الحياة في المدينة الذكية

كارلو راتي، ماثيو كلوديل

 

هذا صحيح! فكما يعرف كل تلميذ في الصف الخامس يدرس اللغة الفرنسية، اختُرِعَت شبكة الإنترنت في باريس. وكانت تسمى "مينيتيل" اختصاراً لما يمكن ترجمته من اللغة الفرنسية إلى "الوسيط التفاعلي لمسح المعلومات عبر الهاتف"، وهي شبكة تتألف من نحو 9 ملايين محطة طرفية، وكانت تسمح للأفراد والمنظمات بالتواصل وتبادل المعلومات أولاً بأول. وقد ازدهرت مينيتيل خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وعملت على تغذية مجموعة متنوعة من التطبيقات على الخط والتي سبقت سُعار الدوت كوم العالمي. ثم انزلقت إلى انحدار بطيء وأغلقت أخيراً بعد صعود شبكة الإنترنت "الحقيقية" إلى الهيمنة العالمية.

وقد استندت كل من مينيتيل والإنترنت إلى إنشاء شبكات المعلومات الرقمية. ولكن استراتيجيات التنفيذي اختلفت بشكل كبير في الحالتين. فكانت مينيتيل نظاماً يتجه من أعلى إلى أسفل؛ جهد كبير أطلقته هيئة البريد الفرنسية وشركة الاتصالات الوطنية. وكانت تؤدي وظيفتها على خير ما يرام، ولكن إمكانات نموها والإبداع في تطويرها كانت محدودة بالضرورة بسبب جمود بنيتها وبروتوكولات الـمِلكية.

وعلى النقيض من ذلك، تطورت شبكة الإنترنت من أسفل إلى أعلى، فتمكنت من الإفلات من مطالبات شركات الاتصالات الأولية بتنظيم عملها. وفي نهاية المطاف، تحولت إلى أداة فوضوية ولكنها ثورية لتغيير العالم كما نعرفها اليوم ("هبة من الرب"، على حد تعبير البابا فرانسيس مؤخرا).

واليوم، تلوح في الأفق ثورة تكنولوجية أخرى. فقد دخلت إلى الحيز المادي شبكات رقمية متغلغلة، وهو ما يسمح بصعود ما يمكننا أن نسميه "إنترنت كل شيء" ــ شريان الحياة الشبكي الذي يغذي "المدينة الذكية". ومرة أخرى، هناك مجموعة واسعة من نماذج التنفيذ بدأت تنشأ في أجزاء مختلفة من العالم.

ففي الولايات المتحدة، كانت الفكرة العامة للحيز الحضري الذكي تشكل أهمية مركزية للجيل الحالي من الشركات البادئة الناجحة. ومن بين أحدث الأمثلة تطبيق "أوبر"، وهو تطبيق على الهواتف الذكية يسمح لأي شخص باستدعاء سيارة أجرة أو العمل كسائق. والواقع أن عمليات شركة أوبر كانت مسببة للاستقطاب ــ فقد كان تطبيق أوبر موضوعاً للاحتجاجات والإضرابات في مختلف أنحاء العالم (وبشكل أساسي في أوروبا) ــ ورغم هذا فقد تم تقييم هذا التطبيق مؤخراً برقم فلكي بلغ 18 مليار دولار أميركي.

وبعيداً عن أوبر، تشهد إبداعات جديدة، مثل موقع تقاسم الشقق السكنية (AirBnB) و"نظام تشغيل المساكن" الذي أعلنت عنه شركة أبل للتو، على الحدود الجديدة للمعلومات الرقمية عندما تسكن حيزاً ماديا. وهناك أساليب مماثلة تَعِد الآن بإحداث ثورة في أغلب جوانب الحياة الحضرية ــ من الانتقال إلى استهلاك الطاقة إلى الصحة الشخصية ــ وهي تلقى دعماً متحمساً من صناديق رأس المال الاستثماري.

وفي أميركا الجنوبية وآسيا وأوروبا بدأت مختلف المستويات الحكومية تتعرف بسرعة على الفوائد المحتملة المترتبة على بناء المدن "الذكية"، وهي تعمل على فتح استثمارات كبيرة في هذا المجال. على سبيل المثال، تعمل مدينة ريو دي جانيرو الآن على بناء القدرات في مركز "العمليات الذكية"؛ وسوف تشرع سنغافورة قريباً في تنفيذ محاولة طموحة بعنوان "الأمة الذكية"؛ وخصصت أمستردام مؤخراً 60 مليار يورو (81 مليار دولار أميركي) لإقامة مركز جديد للإبداع الحضري يسمى حلول أمستردام العمرانية. كما خصص برنامج الأفق 2020 في الاتحاد الأوروبي 15 مليار يورو للفترة 2014-2016 ــ وهو التزام كبير بتخصيص الموارد لفكرة المدن الذكية، وخاصة في وقت يتسم بالقيود المالية الشديدة.

ولكن كيف يمكن استخدام هذا التمويل بأكبر قدر من الفعالية؟ وهل يُعَد تخصيص مبالغ ضخمة من الأموال العامة الطريقة الصحيحة لتحفيز نشوء المدن الذكية؟

ومن المؤكد أن الحكومة لابد أن تلعب دوراً مهماً في دعم البحوث الأكاديمية وتشجيع التطبيقات في الميادين التي قد تكون أقل جاذبية لرأس المال الاستثماري ــ مجالات غير جذابة ولكنها بالغة الأهمية، مثل الخدمات البلدية في مجال التخلص من النفايات أو تمديد شبكات المياه. وبوسع القطاع العام أن يعمل أيضاً على تشجيع استخدام منصات ومعايير مفتوحة في مثل هذه المشاريع، وهو ما من شأنه أن يعجل بتبنيها في المدن في مختلف أنحاء العالم (تُعَد مبادرة بروتوكول المدينة في برشلونة خطوة في هذا الاتجاه).

ولكن الأمر الأكثر أهمية هو أن الحكومات لابد أن تستخدم أموالها لتطوير أنظمة بيئية تعمل من أسفل إلى أعلى وموجهة نحو المدن الذكية، على نحو أشبه بتلك التي تنمو في الولايات المتحدة. ويتعين على صناع السياسات أن يذهبوا إلى ما هو أبعد من دعم الحاضنات التقليدية من خلال إنتاج ورعاية الأطر التنظيمية التي تسمح للإبداع بالازدهار. ونظراً للعقبات القانونية التي تبتلي تطبيقات مثل أوبر على نحو لا ينقطع، فإن هذا المستوى من الدعم مطلوب بشدة.

وفي الوقت ذاته، يتعين على الحكومات أن تبتعد عن إغراءات الاضطلاع بدور أكثر جبرية ويتجه من أعلى إلى أسفل. فليس من حقها أن تقرر هيئة الحل التالي للمدن الذكية ــ أو الأسوأ من ذلك، أن تستخدم أموال مواطنيها لتعزيز موقف شركات التكنولوجيا المتعددة الجنسيات التي تسوق الآن لنفسها في هذا المجال. ذلك أن ما تقدمه هذه الشركات من عروض جاهزة الصنع ومملة عادة يمثل طريقاً لابد من تجنبه بأي ثمن ــ خشية أن نفيق ذات يوم لكي نجد أنفسنا وقد أصبحنا في مدينية مينيتيل.

* كارلو راتي، عضو في مجلس الأجندة العالمية للمنتدى الاقتصادي العالمي حول المدن الذكية. ماثيو كلوديل، زميل باحث في مختبر مدينة Senseable.

http://www.project-syndicate.org/

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 18/حزيران/2014 - 19/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م