المتيمون بحب القرآن

بدر شبيب الشبيب

 

هل نحب القرآن؟! سؤال قد يراه البعض في غير محله، إذ لا يوجد مسلم على وجه البسيطة لا يحب كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. المسلمون جميعا يقدسون القرآن ويتبركون به وبتلاوة آياته، ويعتنون بحفظه وتجويده أشد العناية. مدارس تحفيظ القرآن الكريم منتشرة في طول البلاد الإسلامية وعرضها، والمصاحف تزين المساجد والبيوت. أليس هذا كله دليلا على الحب المتأصل في نفوس المسلمين للقرآن الكريم؟

الجواب: بلى، فعلاقة المسلمين بالقرآن قوية على المستوى الشعوري والعاطفي. فعند كل حادث مسيء للقرآن، تنطلق المظاهرات والاحتجاجات الصاخبة استنكارا وتنديدا بذلك الفعل المشين، كما حدث بعد قيام جنود أمريكيين بحرق نسخ من المصحف الشريف في قاعدة باغرام الجوية في أفغانستان العام 2012 م، وقبلها الاحتجاجات على حرق القس الأمريكي تيري جونز المصحف عام 2010 م.

إذن أين المشكلة؟ ولماذا نطرح سؤالا ظاهره التشكيك في حبنا للقرآن الكريم؟!

الجواب يظهر من خلال العرض على القرآن نفسه في الصور التي يذكرها عن المتيمين به. يقول تعالى في سورة الإسراء: ﴿قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا «107» وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً «108» وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا «109». ويقول في سورة مريم: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا «58». ويقول في سورة الزمر: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ «23»﴾.

نلاحظ في هذه الآيات وغيرها تفاعل المتيمين بالقرآن تفاعلا يستغرق كيانهم من الداخل والخارج وعلى مستوى القول والعمل. وبريشة فريدة تتقن الرسم بالكلمات في لوحة يهيم بها المتذوقون للفن العلوي الراقي، يرسم الإمام علي (عليه السلام) صورة تضج بالتفاعل مع القرآن في ليل المتقين. يقول (عليه السلام)

 واصفا حالتهم تلك: أَمَّا اللَّيْلَ‏ فَصَافُّونَ‏ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا، يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ. فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وَظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ. وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ. فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ وَرُكَبِهِمْ وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ، يَطْلُبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ.

حين نعرض أنفسنا على هذه النصوص، ندرك أن السؤال عن حبنا للقرآن كان في محله، فنحن وللأسف الشديد ما زلنا بعيدين جدا عن تفاعل المتيمين بالقرآن. والسبب كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾، فأين نحن من تلك التلاوة؟!

التأهل لعضوية المتيمين بحب القرآن يحتاج إلى المعرفة بكيفية تلاوته حق تلاوته. وهي التلاوة التي فصل مفرداتها الإمام الصادق (عليه السلام) كما ورد عنه في قوله تعالى «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ»؛ ‏ قَالَ: يُرَتِّلُونَ آيَاتِهِ‏، وَيَتَفَهَّمُونَ‏ مَعَانِيَهُ‏، وَيَعْمَلُونَ بِأَحْكَامِهِ، وَيَرْجُونَ وَعْدَهُ، وَيَخْشَوْنَ عَذَابَهُ، وَيَتَمَثَّلُونَ قِصَصَهُ، وَيَعْتَبِرُونَ أَمْثَالَهُ، وَيَأْتُونَ أَوَامِرَهُ، وَيَجْتَنِبُونَ نَوَاهِيَهُ. مَا هُوَ وَاللَّهِ بِحِفْظِ آيَاتِهِ، وَسَرْدِ حُرُوفِهِ، وَتِلَاوَةِ سُوَرِهِ، وَدَرْسِ أَعْشَارِهِ وَأَخْمَاسِهِ. حَفِظُوا حُرُوفَهُ وَأَضَاعُوا حُدُودَهُ. وَإِنَّمَا هُوَ تَدَبُّرُ آيَاتِهِ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ‏ كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ‏.

هذه المفردات تلخص الطريقة العملية للتلاوة الصحيحة التي تحاول سبر أغوار الكتاب العزيز واستخراج ما يمكنها من كنوزه التي لا تنفد، والتفاعل مع وعده وعيده، والاعتبار بقصصه ذات الدلالات العميقة، والتي هي مختارات الرب الحكيم من تراث التاريخ الطويل، وتأمل الأمثال المضروبة لإعمال الفكر والعقل، وتطبيقه في الواقع الخارجي. وتلك هي الخطوات التي تجعل التالي يهيم عشقا بالمتلو، حتى يقول: ”لَوْ مَاتَ مَنْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَمَا اسْتَوْحَشْتُ‏ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مَعِي“ كما نقل الزهري عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام)، الذي كان من أحوال تفاعله مع الآيات أنه ”إذا قرأ «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏» یكررها حتى كاد أن يموت“.

لسنا بحاجة لكثير من التأمل حتى نكتشف البون الشاسع الذي يفصل واقعنا الراهن في عالمنا الإسلامي عموما عن التلاوة الحقة. فالقرآن الذي كان أول غيثه «اقرأ» لا يزال أتباعه في أسفل درجات القراءة بين شعوب العالم، فكأنهم فهموا من الأمر النهي. والقرآن الذي يتحدث عن الأمة الواحدة والشورى والأخوة الإيمانية والحرية والاعتصام بحبل الله وعدم التفرق والتنازع، تعيش الأمة المنتسبة إليه أسوأ حالات التشرذم والانشقاق والتفكك وانقسام المقسَّم، والاستبداد، والعداوات المستحكمة، والقمع بكل أشكاله، حتى كأن هذه أصبحت متلازمة مرضية لا تطيق فراقنا أبدا، لأنها لا تجد حاضنة أخرى تحتفي بها كما عندنا. لقد بلغ الولع بالتخلف درجة خطيرة، حين تم التأصيل له بتحريف معاني الكتاب المجيد، فلا بأس بالصبر على الواقع البائس، لأنك مأجور في ذلك، ولا داعي للسعي للتغيير لأن القدر مكتوب، وسيجري عليك شئت أم أبيت.

لسنا بحاجة لكثير من التأمل لنكتشف أين نحن من القرآن، إذ يكفي أن نقرأ قوله تعالى «وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ثم نرجع إلى أنفسنا فنسألها: أين مكانتنا اليوم؟ هل نحن الأعلون؟

الجواب مبثوث في طيات الواقع، فلا نزيد عليه سوى قول الشاعر:

وما للمرء خير في حياةٍ.. إذا ما عُدَّ من سقَطِ المتاعِ

دمتم بحب.. جمعة مباركة.. أحبكم جميعا..

https://www.facebook.com/Bader.AlShabib

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 13/تموز/2014 - 14/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م