ذكريات شهر رمضان

الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي

 

فتاريخ هذا الشهر المبارك، حافل بذكريات، تعتبر حجر الزاوية، في كيان الإسلام على ممر القرون فقد تتابعت فيه الأمجاد الخالدة لهذه الأمة الوسطى، وهي تحمل بين جنباتها، أحداثاً جساماً، كان لها دور كبير، في انقلابات خطيرة، غيرت سُنّة التاريخ، في كثير من قِطاع الأرض...

وإنْ كان لا ينفع المسلمين أنَّ آبائهم بنوا أمجاداً، ولكن الأمم الناهضة، التي تريد الحياة، لا بد أنْ يعيش تاريخها ذكريات تضيء الطريق، للجيل الطالع فيلخص من تجارب الماضي، ما يبني به الحاضر، ويحدق في الأخطاء السابقة، حتى لا تتكرر في المستقبل... فينظر من خلال حاضرة المظلم، إلى مستقبله الوضّاء... ليحبك خيوط قدره بيديه، ويطوي الشعارات المفروضة عليه لإنقاذ أهدافه وأهداف الحياة، بقلب معصومٍ من الخطأ، بمقدار ما أخطأ آبائه، وخطاً خبيرة، بمقدار ما جرب آبائه، من قبل...

والمسلمون، أمّة لأنّهم أصحاب رسالة إنسانية، وتتركز على عقيدة سليمة... وهم تاريخ لأنّ عقيدتهم أحدثت أخطر انقلاب، وقوّض دولاً وأقام دولاً، وأشعل ثورة بناءةً في العقول، ولا تزال فتية شهباء...

فعلينا: أنْ نستضيء بهذا التاريخ، في سيرنا الصاعد، ونفحص حوادثها بدقة بالغة، لنستنطق منها العبر والتجارب... ونتابع تلك الأحداث التي رافقت تفتح الإسلام، بنوع خاص، لأنّها حُجّة علينا بتقرير المعصومين، ولأنّها أثقل بالتجارب والعظات...

وكانت تشغل خواطر المسلمين ـ من أقدم عصور الإسلام ـ ذكريات قبل سواها، ويفجر شلالها هلال رمضان، لتبعث فيهم عزيمة غلباء.

* * * * *

ومن تلك الذكريات، ما سبقت تشريع رمضان في الإسلام، ومنها ما توالت بعده، ولكنها جميعاً، مما يؤهل هذا الشهر، لأنْ يعيشها المسلمون عيداً ومهرجاناً...

وإليك بعض تلك المفاخر:

1ـ الكتب المقدسة

فقد تنزلت في هذا الشهر العظيم، كتب السماء، واتصل الوحي بالأرض، ومنه القرآن الكريم، الذي هو بداية اندفاع ثورة فكرية، بزغت من خلالها شمس الإسلام.

2ـ مولد النّور

وصح أنّ الله تعالى خلق النّور، في غضون هذا الشهر...

3ـ ليلة القدر

فقد خصصت برمضان، هذه المباركة التي جعلها الله أفضل من ألف شهر، وقرر فيها تصريف أقدار السنة، وأكرم بها محمداً وآل محمد... وأثمنها بسورة من القرآن: ((بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم، ِإِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)).

4ـ غزوة بدر الكبرى

وفي السابع عشر من رمضان عام 2هـ، أحرز المسلمون أولى انتصاراتهم على الطغيان، في معركة بدر الكبرى، التي هي أولُ لقاءٍ مسلحٍ بين الإيمان والكفر، وأولُ تجربة قاسية، عاشت بين شيعة الحق وأشياع الضلال...

فلقد ثبتت الفئة المؤمنة، ثلاثة عشر عاماً، في أرجاء مكة، والعذاب يلفها، من احتشاد غلواء قريش، على خنق الإيمان في القلوب... حتى هاجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون، من العذاب إلى المدينة، ليتخذوا منها قاعدة حريزة.

وقد كانت هجرتهم هذه، مبعث شماتة في صدور قريش، التي اعتبرتها ضعفاً وجبناً، مكللين بالهزيمة الشنعاء...

فيما، لم يكن هناك، ما يوحي بالضعف أو الهزيمة، لأنَّ المقاومة التي تؤدي إلى الانتحار في الظلام، دون تحقيق هدف ـ من قريب أو بعيد ـ لا تعتبر نصراً!. والاختفاء من جانب، للظهور من الجانب الآخر، أقوى وأثبت، لا تسمى هزيمة!. ولكنَّ قريش الغاشمة، كانت تلتمس الوقيعة في المسلمين، إنْ عزّ عليها الصدق فبالأكاذيب، فحسبها أنّها تنال من محمّدٍ فحسب، رغم أنه لم يفكر في الحرب، ولا تظاهر بالاشتباك المسلح، حتى لا يعدُّو انسحابه ضعفاً متجسداً في الهزيمة، خلسة أدراج الظلام، ولكن قريش الباغية، وجدتها فرصة سانحة للتهكم والسخرية، فأمعنت فيهما تنكيلاً بالرسول الجديد...

ولكنَّ الآن مضت سنتان، أثبتتا وجود المسلمين، فقد خلص لهم (يثرب) أو كاد، وظفروا بسيوف استطاعوا أنْ يردوا بها التطاول، وينددوا المعتدين بالحرب، إنْ دأبوا في عتوهم...

وها هم الآن يعترضون (ركب قريش) انتقاماً لتنكيلها بالنفر الباقين في مكة من المؤمنين...

وها هم الآن يقارعون التهديد بالوعيد، ويتصدون للتهكم بالتهكم، ويخاطبونهم، مخاطبة الند للند، لا مخاطبة العبيد للأسياد، كما كانوا بالأمس...

وبتضخم هذه المؤثرات، تطوّر الاشتباك بين المؤمنين والمشركين، من التنابذ والمناقضات الفردية، إلى الحرب الباردة... فألبت قريش، جيوشها الضاربة، وفرزت زهاء ألف سياف إلى (المدينة) لتقضي على آخر مسلم فيها... وشهر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في وجوهها من لديه من مقاتلين...

ورغم أنَّ الفئة المؤمنة، كانت أقل عدة وعديداً، ولكنها قبلت التحدي، بلا تخاذل، فلها (إحدى الحسنين) وإنْ فازت بالجنّة، فهي الأمل الذي هاجرت إليه، وإن كتب لها النصر، كان لها فخراً، لأنَّ الفخر للفئة المنتصرة، إذا تساوى الخصمان، فكيف إذا انتصرت الفئة القليلة، واندحرت الفئة الكثيرة؟!.

وشاء الله أنْ تكون هناك آية، في انتصار فئة قليلة، على فئة كثيرة بإذن الله... كما قال القرآن الكريم:

((وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النّاس فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)).

((إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ)).

((إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ)).

وشاء الله أنْ تَدمغ آيةُ الحق ـ مهما تضاءلت ـ آية الباطل ـ مهما تضخمت، لو كره المجرمون، فما النّصر إلاّ من عند الله العزيز الحكيم...

وشاء الله إذلال الأسياد الجبابرة، بأيدي تلك القلة، التي عاشت طويلاً، تهضم العذاب والإزدراء...

فأبو جهل ـ ذلك الطاغية، الذي صفع عبد الله بن مسعود، يوم سمعه يتلو كتاب الله، وهو يقول: حتى أنت يا رويع الغنم ـ بعد أنْ صُرع في المعركة، ليلفظ أنفاسه الأخيرة، حملق بعينيه في شابّ، وضع نعله على رقبته، ليحز رأسه، فنادى: من أنت؟ فأجاب عبد الله أنا رويع الغنم! فرد الطاغية الحقير لقد ارتقيت مرتقاً صعباً، يا رويع الغنم، أسرع وأجهز عليّ!!.

وأمية ـ الذي كان يكوي (بلال الحبشي) ويطرحه عارياً تحت الحديد على الرمضاء ـ هو الذي انتهى بسيف بلال، بعد أن أثخنه (معاذ) و (معوذ) من أصحاب رسول الله...

... فما كان النّاس، يعتبرون المسلمين في مكة، إلا فئة متنصلة مستضعفة، لا تطيق حولاً، ثم أثبتت واقعة بدر: كيانهم المجيد، ومثلت الانتصار الساحق لهم، والإعلان الأول لثورة الإسلام، وشخصيته الاجتماعية، باستئصال المؤامرة الكبرى، ضد الإسلام والرسول  والمسلمين...

5ـ فتح مكة

وفي اليوم الحادي والعشرين، من شهر رمضان، عام 8هـ كانت (غزوة الفتح)... وكانت الإنجاز الراشد لذلك المكسب الرابح... ولئن سجلت (غزوة بدر الكبرى) النصر الأول للمسلمين، فإن (غزوة الفتح) قررت النّصر النهائي للمسلمين...

فالأعوام الثمانية، التي تلت الهجرة، لم تكن كفيلة، بإقناع الرأي العام بقوى العقيدة الإسلامية على الدهر، وأنّها كلمة باقية في الأرض ـ كما كان يؤكد الرسول ـ رغم أنها ظلت في صراع دائم مع قوى الشر والطغيان، دون أنْ تقهر أو تلين، وخرجت من التجارب القاسية تقود الجماهير من نصر إلى نصر، غير أنَّ الرأي العام العشائري، والطغاة من أصحاب السيطرة والنفوذ، كانوا يفسرون تلك الانتصارات المتلاحقة، بأمور صدفية، كما كانوا يرجعون الانهزامات في القوى المناوئة، إلى أخطاء وأغلاط عسكرية فحسب... فكانوا يتوقعون في كل غزوة، هزيمة الإسلام، كما كانوا ينتظرون في كل يوم اغتيال الرسول الأقدس... ولذلك، ظلوا يتهاونون في الانضواء تحت راية الإسلام، رغم اقتناع كثير منهم بأفكار الرسول، وإعجاز القرآن...

وكيف يحق لرئيس مطاع أنْ يزج بنفسه في مخاطرة، غير مرسومة المصير؟. أو هل يمكن الثقة بالإسلام، ولما يحكم إلا يثرب وقطاعاً مجاورة؟. ولم يزل موقع مكة عاصمة المشركين، وقاعدة الآلهة، متمردة تلاحق الضربات على الإسلام؟!!.

فلما انتهى فتح مكة، دون أية مقاومة، وسيطر المسلمون على أخطر منطقة في الجزيرة العربية ـ يومذاك ـ من غير أنْ يريقوا محجمة دم، وذلت قريش الظافرة على التاريخ، وحطموا الأصنام التي علت ظهر الكعبة، ليعبدها النّاس كأنّها الآلهة، وجعلوها رذاذاً تحت الأقدام... استقام للمسلمين كيانهم الشامخ الوطيد، وعرف الإعراب ـ الذين علّقوا أبصارهم، وقلوبهم، وآمالهم بمكة ـ إنَّ المسلمين لن ينتكسوا بعد ذلك أبداً... وعلموا أنَّ الإسلام مضمون النجاح، ومرسوم المصير... فطفقوا يدخلون في دين الله أفواجاً...

وبهذه المناسبة، سمي العام بـ (عام الوفود) لتزاحم وفود القبائل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أجل الدخول في الإسلام.

وكان ذلك أوج نبوغ شخصية الإسلام، الذي أكرمه الله بسورة كاملة تقديراً لروعة المبلغ الرفيع:

((بسم الله الرحمن الرحيم، إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النّاس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً)).

6ـ المؤاخاة

وفي الثاني عشر من هذا الشهر، عقد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المؤاخاة بين أصحابه... وكانت تلك اللفتة، من أحكم خطط الرسول الحكيم، فقد أحذق بها تقدير الرجال، وربط كل ضعيف الفكر أو الشخصية بقوي يرفعه إلى مستواه... وأعرب بها عن حقائق كانت تتناصر القوى الانهزامية، لتغطيتها وإنكارها... كما قام بتقييم الرجال، وتثبيتهم في مواضعهم، وأعلن مواقعهم من الحياة... فأتقن وأعظم...

7ـ شهادة بطل الإسلام

حيث استشهد في صبيحة الحادي والعشرين منه، بطل الإنسانية الخالد، الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، على أثر الضربة السامة، التي أهوى بها على أم رأسه، المجرم الأثيم، عبد الرحمن بن ملجم، بينما كان في الصلاة، في محراب مسجد الكوفة، عام 40هـ...

8ـ وفاة أبي طالب

عمّ الرسول الأكرم، ووالد الإمام أمير المؤمنين، في السابع عشر من رمضان، عام الهجرة...

9ـ وفاة السيدة، خديجة الكبرى أم المؤمنين

وأفضل زوجات الرسول، ووالدة الصديقة، فاطمة الزهراء (عليها السلام)، والتي تحدث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مكانتها في الإسلام، فقال: (ما قام ولا استقام ديني، إلاّ بسيف علي ومال خديجة).

10ـ ميلاد الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، عام 2هـ في النصف من رمضان.

11ـ ميلاد الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام)، عام 195هـ على بعض الروايات...

12ـ فتح ثغور الأندلس (أسبانيا)

على يد موسى بن نصير 91هـ. وانهزام الملك (رودريك) وانتهاء السيطرة على أقطار أسبانيا، بقيادة طارق بن زياد...

13ـ بيعة النّاس، مع الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، عام 201هـ.

14ـ انهزام الإفرنج المسيحيين

الذين استولوا على سوريا وضواحيها، على أيدي جيوش المسلمين، عام 584هـ.

15ـ استنقاذ البلاد الإسلامية، من (التتار) ثلاث مرات، عام 658 و666 و702هـ.

16ـ فتح المسلمين، جزيرة (رودس) سنة 53هـ.

17ـ سقوط الدولة الأموية، عام 132هـ.

* * * * *

هذه المكاسب والإنجازات ـ والكثير من نوعها ـ بعض ما حازها المسلمون في هذا الشهر المبارك، مما تتفق وكرامته، وما يتطلبه من تهذيب النفس والمجتمع، والتوجه إلى الله، وتجديد الإيمان والعزائم، لخوض معترك الحياة والارتفاع بالنفس عن عالم المادة والغرائز والشهوات، إلى عالم أرفع... وأرفع...

ولعلَّ هذه المناسبات التي سبقت تشريع الصيام بهذا الشهر، والتي قُدّر أنْ تلحقه كانت السبب، أو بعض السبب، في تخصيص الصيام بهذا الشهر، دون غيره... فإن تواتر الإلماعات الروحية، في فترة زمنية، يجعلها أليق بمثل الصيام، الذي هو تجاوب روحي واعٍ...

كما أنَّ الانتصارات الروحية تستدعي حفاوة روحية، تتمثل أروع ما تتمثل في الصيام...

وربما يكون هذا التخصيص، لأنَّ الله تعالى خصص هذا الشهر بنفسه، ليكون شهر الطاعة والغفران، فقرر فيه الصيام وباقي القُربات، للتوفير على إنجاز أهداف شهر الله، بصفة شهر الله.

وقد يفسّر هذا النوع من التخصيصات، بمجرد تركيز معنى الطاعة والانقياد في الأذهان، وترويض العباد على الخضوع للنظام... كما قد يتراءى هذا الجانب، في بعض العبادات...

* من كتاب حديث رمضان

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 14/تموز/2014 - 15/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م