير المسلمين الآخرين، ممن لا يقولون برأيهم، بل يثبت هذا الحديث الشريف، أن المسلمين سواء أمام الله جلّ في علاه، حيث دخلوا حصنه بقولهم لا إله إلا الله، والميزان في التعامل معهم جميعاً هو التزامهم بالدين عقيدة وشريعة.

ويختصر عبد الله بن عباس، علاقة الإمام (عليه السلام) بالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، بـالقول: (لعلي خصال أربع ليس لأحد غيره، فهو أول الناس من العرب والعجم صلى مع رسول الله، وكان لواء رسول الله معه في كل زحف، وصبر مع الرسول في غير موقع حيث فرّ الآخرون، وهو الذي غسّله وأدخله قبره).

ومن منابع بناء شخصية أمير المؤمنين (عليه السلام)، أن الله(عزوجل) قد اختص الإمام (عليه السلام) بالولاية، بعد أخيه رسول الله الأكرم(صلى الله عليه وآله)، وهي إمامته الروحية وسلطته القدسية، التي خصّها به النص القرآني المقدس، والسنة الشريفة، ففي حقه وبإجماع المفسرين - بعد أن تصدق (عليه السلام) بخاتمه لسائل مرّ بقربه وهو(عليه السلام) راكع في صلاته - قد نزلت الآية الكريمة: ((إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)). تقول الآية الكريمة: ((إنما وليكم الله))، فالولاية إذن أولاً لله (عزوجل)، ((ورسوله))، ثم الولاية لرسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ((والذين آمنوا))، الواو هنا عاطفة، فتكون الولاية أيضاً للمؤمنين، لكن ((الذين)) الثانية في الآية غير معطوفة، مجردة من أداة العطف، فهي في محل توكيد للأولى، وهي مقيدة لها، بمعنى أن المقصد وهو ((الولاية)) لا ينصرف إلى الذين آمنوا بالمطلق، وإنما هو مقيد ومحدد حصراً بالذين ((يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون))، حيث إن الواو الأخيرة تفيد الحال، أي حالة الزكاة، خشوعاً وتواضعاً لله، وقد ورد التعبير بالجمع، لترغيب الناس بالاقتداء. وقد نصَّ أهل التفسير والسير والتاريخ، أن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو المتشرف بالولاية، وكان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، قد سأل السائل من أعطاه الخاتم، فأجابه: ذاك الراكع، فنزلت الآية الكريمة، أما أن النص لم يسم الإمام (عليه السلام) بالاسم، فذاك لاختبار الناس وامتحانهم، وتمييز المؤمنين عن المنافقين منهم، وقد روى هذه الحادثة الطبري في تفسيره والسيوطي في الدر المنثور، والخطيب البغدادي في تاريخه عن ابن عباس، وغيرهم من أعلام القوم، فضلاً عن رواتها من أعلام الإمامية.

وليكتمل النص الإلهي بالنص النبوي كانت قضية الغدير، وذلك في السنة العاشرة للهجرة، حيث المسلمون قد قفلوا راجعين إلى ديارهم بعد إكمالهم مناسك الحج، فتنزل الآية الكريمة ((يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك))، هنا يأمر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) الناس للاجتماع، آمراً المتقدم منهم أن يعود، والمتأخر أن يلتحق بالجمع، ثم يأخذ (صلى الله عليه وآله) بيد أمير المؤمنين (عليه السلام) ليصدر الأمر النبوي، أنه (من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه). والأمر هنا مطلق لم يتحدد بموقعة أو زمان، (كدعوى تكليفه القضاء في اليمن)، ولا يقبل الواقع أي اجتهاد في تفسير المفردة (مولاه)، بغير معنى الولاية، وهي ليست رواية مرسلة حتى ترتكز مصداقيتها على حجية السند، وذلك لجهة تواترها وتجاوز رواتها المئات، بل هي ترقى إلى مستوى الدراية، كونها ارتبطت بموقعة شهدها جميع المسلمين، ورواها الجميع من كبار الصحابة وسائر الرواة. ثم تنزل الآية الكريمة، لتعلن إنجاز المهمة المحمدية، بإكمال الدين وإتمام الرسالة ((اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً))، وليلبي الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بعدها نداء ربه (عزوجل)، بفترة وجيزة، حيث كانت أولى وآخر رحلاته إلى الحج.

وعليه فإن الإقرار بولاية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، والاعتبار بمنهجه، واتباع أوامره ونواهيه، في خطابه وفكره وسلوكه، هو من مقتضيات سلامة تديّن المسلم، في طاعة الخالق (عزوجل) والولاء لرسوله (صلى الله عليه وآله)، بغض النظر عن الاختلاف في كونها أصلاً أم فرعاً، كون الإنسان المسلم مكلف، أن يأخذ بكل ما أمر به الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأن ينتهي عن كل ما نهاه عنه، كما أنها من مقتضيات سلامة سريرة الفرد وتربيته وأخلاقياته، وأنسنة سلوكه ومتبنياته في الحياة عموماً، ومدركاته الفكرية والعقلية والعقدية. كما أن هذا التكليف لا يتقيد بزمان ومكان، فهو منهج يمتلك عوامل ديمومة ونجاح، وفي مقدمة تلك العوامل، سلوك إنساني رفيع، وأداء وظيفي متكامل، في جوانب الحياة كافة.

http://alshirazi.com/

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 21/تموز/2014 - 22/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م