شهر الجهاد

الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي

 

قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): (الجهاد باب من أبواب الجنّة، فتحه الله لخاصة أوليائه). وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): (الخير كل الخير، في السيف وتحت ظلال السيف)، وأضاف قائلاً: (الجنّة تحت ظلال السيوف). وإذا كانت الحروب القديمة، لا تدور إلاّ على السيوف والخيول، فقد خصصها الرسول العظيم بقوله: (الخيل، معقود بنواصيها الخير)، فالسيوف والخيول، هما عصبا الحروب، وأداتا الجهاد، فكان الخير كل الخير، معقوداً بنواصي الخيل، وفي السيف وتحت ظلال السيف.

وإذا كان كل الخير، في الخيل والسيف، فلا إيمان بلا جهاد، إذ لا إيمان بلا خير، فكان من الطبيعي أن يقول الله سبحانه: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)). وكان من الطبيعي: أن يهتم الإسلام بأمر الجهاد، اهتماماً كبيراً. فما دام أعداء الحق والإنسان، يتوسلون بالقسوة والسلاح، لنزف الدموع وامتصاص الدماء، فلا بد لأنصار الحق والإنسان، من استخدام الرحمة والسلاح ـ معاً ـ لإبادة الشر، وإسعاد النّاس. ولا بد للقرآن أن يهيب بالمسلمين قائلاً: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)).

أو ليس الإسلام، هو الذي عانى من ألوان التعذيب والتشريد، ما أتى على صبر الجلادين الطغاة ـ الذين كانوا يواجهون بها الإسلام ـ ثم لم يستطع توسعاً إلى قلوب نفر من أهل مكة، فلما احتمى بالسيوف اليثربية، أصبح أمراً واقعاً ذا مناعة لا يمكن تجاهله ولا القضاء عليه، أخذ النّاس يدخلون في دين الله أفواجاً؟..

أو ما سجل التاريخ: إنَّ يتيماً لا مال له ولا رجال ولا سلاح، خرج في الفيافي والقفار الملتهبة، يناجي صخورها السوداء، ويمرح فوق رمالها الزاحفة، فاحدث انقلاباً عظيماً في المعمورة، ووضع يداً على المشرق، ويداً على المغرب؟.. أترى من هو ذلك اليتيم العظيم؟ وما هي قوته، التي زلزل بها الأرض وصعق الملوك ـ أولي الحول والطول، والسطوة والسلطان ـ يوم لم تكون في يده سلاح إلاّ والأقوى منها في أيدي أعدائه؟..

إنّه النبي محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنّها العقيدة العتيدة التي لا تنالها العواصف ولا تميلها القواصف، وهذه القوة، هي روح الجندية التي تهيمن على العظماء الرجال، فتحركهم نحو عظائم الأمور.

فروح الجندية، هو الذي يمنح الكون، الحركة والخصب والنماء.

ولو لا بسالة الجندي الذي يتعفر على رمال البادية ـ في هوائها النقي وجوها الصافي، من أضرار التوابل والعطور، والفواكه واللحوم والخمور ـ لم يبق إنسان حراً على وجه الأرض.

ولو لا روح الجندية، لما اندفع الشاب الحالم، إلى مجال الموت باسم الثغر، ولما جعل نفسه سياجاً، ليحفظ الراقدين على الأسرة الهفّافة.

ولو لا روح الجندية لما خرج الرجل من أحضان أسرته لمصارعة القدر، ولما عبر البحار، على متن طائرة تقتحم الزوابع، وهو يعلم أنَّ روحه معلقة بين أنامل القدر، ولا يعلم متى يميل به الجناح، فتهوي به الريح في مكان سحيق، أو تغوص به إلى أعماق البحر.

ولو لا روح الجندية، لا بزع في جزيرة العرب، أبطال تفجروا غيرة حماساً، فسبقوا الأعاصير واقتحموا لهوات الأسود، فكانوا أقوى من الصخور وأثبت من ظهر الأرض، كلما اقترب الوعد الحق، ووقعت الواقعة، وعض الظالم على يديه، صارخاً: ((يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ)).

فبروح الجندية انبثقت من فم (طريد مكة) ثورة عطلت الحياة الجاهلية برمتها، وظلت على الدهر طرية، تضرب الأمثال، فتناهبها الأسماع، ولا يحلوا إلا بها الحديث، ولا يصح إلا بها واقع الحياة.

وبروح الجندية، توسع الإسلام، فتغلغل في تخوم آسيا، وتسللت منه إشعاعات بلغت مضارب أفريقيا، وامتدت إلى كلّ قطر شعبٌ من نور.

فكان على الإسلام أنْ ُيحيي روح الجندية، ما دام يحبُّ الحياة، ومن أجل ذلك ورد في الحديث: (إنَّ الله يحبُ الرجل الشجاع، ولو على قتل حية)، وجعل الإسلام خمسين حسنة، لمن قتل الوزغة بضربة واحدة، وعشراً لمن قتلها بضربتين. وما شأن الوزغة في مقاييس الشرع لو لا أنّه يريد أنْ يبعث إلى الشجاعة في مختلف مظاهرها، حتى ولو تمثلت في قتل الوزغة.

ولكن، كيف يمكن إنعاش روح الجندية في الإنسان، حتى يكون متأهباً للفداء، والإحسان إلى أمته ولو بالتضحية الغالية؟ إنّ روح الجندية ـ كأية ملكة فاضلة في الإنسان ـ لا تنطلق إلى إلاّ بترويض النفس عليها، فإذا أبعد مستوياتها الممكنة قهر نفسه بالمجاهدة، وأنزلها من عتوِّ المادة البهيمية، إلى ساحة الأعمال الشاقة، للحدود الشرعية، بلغ مستوى التعبير عن مواهبه الدفينة، وإنْ رقد في فراش النعمة، غرق في بحار النقمة، فالنفس كالفرس الجموع، وإنْ أسلست لها تقحمت، وإنْ أشنقت لها تذللت.

والصوم، من أعظم أنواع تربية روح الجندية في الإنسان، لما فيه من التمرين، على تحمل الشظف، ومقاومة الطبيعة، والاستقلال بالملكات الشخصية، التي تجعل أصحابها، من المجاهدين، الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس.

لأنَّ ممارسة الصبر على الجوع والعطش، خير تجربة للشجاعة، ومن احتمل الجوع والعطش، يمكن أن يتدرج في المراحل القاسية، التي تنتهي بتحمل الفداء، بينما يستحيل على من يبهضه ألم الجوع والعطش يوماً واحداً أنْ يثبت في المعترك الهائل، الذي يموج بالرزايا، إذا رجت الأرض رجاً، وتخلّعت القلوب وزلزلت، بهزيم المدافع ودويّ الطائرات، وهو يرى الأشلاء تتناثر حواليه، ويسمع وجيب القلوب وأنين الجرحى.

إنّ طبيعة الانغماس في الشهوات، واجتراح المعاصي والترف الخليع، تبعث على الرطانة والاستخذاء، وتنتهي بالذل والهوان، وطبيعة الصبر والصمود، والترفع عن الملاهي والشهوات، تبعث على الاتزان والشموخ، وتنتهي بالعزة والمجد.

وقد عبر (ارسطاطاليس) عن هذه الحقيقة ـ في كتابه الذي وجهه إلى (الاسكندر) ـ عندما قال: (إذا رأيت أمة، أُغدقت عليها النعم، وجانبها النصب والتعب، وأبطرها الرخاء، فتعلم أنَّ ساعتها قد اقتربت، وإنَّ أجلها قد أوشك أن ينتهي، فإما تلك الأمة التي أصابها الجهد بسبب الحرب، ومقارعة الأبطال في الميادين، ومحاربة عدوّها الغادر الفاتك، فإنها تنشط من عقالها وتبني مجدها).

وقد قال (الطنطاوي) في تفسير (الجواهر): (ولمّا كان الصوم والاعتكاف، كفاً للنفس عن الشهوات، والقتال وملاقات الأعداء، من أهم أنواع الصبر، ناسب أن يلّزا في قرن، وتنتظم جوهرة الصيام، وفلذة الجهاد، في سمط واحد، فكلاهما صبر، وكلاهما رفع للنفس عن حال البهيمية. فالصوم تعالي النفس عن شهوات الطعام وذلّة الحطام، والجهاد رفع لها عن أن تستخذي للظالمين أو تذلّ للقاهرين).

والإنسان في الحياة، في جهادٍ مستمر، لأنّه محاطٌ بالأعداء، الداخليين كالغرائز، والخارجيين، كالحيوانات المؤذية، والأعداء الآدميين، فإذا بدأ بالصراع مع أعدائه الداخليين وانتصر عليهم، فما أحراه بأنْ يقهر أعدائه الخارجيين، وإنْ فشل في تطهير باطنه، فما أجدره بالفشل في خارجه.

أو لا يكفي تاريخنا أكبر عبرة وموعظة، فإن المسلمين عندما تركوا الفرائض الإسلامية، خضدت شوكتهم، وذهبت ريحهم، وأصبحوا خُشباً مسنّدة، يختطفهم الأعداء من كل جانب، ويجعلون أسيادهم عبيداً، وعندما لزموا الفرائض الإسلامية، بلغوا القمّة، ومرغوا الطواغيت في التراب، وما واجههم فرعون، إلا وغادروه هشيماً تذروه الرياح، والجيوش التي أشرف عليها صعيداً زلقاً أصبح ماؤهاً غوراً، فلن يستطيع له طلباً.

وفي شهر الصيام، يمارس الصائم جهاداً مريراً، فيجتمع له جهاد بالنهار، على الصيام، لكبح نفسه وغمط شهواته، وجهاد بالليل على مواصلة الحسنات، والقيام، تشجيعاً لضميره وإيمانه...

ومن تعوّد مباشرة الجلاد شهراً في كل عام، مع النفس ـ التي تمثل الإنسان ـ يألف المشقة، ويصلد للنوائب، ويعتاد التحرر من الهوى والنزوات، ويصبح على تأهب دائب، للمخاطرة والاقتحام...

ومن كان على استعداد ساهر، لحماية نفسه من هجمات الشيطان، والتغلب عليه، فالأحرى به أنْ يكون على استعداد متواصل، لحماية دينه ووطنه من هجمات الأعداء، والانتصار، عليهم مهما صعبوا واشتدوا...

ولهذا كانت الأمة الإسلامية، أُمّة جهاد وتحرير، وكان رمضان، ميعاد انبثاق ثورات المسلمين، وانتفاضاتهم الضاربة المنتصرة، على المردة الطواغيت...

رباط الإسلام

ولئن كان الإسلام، مجموعة عناصر متنوعة الأشكال والأبعاد، ولا تنجب مفعولها الموحد المنشود، إلاّ إذا تمثلت مجموعة متعاونة، يكمل بعضها بعضاً، لتصبح جهازاً حياً يؤدي خدمة كبرى، للجسم والعقل والروح، وللمجتمع بعد ذلك... لزم أنْ يلمها رباط وثيق، يشدها عن التشتت والانفراط... فكان شهر رمضان، رباط الإسلام...

لأنّ أركان الإسلام الخمسة، التي ركز عليها، هي:

1ـ الإيمان، لتمديد العقل، وتوجيه العقيدة، نحو الواقع، الذي تقرره الفطرة السلمية ـ في شهادة التوحيد ـ.

وتقرير القيادة العامّة، للفرد الموجّه بتوجيه التوحيد ـ في شهادة الرسالة ـ وأخيراً لإعلان فلسفة الحياة، وتنظيم الإسلام...

2ـ الصلاة: لربط العقل والعقيدة بالله، وربط قلوب المؤمنين وأرواحهم ببعضها، ومعاهدتها بالصقل والتطهير يومياً...

أخيراً لترويض البدن، وتنشيط العضلات..

3ـ الزكاة، لترميم الاقتصاد، وسدد الثغرات، التي تسببها الانهزامات السوقية، والطوارئ والأحداث، والفلج والبطالة... ولإشاعة روح التكافل الاجتماعي، بين الطبقات..

وأخيراً لإرهاف الإحساس بالتعاطف الأخوي في المسلمين...

4ـ الصوم: لتحديد زحف المادة، وإسداء عون للروح الرازحة تحت سيطرة الجسم...

وأخيراً، لتزكية الجسم من الأمراض.

5ـ الحج: للتأكيد على نداءات الروح، في رحلة روحية مفعمة، تمثل كثيراً من حقائق الإسلام، كالقيامة، والمساواة...

وأخيراً لتنشيط العلاقات، والحركة الاقتصادية، بين البلاد الإسلامية.

وهذه الأركان الخمسة، تتعاون على صياغة الفرد، في قالب الكمال، وتمنح المجتمع، لبنات سليمة تنهض به، إلى المستوى الجدير به...

* * * * *

وشهر رمضان، هو الرباط الذي يجتمع هذه الأركان، ويؤكد عليها جميعاً..

فالشهادتان تتكرران، في أيام رمضان أكثر من غيرها ـ في القربات المستحبة في هذا الشهر.

والزكاة، تزداد في (زكاة الفطر) و (الكفارات) و (الإفطار) وسائر البر..

والصوم، قد خصص به هذا الشهر، قبل كل شيء...

والحج، وإن كان لا يتمثل في رمضان، لكن رمضان تعبئة عامة للحج، كما تتراءى في الأدعية المسنونة كل ليلة... ثم لا ينقضي مدة هذه التعبئة، باستهلاك شوال، إلاّ يتفتح أمام الصائمين، موسم الحركة الجماهيرية الشاملة، نحو مؤتمرهم العالمي السنوي، في عِراص الحرم الأقدس، وعند البيت الحرام.. حيث يجد النّاس أنفسهم، على أعتاب شهر الحج، لتحقيق التعبئة الجماهيرية السابقة، وتظهيرها في واقع الحياة، والتفاعل، ثم الإنتاج.

جامعة المسلمين

وهذا الشهر، يمثل جامعة روحية، توحد مشاعر المسلمين، وتجمع قلوبهم، منيبة، مخلصة لله وحده، بالطاعات والحسنات، وتمنعهم ـ جميعاً ـ في أوقات مماثلة، عن رغبات البطن والجنس، منذ بزوغ الفجر حتى المغرب، ثم تسمح باستعادة حياتهم السابقة، والاستجابة لحاجات الجسد... وتشجيعهم على الانطلاق، للتنافس في خير، والتسابق إلى المعروف، والبِّر بالوالدين، وصلة الأرحام، وتفقد الجيران والاخوان، وإعانة الضعيف، والإنفاق على الفقير، وتوفير الحقوق، والتواصل، والتحابب، والتواد...

* * * * *

هذه نقاط من فلسفة شهر رمضان ذاته، موقفه من الحياة...

* * * * *

وبعد هذه التوفرات الروحية، كانت ذكريات رمضان...

* من كتاب حديث رمضان

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 16/تموز/2014 - 17/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م