البطالة في العراق: أسباب وحلول

مهند السماوي

 

مقدمة:

لم تكن البطالة مشكلة مستحدثة في العالم المعاصر حتى يجري الحديث عنها بهذا الشكل المكثف في وسائل الأعلام المعاصر، بل هي مشكلة أزلية غير قابلة للحل النهائي ولكن تطرح حلول للتخفيف من حدتها وهي تفاقمت في العصر الحديث بفعل عوامل عديدة تراكمت عبر حقب زمنية متوالية.

التطور التكنولوجي المستمر في العالم مع زيادة عدد السكان جعل التخلي عن العمالة اليدوية لصالح الالة امرأ ملحا توجبه المنافسة الحرة ومسايرة التطور الاقتصادي العالمي مما جعل البطالة مشكلة رئيسية بسبب تزايد الأعداد الخرافية للعاطلين عن العمل وما يسببونه عادة من مشاكل سياسية وأمراض اجتماعية عديدة تؤدي إلى كوارث تصاب بها المجتمعات المتحضرة وتضاف إلى المشاكل الاقتصادية الرئيسية التي تعاني منها.

لم يكن هنالك بلد في العالم خاليا من البطالة بصورة مطلقة ولكن التفاوت نسبي فيما بينها مما يعني اختلاف في درجات التحدي والتصدي لها مما يستدعي اختلافا في وجهات النظر والتقييم والتخطيط والتنفيذ.

لم يغفل الاقتصاد السياسي مشكلة البطالة بل تعرض لها بالتفصيل من خلال النقد العلمي والتحليل المستند على قواعد وأسس منطقية وعملية تنامت بفعل التراكم المعرفي والخبرات العملية ووفق مختلف المدارس التي ظهرت منذ القرن الثامن عشر وتطورت بعد ذلك وحسب المناهج المتداولة مع وجود معين لا ينضب من التجارب والأحداث التاريخية والتي تساعد الباحثين والقادة في إيجاد حلول مناسبة وحسب الإمكانات المتوفرة والرغبة الملحة.

حالة البطالة بصورة عامة هي مسألة طبيعية تحدث في حياة اغلب البشر وحسب الانواع الشائعة مثل البطالة الدورية التي تحدث عادة خلال الأزمات الاقتصادية الدورية والبطالة الهيكلية والتي تحدث عادة من خلال اندثار أعمال واستحداث مهن أخرى أو إعادة هيكلة المؤسسات والشركات والبطالة، أما الأخيرة فهي البطالة الاحتكاكية والتي تظهر عند الانتقال من مهنة إلى أخرى أو الانتقال إلى منطقة أخرى أو الهجرة الخ من الأسباب...وهذا التقسيم هو الشائع وقد تكون هنالك تقسيمات أخرى ولكنها على الأغلب فرعية مستحدثة بشكل غير مؤثر على التقسيم الرئيسي.

فئات العاطلين عن العمل ليسوا على درجة عالية من التجانس، بل هي فئات غير متجانسة إلى اقصى مدى ولكن الجامع فيما بينها هو التوقف عن العمل لفترة زمنية محددة لأسباب متعددة، مما يعني انه قد يكون هنالك رجل أو إمرأة عاطلين بالرغم من امتلاكهم القدرات الجسدية والتقنية العالية بينما يوجد أخرون عاملون ولكن ليست صحتهم على ما يرام أو لا يحملون أية درجات أو مهارات فردية مميزة.

البطالة في الغالب هي ظاهرة للعيان ولكن هنالك بطالة مقنعة ومقننة منتشرة وقد تكون أخطر من الأولى وقد لا تحسب ضمن الأولى ولكن هي بالتأكيد تحمل كافة مواصفاتها وآثارها المدمرة وفق مديات متعددة.

منذ فجر التاريخ وظهور بدايات النظم السياسية والاجتماعية، فقد نشأت معها ظاهرة البطالة المقنعة من خلال العمل غير المنتج لفئات طفيلية وجدت في سلم السلطة والقرب منها وسيلة للارتزاق بدون الحاجة إلى المرور وفق متطلبات العمل الجاد والمضنى، وقد خلقت النظم السياسية المختلفة بأجهزتها التقليدية المعروفة، جيوشا هرمة من العاطلين عن العمل سواء الظاهر منها أو الباطن كما خلقت بسياساتها أو حروبها وصراعاتها أو الإسراف والتبذير، أوضاعا مزرية تسببت في خلق كم هائل من العاطلين البائسين مما وسع من دائرة الفقر ضمن المجتمعات المحلية المختلفة، وتسببت في تأخر التطور الإنساني لحقب زمنية طويلة لا تعوض!.

البطالة في العراق الحديث:

العراق كبلد يصنف ضمن فئة العالم الثالث، لا يختلف عن الآخرين وبخاصة ضمن الذين يعانون من نفس الأسباب التي تؤدي إلى البطالة والفقر والمعاناة الإنسانية الشاملة، وهو كبلد يعاني من عدم الاستقرار لفترة طويلة وصاحب ثروات طبيعية وبشرية كبيرة، جعل الحالة شبه استثنائية ضمن التصنيفات الدولية المتعددة للبلاد التي تحمل نفس المشاكل والإمكانيات والظروف.

منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1920 والبلاد تشهد متغيرات جوهرية في هيكلية الاقتصاد المحلي وتركيبته الاجتماعية، فقد كان البلد زراعيا يسوده الأقطاع وكانت البطالة محدودة بسبب عدم وجود تكنولوجيا تساعد على الاستغناء عن الأيدي العاملة الرخيصة آنذاك مع الحاجة في الفروع الأخرى إلى القوى العاملة التي لا تحتاج إلى مهارات عالية خاصة في ظل بساطة طرق الإنتاج والحرف اليدوية، كما أن وجود نظم ديكتاتورية فاسدة على رأس هرم السلطة بعد التأسيس جعل الحلول المطروحة غير مكتملة أو غير دقيقة ولا توجد معها تطبيقات جوهرية لحل أي مشكلة جديدة تواجه الجميع.

مع بدء إنتاج النفط العراقي عام 1927 وتنامي الموارد المالية النفطية والتي كانت محدودة لعقود تالية بسبب رخص الأسعار العالمية والاحتكارات الغربية لها لدرجة تجعل الفائدة المرجوة نسبية وبدون قيمة فعلية هامة تساعد على نمو الاقتصاد بسرعة وان كانت المهن والتوظيفات قد تنامت مع تلك الصناعة أو ما يتعلق بها، ومن حسن الحظ أن عدد سكان العراق في تلك الفترة كان ضئيلا مما يعني أن أية واردات نفطية سوف تساعد على بناء الاقتصاد بصورة اكثر فعالية مع ضرورة تقليص الفوارق الطبقية والتقليل من الأنفاق الدفاعي والأمني ومحاربة الأقطاع المنتشر والأمية والجهل، ولكن مع الأسف لم تطبق تلك الأهداف.

بدأت واردات العراق المالية من النفط ترتفع مع تطبيق اتفاقية المناصفة مع الشركات الأجنبية عام 1951 وهو لم يأتي اعتباطا بل هو متأثر بالمتغيرات الدولية أيامها حيث اتفقت الدول المصدرة للنفط مثل إيران أيام مصدق والسعودية وفنزويلا وغيرها على اقتسام الأرباح الناتجة من إنتاج وتصدير النفط والغاز والتي توسعت النسبة لاحقا إلى أن وصلت إلى التأميم الشامل في السبعينيات من القرن العشرين،

ثم تراجع ذلك طفيفا مع ظهور حالة استقدام الشركات العالمية المالكة لأحدث التقنيات التكنولوجية في أضخم صناعة على وجه الأرض للعمل مجددا في تلك البلاد وفق شروط تناسب الطرفين ودون أن تخل بالسيادة الوطنية أو استنزاف الثروات الطبيعية بدون مبرر مثلما كان الوضع في السابق.

بالرغم من العيوب والمشكلات السياسية والاقتصادية خلال الحكم الملكي إلا أن التوجه كان جيدا بعد عام 1952 من خلال تأسيس مجلس الأعمار الذي الغي لاحقا وان لم يصل إلى الشرائح الاجتماعية الفقيرة التي تشكل الأغلبية من سكان العراق وبخاصة حول بغداد مما جعل الغضب الشعبي متواصلا من بقاء سوء الأحوال الاقتصادية بالرغم من مرور عقود على بدء إنتاج النفط والذي تباطأ نوعا ما مع ظهور بلاد جديدة منتجة للنفط وبخاصة في الخليج ليست لها القدرة على التحكم في تلك الصناعة وليست مستقلة بعد وبالتالي كانت السيطرة الغربية عليها اكبر التي لها المقدرة العليا في حجم الإنتاج والتصدير والاستفادة من الفوائض المالية الهائلة التي وجدت في البلاد الغربية متسعا للاستثمار والنمو بسبب ضعف تلك البلاد في توظيفها داخليا!.

بعد ثورة 14 تموز عام 1958 تحول العراق تدريجيا إلى الاقتصاد الاشتراكي الموجه بعد أن كان نظامه رأسماليا بامتياز، وتحرر العراق من التبعية لبريطانيا دون أن يجد البديل الحقيقي لذلك التحرر وهو الاستقلال الاقتصادي مما جعل الخسارة أكبر وأعمق!.

كان الاقتصاد العراقي متقدما إلى حد ما بالقياس إلى حالة اغلب البلاد المجاورة له حينها ولكن لم يصل إلى مرحلة تتجاوز تصنيفه ضمن البلاد النامية، وخلال تلك الفترة لم يصل الاعتماد على النفط كما هو الحال بعد ذلك ولكن المتغير الأكبر هو في انتشال عدد كبير من الفقراء من دائرة الفقر المدقع إلى الطبقة الوسطى التي تنامت بدرجة كبيرة حتى أصبحت المحرك الفعلي للاقتصاد والبلاد ككل!.

بعد انقلاب 1963 ووصول حزب البعث ومراكز الحكم الطائفية الأخرى كالجيش إلى السلطة، دخلت البلاد ضمن دوامة رهيبة من التدمير المبرمج وغير المبرر من قبيل التأميم للقطاعات الخاصة بالرغم من تنامي الواردات المالية النفطية إلى درجة قد تجعل البلاد تصل إلى مرحلة عالية من التطور لو استخدمت بصورة عقلانية وواقعية ضمن بوتقة اجتماعية موحدة وتحت ظروف سياسية مستقرة، ولكن الحظ السيء لهذا البلد المنكوب جعله ضمن أكثر البلاد خطورة وفسادا في العالم وان كان الأمل موجود للعودة إلى المراتب المتقدمة ووفق تخطيط اقتصادي طويل وفعال.

تسبب الانفاق الدفاعي والأمني الضخم (بين10% في فترة السلم إلى 30%فترة الحرب) في حصول مشاكل اقتصادية كبيرة للبلاد، فمن ناحية كانت الموارد المالية تخصص لتلك الأغراض التي لا تمت للدفاع والأمن بقدر ما تمت إلى حماية النظم المتعاقبة وفرض السيطرة مع انعدام إيجاد حلول سلمية مع الجيران المشاكسين أحيانا فيما يتعلق بالحدود أو من خلال تمرد الشمال، هذا بالإضافة إلى تجنيد قوى بشرية كبيرة كان من الممكن توظيفها في الاقتصاد لفترة طويلة جعل استخدامها بعد الانتهاء امرأ صعبا بفضل ضعف المهارات وضياع الأماني وعدم وجود اقتصاد متنوع قابل للاستيعاب.

تركت الحروب والقمع الداخلي والهجرة إلى الخارج والإرهاب الطائفي ودفع فواتير النظام البعثي، مآسي على الصعيد الوطني ولفترة طويلة بالرغم من ارتفاع الواردات المالية بعد رفع الحصار عام 2003 ونتيجة ارتفاع أسعار النفط في السوق الدولية ألا أن ذلك لم يغير من المعادلة من شيء بسبب ضعف التخطيط والفساد وارتفاع عدد السكان مع اعتمادهم الكبير على الدولة في التوظيف والخدمات بسبب ضرب القطاع الخاص بواسطة التأميم والمصادرة بعد عام 1964.

أعداد العاطلين:

لا يمكن إعطاء أرقام دقيقة لأعداد العاطلين عن العمل في العراق بسبب ضعف الجهاز الإحصائي وهشاشة السيطرة الحكومية مع عدم تعاون الغالبية الساحقة (لأسباب متعددة) في أجراء تعداد إحصائي لهكذا بيانات ممكن أن تساعد الدولة في حل تلك المشكلة، وبصورة عامة فأن البلاد بحاجة إلى إحصاء عام يعطي ضوء حول المشاكل ويمنح فرصة وضع حلول دقيقة، لكن من خلال استعراض سريع للعقود الماضية يتبين أن عقد السبعينيات هو الأقل في نسبة العاطلين بسبب كون البلاد شبه مستقرة مع تضاعف الإيرادات المالية من جراء زيادة الإنتاج والأسعار بعد ازمه عام 1973 مع قلة سكان العراق حينها(بين 10-13مليون) والبدء في خطة تنمية واسعة تحتاج إلى أعداد كبيرة من العاملين حتى أن البلاد استوردت حينها بضعة ملايين من العمالة الأجنبية وغالبيتها عربية بالطبع ونسبة كبيرة منها لم تكن البلاد في حاجة أصلا لها لافتقادها إلى المهارات العالية ولكن بسبب السياسة القومية التي تسمح بتوطين العرب وتجنيسهم أو السماح لهم بالإقامة غير المقيدة وتفضيلهم على فئات وطوائف مغضوب عليها!...

وفي عقد الثمانينات بدأت الحرب مع ايران وحينها سيق إلى الجيش غالبية القوى العاملة حتى اصبح الاعتماد على القوى الأجنبية امرأ ملحا بغية تسيير أمور البلاد وخلت تلك الفترة من التخطيط والمتابعة السليمة، أما في عقد التسعينيات وبعد حرب الكويت فأن البلاد دخلت في عصر حصار أجرامي مزدوج دولي من ناحية ومن النظام الذي فتك بالشعب وحوله إلى شعب فقير لا يملك قوته اليومي، مما تسبب في ظهور البطالة بشكل مخيف لا يمكن تصور مداها، وتوقفت إثناءها عجلة البناء والتنمية وأصبحت البلاد متخلفة عن الجوار بمراحل وتقاس بدول العالم الثالث الفقير جدا.

أما بعد سقوط النظام البعثي عام 2003 فان الأمور اختلفت نوعا ما برغم المعوقات التي اغلبها موروث وأصبحت تظهر الإحصائيات والاستبيانات بعد أن كانت السرية تحكم اغلبها منذ بداية الثمانينات وانفتحت البلاد بشكل غير محدود على العالم الخارجي برغم الإرهاب الطائفي المدعوم إقليميا والذي استند في اغلبه على العاطلين الجهلاء!.

قدر عدد العاطلين في داخل البلاد بنصف القوى العاملة في عام 2003 سواء العلنية أو المقنعة أو الموسمية بسبب تدمير البنية الاقتصادية المتهالكة أصلا مع تعطل الطاقة الكهربائية الضرورية لتسيير الأعمال والمشاريع وضعف شبكة المواصلات الباقية فضلا عن انعدام الأمن وانتشار الفساد.

أخذت أعداد العاطلين تنخفض باستمرار رغم عدم وجود إحصائيات دقيقة لذلك ودخلت إلى القطاع العام بعد ارتفاع حجم الأجور وبخاصة في قطاعي التعليم والأمن نسبة عالية بسبب ضعف التشغيل في المرافق الأخرى وتضاربت حتى تصريحات المسؤولين عن حجم البطالة أو القوى العاملة ولكن من الممكن تقدير حجمها الفعلي بحوالي 15%-20% من المجموع العام بعد عام 2010 ومن هذا التقدير بالإضافة إلى القوى الفائضة عن الحاجة الفعلية فأن البلاد تضم أعداد كبيرة من العاطلين يحتاجون إلى الدعم الحكومي والدولي بغية تطوير قابلياتهم كي يكونوا على نفس المستوى مع شغيلة العالم الخارجي... ومن الواضح أن التوظيف سوف يزداد مع نمو الواردات المالية النفطية المتوقعة بسبب ضخامة الاستثمارات المحلية والدولية في هذا القطاع المحرك الرئيسي للاقتصاد ولكن بدون تنويع مصادر الدخل وبخاصة الزراعة والسياحة فأن الوضع لن يتحسن بسرعة مثلما هو متوقع.

الحلول المقترحة:

يمكن وضع حلول تدريجية بسيطة ومتغيرة لتوظيف أكبر عدد ممكن من العاطلين سواء مع بقاء حجم الواردات الحالية من تصدير النفط أو تزايدها، بشرط توفر الشروط الموضوعية الأساسية والمتمثلة بحل مشكلة الطاقة الكهربائية وتحديث شبكة الطرق وتوسيعها مع فرض الأمن وتقليص الفساد من خلال إصدار القوانين الصارمة.

اول تلك الحلول خلق مهارات عالية على المستوى التقني والتعليمي لدى اكبر عدد ممكن من الفئات النشطة من خلال استحداث كليات ومعاهد التعليم العالي وخلق دورات تدريبية عديدة تستخدم أحدث الوسائل التكنولوجية والإدارية مع أرسال أكبر عدد ممكن إلى خارج البلاد للتعلم والتدريب للتمكن من استيعاب أحدث الوسائل والطرق والمهارات، كما أن الاستثمارات الأجنبية الضخمة وبخاصة في قطاع الطاقة سوف تؤدي إلى استخدام أعداد اكبر في هذا القطاع وأيضا إلى حصولهم على خبرات ومعارف جديدة تؤسس لقاعدة صناعية كبيرة ومتقدمة في ظل وجود مقدرة عالية على الاكتساب، وقد ساعد توفر الأيدي العاملة المختصة والرخيصة نسبيا بالمقارنة مع بلاد أخرى على توظيفهم بسهولة في تلك شركات الطاقة الدولية العملاقة العاملة في البلاد.

مع الحل الأول يمكن استغلال الوقت لاستصدار أكبر عدد من القوانين واللوائح والأنظمة الإدارية والقانونية واستعارة قوانين وأنظمة الدول الأخرى والتي ظهرت للعيان نجاح تجاربها الاقتصادية مع مراعاة الظروف والإمكانيات، أي أن بعض الدول تختلف أوضاعها مما يعني أن قبول قوانينها وأنظمتها الإدارية بصورة كاملة امرأ خاطئا لا يمكن تصور نتائجه هذا في ظل كثرة التجارب الدولية الناجحة مما يعني انه توجد حرية في الاختيار والانتقاء وحسب الحاجة وظروفها.

مسألة حماية الصناعات المحلية من مزاحمة المنتوجات الأجنبية هي عملية قديمة أثبتت عدم جدواها لأنها لا تساعد على تطوير تلك الصناعات بل سوف تحافظ على رخصها ورداءة نوعيتها وفي ظل وجود رغبة للعراق في الانتماء إلى منظمة التجارة العالمية والتي من شروطها هي الاندماج في الاقتصاد العالمي وتيسير التجارة وقبول حرية رأس المال والعمل بدون معوقات، ومع ضعف القابليات العراقية الحالية على المنافسة فالحاجة تكون في دعم صناعات تسد حاجة السوق المحلية وبنفس المواصفات العالمية من خلال دعم حكومي واسع يسمح للقطاع الخاص بالمشاركة الفعالة كمساهم مالي واداري فيها يمكن مستقبلا بيع المشروع للمساهمين حتى تتفرغ الدولة للقيام بمشاريع أخرى أو استحداث خدمات تكميلية تعوض النقص الحاصل حاليا وأيضا جديدة أو السماح بالمشاركة الدولية في المشاريع المقامة أو المقترحة مما يعني وجود فرصة لدخول تكنولوجيا عالية المستوى حتى تقوم بتطوير الإنتاج وتسويقه.

تلك الصناعات التي تسد حاجة السوق المحلية من الأولى أن تكون الأفضلية للتي تحتاج إلى أيدي عامة كثيفة وهي عادة تكون اقل كلفة من غيرها حتى تمتص أكبر قدر ممكن من البطالة مع الرغبة في تصدير الفائض إلى البلاد المجاورة وهنالك عدد كبير من تلك الصناعات الخفيفة والمتوسطة من بينها المنزلية والغذائية والملابس والكتب والقرطاسية ومواد البناء وغيرها من التي يجري حاليا استيراد اغلب منتجاتها.

المنافسة مع المنتوج الأجنبي هي التي تساعد على تطوير المنتوج المحلي من خلال دعمه وليس فرض ضريبة حماية لان من خلال وجود المنافسة مع مواصلة الدعم الحكومي للمنتوج المحلي والذي يكون عادة من خلال تخفيض الضرائب لفترة زمنية وتشجيع استخدام أحدث الوسائل الإنتاجية ومنح المزايا الأخرى، فأن فرص ثبات ونجاح ذلك المنتوج سوف تكون عالية وقد تؤدي لاحقا إلى التصدير إلى الأسواق الأخرى التي تفتقد إلى الصناعات الكثيفة الاستخدام للأيدي العاملة.

من خلال رؤية ضعف الخدمات في العراق مع عدم وجود تناسق فيما بين الأجهزة الحكومية في الكم والكيف فأن الحاجة إلى التوظيف في المكان المناسب هو امرأ ملحا تفرضه الحاجة مع وجود كم هائل من العاطلين الراغبين في العمل، ويمكن التخفيف من حجم الأنفاق من خلال فرض ضرائب ورسوم مناسبة لا تؤثر على المداخيل الفردية وهي تشعر الجميع بأن الفائدة المرجوة عامة ومن الضروري حمايتها بغية تطويرها مستقبلا، فهنالك دوائر عديدة توظف أعداد كبيرة من العاملين الغير فاعلين بينما هنالك أخرى تعاني من نقص فادح في العدد فلماذا لا يجري نقل الفائض إلى المحتاج وسوف يساعد على حل مشكلة ضياع الوقت والجهد والتكاليف من خلال شيوع حالة المراجعات الروتينية لدى دوائر الدولة والمعاناة الشديدة من ضعفها وبطئها والفساد المستشري في داخلها.!

الخدمات البلدية الضعيفة أصلا في العراق والتي لا تستخدم التقنيات والأجهزة الحديثة تحتاج إلى تطوير وتوظيف هائل للعاطلين لا يمكن تجاهله وسوف تساعد على حل مشكلة انتشار النفايات والمخلفات مع صيانة الطرق والبنايات والأسواق وغيرها، وفي الحقيقة هذا المجال يمكن أن يكون شاهدا على نجاح أي حكومة أو مجلس محلي لان التحضر يقاس أولا بما تقدمه الأجهزة الحكومية من خدمات بلدية بمواصفات عالية الجودة تستخدم كثافة هائلة من المستخدمين الدائمين أو المؤقتين، كما أن عدم وجود صناعة لتدوير المخلفات في الشرق الأوسط يجعل الباب مفتوحا أمام العراق لدخوله والاستفادة منه في تنظيف البيئة والإنتاج والتوظيف وحتى الاستيراد من الجوار المتخم أصلا بتلك النفايات والمخلفات!.

قطاع التعليم يمكن أن يخلق عدد كبير من الوظائف خاصة في ظل وجود بنية تحتية متهالكة مع ضعف واضح في الإدارة والتنسيق، والبداية تكون في بناء عدد كبير من أبنية المدارس والمعاهد والكليات والجامعات وفق أحدث المواصفات العالمية مع تفضيل استدعاء الشركات الأجنبية وفرض شروط تفضيل تشغيل المواطنين لان القطاع الخاص والعام في العراق ليس لديه المقدرة على بناء أحدث البنايات وتجهيزها حسب المواصفات العالمية مع وجود فساد علني لا يمكن نكرانه في التعاقد والتنفيذ، وعليه فأن الحل المقترح يساعد على جلب التكنولوجيا الحديثة من ناحية مع تشغيل أعداد كبيرة من العاطلين وفرض حصار على الفاسدين ورعاتهم مما يجعل عملهم اكثر صعوبة مستقبلا لحين حصول تغيير في طبائعهم السيئة !.

وجود عدد كبير من الأبنية الجاهزة سوف يساعد على استيعاب العدد الكبير من الطلبة لان تركيبة الشعب العراقي بفضل النمو السكاني الكبير هي صغيرة نسبيا وتحتاج إلى الرعاية والعناية وسوف يؤدي إلى توظيف أكبر عدد من الأساتذة والإداريين مع تخفيض نسبة الطلبة لكل أستاذ كي تصل إلى النسبة المثالية المتمثلة ب 22 طالب لكل أستاذ أو اقل إذا لزم الأمر وسوف يؤدي هذا إلى توظيف عدد كبير من العاطلين الخريجين من الكليات التربوية والعلمية والإنسانية الذين ينتظرون التعيين لفترات طويلة مع وجود الحاجة إليهم أصلا!.

القطاع الزراعي في العراق قديم بسبب توفر الأرض الخصبة والمياه الوفيرة وشكل على الدوام نسبة هامة من الاقتصاد الوطني وامتاز بتخلفه عن باقي القطاعات وبضعف استخدامه للتقنية الحديثة في الإنتاج فنتج عن ذلك ضعف العائد المادي مما سبب في هجرة كثيفة باتجاه المدن للرغبة في العمل الأسهل والأكثر عائديه.

هذا القطاع قادر على الدوام على توظيف أعداد هائلة من العمالة وفق شروط معروفة لا يمكن التقليل من أهميتها الفائقة بالنسبة له واهمها ضرورة توظيف رساميل هائلة لان هذا القطاع يحتاج إلى جهد كبير للوصول إلى الأهداف المرجوة ومن أهمها سد حاجة السوق المحلية المتنامية من المنتجات المختلفة مع ضرورة ترشيد الاستهلاك المائي للوصول إلى الأمثل من خلال استخدام احدث ما توصلت اليه التكنولوجيا الحديثة للتعويض عن النقص الحاصل في حجم المياه الواردة إلى العراق من خارجه خاصة في ظل حرب المياه التي تشنها تركيا للضغط على العراق لأسباب عديدة مع ارتفاع حجم الاستهلاك بسبب تضاعف عدد السكان، ومع تخلف هذا القطاع فأنه من المستبعد أن يصل العراق خلال فترة قصيرة إلى حالة الدول الغربية التي استغنت عن أعداد هائلة من العمالة في القطاع الزراعي والصناعات المرتبطة به بعد إحلال الالة والتقنية الحديثة محل العمل اليدوي الشاق مع وصول الإنتاج إلى اعلى مدى بحيث اصبح لديها فائض سنوي يمثل مشكلة على الدوام لتصريفه في الأسواق الأخرى!.

وللوصول إلى الغايات المرجوة من القطاع الزراعي فأنه يحتاج إلى توظيف رساميل هائلة لاستصلاح الأراضي ومكافحة التصحر وإقامة سدود وصناعات غذائية وكيميائية عديدة لتلبية حاجة السوق المحلية وتصدير الفائض إلى الخارج وهذا كله سوف يساعد على توظيف أعداد كبيرة من المتعلمين والمدربين في الريف مع إبقاء دعم مالي يساعد على رفع الأجور دون الأخلال بقاعدة الأنفاق ضمن شروط مراقبة صارمة تحد من الفساد والكسل!.

القطاع الأخير الهام هو السياحة، فبفضل وجود الأماكن المقدسة والأثار فأن السياحة الدينية تشكل القسم الأكبر ضمن هذا القطاع وبالتالي لا يحتاج إلى أعلام مكثف يحث السياح من الداخل والخارج على المجيء لان الرغبة باقية مع كونه نظيفا لا يحمل معه مساوئ السياحة الترفيهية لأن الزائرين في الغالب يمتنعون عن اللهاث وراء الملذات الجسدية والتي تمثل مشاكل اجتماعية خطيرة للدول الأخرى ولكن وفي المقابل فأن الانفاق عليها اقل عموما بسبب وجود دعم شعبي وحكومي ضخم للزائرين.

صناعة السياحة والخدمات المرافقة لها ضخمة وعديدة ولا تحتاج إلى زيادة في التوضيح ولكن الحاجة تبقى مطلوبة لتهيئة الأجواء للوصول إلى المستويات العالمية، فالعديد من الدول ومنذ عقود طويلة تحاول الوصول إلى بضعة ملايين من السياح بينما يستطيع العراق الوصول اليه بسهولة مع تهيئة امن دائم وبناء بنية تحتية متكاملة من فنادق وطرق وأسواق ومطارات وغيرها لخدمة السياح والزائرين مع إبقاء الأسعار أو العملة المحلية منخفضة كي يساعد على جلب اكبر عدد ممكن تناسب إمكاناتهم المادية المحدودة، ومع وجود الموقع المثالي للعراق ضمن الخطوط الجوية العالمية بين أوروبا واسيا فأن بناء مطارات ضخمة لتلبية حاجة السوق الدولية وبخاصة الترانزيت والنقل الجوي هي مثالية وسوف تساعد على جلب أعداد اكبر من السياح ينفقون أموالهم في الداخل مما يعني مصادر جديدة للدخل القومي وظهور فرص عمل تحتاج إلى خبرة وتدريب لا يمكن التكهن بعددها بسبب ضخامة القطاع والإمكانيات العراقية الدينية والتاريخية والجغرافية المثالية.

لقد اظهر العراق بالرغم من ظروفه الصعبة قدرات مثالية في توفير خدمات للزائرين وأكيد أن تطوير هذا القطاع مع السماح للاستثمارات الأجنبية بالتوظيف سوف يؤدي إلى نتائج عظيمة خاصة في كون السياحة كقطاع اقتصادي يستخدم أعداد كبيرة من العاملين بأقل قدر ممكن من الاستثمارات بالقياس إلى صناعات أخرى مثل النفط والصناعات التحويلية الأخرى.

دعم القطاع الخاص الذي كان يشكل القسم الأكبر من الدخل القومي قبل النفط وتطويره هو امر هام كي يساهم في توظيف اكبر عدد ممكن من العاطلين، ولكن هذا القطاع يفتقر إلى المبادرة والتنظيم ويحتاج إلى التخلي عن المكاسب السريعة الأنية للارتقاء به، وإصدار قوانين هامة لمكافحة الاستغلال والاحتكار وتشجيع المنافسة الحرة للوصول إلى درجة عالية من الإتقان وفق المصلحة الوطنية العامة، وهنالك مجالات عديدة يستطيع الدخول اليها بكثافة من قبيل الخدمات والحرف اليدوية البسيطة، فعلى سبيل المثال يحتاج العراق إلى عدد كبير من الوحدات السكنية لسد النقص الحاصل وأيضا إلى المخابز التقليدية والحديثة كي تساعد على حل مشكلة الطوابير الطويلة في الأوقات المختلفة وهذا بدوره سوف يقلل من حجم البطالة وبدون استثمارات ضخمة لان عملية التراخيص والتدريب والبناء يحتاج إلى نفقات بسيطة، هذا من ناحية ومن أخرى ضرورة وضع شروط صحية صارمة على تلك الخدمات والحرف للحفاظ على الصحة العامة ولتكوين صورة جديدة مثالية للعراق الجديد، وأيضا هنالك قطاع النقل الداخلي والخارجي الذي يمتاز بضعفه والاستثمار الثقافي والتعليمي اللذان يمنحان البلاد فرصة نمو الرقي الحضاري وغيرها.

الحديث حول البطالة أو القطاعات الاقتصادية المتوفرة في العراق لن ينتهي بتلك العجالة التي يفرضها شروط البحث ومحدودية حجمه بل يحتاج إلى مجلدات ورغبات وجهود لا حصر لها للوصول إلى الغايات المرجوة سواء في بناء البلاد وتطويرها أو في تقليل حجم البطالة إلى أدنى مستوى ممكن، والإمكانات الحالية أو المستقبلية سوف تساعد على بلوغ تلك الأهداف بأقصر فترة زمنية من تلك التي تحتاجها دول أخرى ذات إمكانيات محدودة.

في الخمسينيات من القرن العشرين كان دخل الفرد العراقي يفوق الياباني وفي الستينيات كان يتفوق على الكوري ولكن نهضة البلدين في تلك الفترة جعل الفارق كبيرا بينهما وبين العراق الذي حرمه الصراع على السلطة والفوضى والحروب مواصلة التفوق رغم الفارق بين حجم الثروات الطبيعية التي تساعد على النمو السريع وتلبية احتياجات المجتمع.

كانت الدراسات الاقتصادية الغربية تتوقع بلوغ العراق وإيران وحتى تركيا بدرجة اقل نهاية السبعينيات مرحلة العصر الصناعي بسبب توفر الإمكانيات المادية والبشرية الهائلة التي تحظى بها ولكن توالي أزمات الحروب والحصار وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والمشاكل الأخرى أبعدت تلك البلاد المتجاورة عن ولوج ذلك العصر المتقدم وأحلت محلها بلاد أخرى مثل كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وماليزيا وغيرها بالرغم من ضعف إمكانياتها المتاحة ولكنها بذلت الجهود المثالية الاستثنائية للوصول إلى هذا المستوى البديع من التقدم والرقي.

الأفكار والآراء دائما تتجدد وفق مختلف ظروف المكان والزمان والحاجة ماسة لابتكار وتطبيق الجديد مع تطوير القديم منها أو المعلق لأجل غير مسمى!.

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 28/آيار/2014 - 27/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م