الشيعة في العراق.. قرار الحل

موقع الإمام الشيرازي

 

في السنوات الأخيرة، ومع تطور وسائل الإعلام وتقنيات التواصل، برزت ظاهرة فتاكة، تعد من أخطر ما تصاب بها الأمم، فتنال منها موتاً وخراباً ودماراً، ألا وهي ظاهرة التكفير الديني، القائم على الجهل والكراهية ولا ينتهي بتخريب المدن وتفتتيت الدول، بل يتجاوز إلى ما هو أكثر ظلماً وتوحشاً، قتل المدنيين الأبرياء، حيث قطع الرؤوس، وإلقاء الأحياء من البنايات، وحرق الأجساد، وهذه الظاهرة المرضية من أعراضها انبعاث نزعات التطرف التي لا تقبل التعايش مع الآخر، فيتعامل من يصاب بها بذهنية الإلغاء والإقصاء، وبمنطق القسوة والصدام، وبمنهج الأُحادية واحتكار الحقيقة المطلقة، وقد أثارت نزعات التطرف هذه كراهية دينية منفلتة، تحولت الى سيارات مفخخة وانتحاريين يقتلون الناس في كل مكان.

لا مشكلة في الاختلافات بالرأي بين أتباع الأديان والمذاهب والجماعات، فإن الله تعالى خلق الناس مختلفين في أشياء، وجعل الاختلاف جزءاً من طبيعة الحياة، قال(عزوجل): «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم». وأراد(عزوجل) للناس التكامل والتقدم عبر تعارفهم فيما بينهم، والأخذ بالأحسن مما عندهم، وعبر التنافس في الخير والرحمة، والبناء والتقدم، فقال تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير».

المشكلة فيما لو تحولت الاختلافات (الدينية أو الفكرية) بين الناس إلى كراهية وتقاتل، كما يحدث اليوم، حيث تعمل دول ومؤسسات دينية والآلاف من وسائل الإعلام (صحف ومواقع ألكترونية وفضائيات)، على ترسيخ الانقسام والتباغض المجتمعي، من خلال تحويل "الاختلافات" بين الشيعة والسنة الى "حرب"، بدلاً من أن تكون دافعاً لمزيد من الحوار العلمي، فإن لتلك الاختلافات صلة بالمعتقدات التي يتعبد بها المؤمن الى الله، أي الإيمان وما بعده من جنة أو نار.

ذلك الإعلام اللئيم (القديم الجديد) أفرز ثقافة مجتمعية شوهت معتقدات الشيعة (بنظر غيرهم) وجردتهم من الإيمان والإنسانية، وأباحت دماءهم وأموالهم وأعراضهم، حتى أصبح التحريض ضد الشيعة علنياً ومشاعاً، وبات يُسمع من حكام وفقهاء وسياسيين ومثقفين وخطباء، وفي كل يوم تنعق وسائل الإعلام بدعوى أو فتوى تحرّض على قتل الشيعة، وهذه الفتاوى تتمحور حول اعتبار (عموم الشيعة كفرة مشركين)، وإن (خطرهم على المسلمين أعظم من خطر اليهود والنصارى، ويجب الحذر من الشيعة، وعدم الاغترار بما يدعونه من الانتصار للإسلام)، وإن (مذهب أهل السنة ومذهب الشيعة ضدان لا يجتمعان، ولا يمكن التقريب إلا على أساس التنازل عن مذهب السنة أو بعضها أو السكوت عن باطل الرافضة، وهذا مطلب لكل منحرف عن الصراط المستقيم)، وأن (الخطر يكمن في عموم الشيعة، فقهاء ومواطنين عاديين، لأنهم متعصبون لا يستجيبون لداعي الحق).

التكفير .. إرهاباً

من نتائج أجواء شحن الناس بتكفير الشيعة والدعوة الى بغضهم، أن تحولت كراهية الشيعة الى تنظيمات إرهابية هدفها الأكبر أن تقتل الشيعة، وهذا لا يعني أن ظاهرة الإرهاب التي تضرب العالم اليوم، وجهتها الشيعة فقط، إنما وجهتها في القتل كل من يخالفها بالرأي أو الهدف، إلا أن الشيعة ينالون النصيب الأكبر من إجرامهم، بحسب التقارير الدولية، التي أكدت العام الماضي، أن ثلث ضحايا الإرهاب في العالم، خلال السنوات العشر الأخيرة، كانوا من الشيعة، ومعظمهم من الشيعة في العراق، من هنا، وبسبب تداخل مصالح دينية وسياسية، في إطار مجتمعي متخم بأزمات ثقافية أخلاقية وحياتية، فإن الإرهاب أصبح إشكالية متداخلة الأسباب ومتعددة الأبعاد.

وهنا، لا تُستبعد "فرضية" أن الغرض من إدامة التنظيمات الإرهابية في عدد من البلاد، وأولها العراق وسوريا، ليس محصوراً بأسباب طائفية أو دينية أو خدمة صراعات سياسية إقليمية ودولية، بل إن هناك سبب آخر، وهو إن فائض التكفير الديني في العديد من بلاد العالم ومنها بعض لبلدان الخليج، يحتاج الى متنفس خارج الحدود، وإلا فإن خطره قد يتفجر داخلياً، بموازاة ذلك، فإن هناك دول ترى أن أحد سبل التخلص من حشود التكفيريين، إيجاد محارق هنا وهناك للتخلص من هذا الوباء.

ويمكن القول بضرس قاطع، أن كل هذا القتل الممنهج بالشيعة، نظٌّر له ووضع قواعده، أحد علماء الحنابلة، أحمد ابن تيمية، صاحب كتاب (منهاج السنة)، ثم تلقفه محمد بن عبد الوهاب، وبمساعدة أموال خليجية، انتشر هذا الفقه التكفيري الدموي كالنار في الهشيم، في أجزاء من جزيرة العرب، ويرى عدد من علماء الاجتماع في الشرق الأوسط، أن فكر بن تيمية كاد يندثر في بيئة الشام الحضرية، التي خرج منها (ابن تيمية)، والتي ترفض أساليب القتل العشوائي والسلب والنهب، لكنه وبعد قرون أحياه محمد بن عبد الوهاب، وساعده على ذلك، بيئة نجد البدوية التي تستهوي السلب والنهب والقتل.

إن لب مشكلة الإرهاب التكفيري تكمن بأن ظاهرة تستند إلى أساس فقهي، وإن مصادر تشريعه موجودة في كتابات ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب، وبالتالي، فإن الإرهابيين في بنائهم العقائدي يستندون إلى فقه منظومة سلفية محددة، ومن أسس هذه المنظومة التكفيرية ما يعرف بـ(نواقض الإسلام) التي تصادر إيمان الآخر، وتنطلق من تكفير الدولة والمجتمع، وقد قتل أتباع هذا "الفقه" في السنوات العشر الأخيرة - أكثر من ربع مليون شيعي في العراق وسوريا وأفغانستان وباكستان، وبالتالي، فإن للإرهاب دين، يستند إلى فقه يُتعبَد به، وتاريخ يبرر قتل ملايين الناس، كما برر قتل سيد الشهداء الإمام الحسين(ع) الذي قال فيه جده نبي الإسلام(ص): (حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً).

واقع مفتوح

بعد الأحداث الجسام التي شهدها العراق، في الشهر الماضي (شعبان)، والمؤشرات الخطيرة لتطورات ما وقع، فإن الواقع الشيعي الدامي في عدد من بلدان العالم، وأبرزها العراق، شاركت في صناعته بلدان ومجتمعات مسلمة، (فقهياً ومادياً، تنظيماً وتسليحاً، إعلامياً وبشرياً)، ونتيجة ذلك عشرات الآلاف من الضحايا، قتلوا ذبحاً أو تفجيراً، لا ذنب لهم، فقط لأنهم شيعة. في الوقت نفسه، أن هناك ازدياد في نشاط التنظيمات المتطرفة في دول ما يسمى بـ"الربيع العربي"، وتضخم نفوذ الجماعات الإرهابية في عموم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وولادة تنظيم إرهابي "داعش"، في العراق وسوريا، والذي أعلن عن هدفه "أسوار الكوفة"، وصولاً لقيام حكم ديكتاتوري يقصي الشيعة، وإقامة الدولة الأموية في العراق والشام!. الأمر الذي يتطلب بذل الجهود الثقافية لتشر الدين الحق، من خلال تعليم الناس علوم أهل البيت (عليهم السلام)، وتفكيك فقه الإرهاب، وتبيين تناقضاته وتأكيد انحرافه، وهذا الجزء الأهم من الحل، كما أن هناك من لا يرتدع إلا بالقوة، فإن القصاص وردع الظالمين ضرورة شرعية وعقلية، وهو ما فعله أمير المؤمنين(ع) مع الخوارج.

إن قرار الشيعة اليوم بـ"الوقف الحاسم والكامل لعمليات القتل الجماعي اليومي"، من خلال "المواجهة الشعبية" لقوى التكفير الإرهابي التي تضرب بالعراق، هو قرار لابد منه، وفيه حفظ دماء العراقيين جميعا (وليس الشيعة فقط)، وقد جاء بعد حلم وتسامح وصبر وتصابر على آلاف السيارات المفخخة التي تقطع أجساد الناس، وآلاف الانتحاريين الذين فجروا أجسادهم على زوار العتبات المقدسة من أطفال ونساء وشيوخ، وإن تطوع الأخوة السنة والمسيحيين والصابئة لمقاتلة التنظيمات الإرهابية مع الشيعة، يؤكد أن القرار بمنطلقات وأبعاد وغايات وطنية وإنسانية، وانسجاماً مع هذه التطورات والتحديات، لابد لعموم السياسيين من الشيعة في العراق، الترفع على الخلافات والمشاحنات، وأن يتجنبوا التصارع على المصالح الحزبية إذا ما أضرت بمصلحة الشعب والوطن، وإن التهرب من المسؤولية، وخاصة في هذه الأيام، لن يجعل من العراق إلا محرقة.

* أجوبة المسائل الشرعية العدد (202)

http://alshirazi.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 1/تموز/2014 - 2/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م