انتقام كينان

روبرت سكيدلسكي

 

في وقت سابق من هذا الشهر اعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ان شركة الغاز العملاقة جازبورم سوف تبدأ طلب الدفع شهر مقدما بالنسبة للتوريدات التي تبيعها لاوكرانيا ولقد ردت صحيفة الاوبزرفر البريطانية على ذلك بنشر رسم كاريكاتوري متميز يظهر فيه بوتين جالسا على عرش من السكاكين التي تشير للخارج وهو يقفل صنبور الغاز الخاص باوكرانيا قائلا: " الشتاء قادم ". لقد كانت الخلفية بلون احمر فاقع كما تم وضع مطرقة ومنجل وجمجمة على صدر بوتين وبالنسبة للبعض على اقل تقدير فإن الحرب الباردة قد عادت.

لكن قبل ان ننجرف الى الحرب الباردة الثانية يتوجب علينا ان نتذكر لماذا وقعت الحرب الباردة الاولى. ان انتهاء الشيوعية قد ازالت سببا مهما وهو النزعة التوسعية للاتحاد السوفياتي واصرار الديمقراطيات الغربية على مقاومتها. لكن الاسباب الاخرى ما تزال باقية.

لقد اشار الدبلوماسي الامريكي جورج ف كينان الى هذه الاسباب وهي الشعور العصبي بانعدام الامن والسرية الموجودة في الشرق بالنسبة للجانب الروسي والقانونية والأخلاقية بالنسبة للجانب الغربي. ان التوصل الى حلول وسط مبنية على اساس الحساب الهادئ للمصالح والاحتمالات والمخاطر ما يزال بعيد المنال.

ان من المتعارف عليه ان كينان قد وضع الاساس العقلاني للحرب الباردة – على الاقل في الغرب- والذي جاء في برقيته الطويلة من موسكو في فبراير 1946 والتي اتبعها بمقال شهير عن الشؤون الخارجية بتوقيع مجهول في يوليو 1947. لقد جادل كينان ان السلام طويل المدى بين الغرب الرأسمالي وروسيا الشيوعية مستحيل بسبب مزيج من انعدام الامن التقليدي الروسي وحاجة ستالين لعدو خارجي والاخلاص الشديد للشيوعية.

لقد جادل كينان ان روسيا سوف تسعى لتدمير الرأسمالية ليس عن طريق هجوم مسلح ولكن عن طريق مزيج من البلطجة والتخريب. لقد قال كينان ان الرد الصحيح يجب ان يكون "احتواء" العداء السوفياتي من خلال " التطبيق البارع واليقظ للقوة المضادة".

لقد فسر المسؤولون خلال فترة ادارة الرئيس هاري ترومان وجهة نظر كينان على انها تتطلب حشد عسكري ضد غزو شيوعي محتمل لأوروبا الغربية وهذا ادى الى نشوء ما يعرف بعقيدة ترومان والتي تفرع عنها منطق المواجهة العسكرية والناتو وسباق التسلح.

ان هذه التطورات ازعجت كينان والذي ادعى ان الاحتواء كان يفترض ان يكون اقتصاديا وسياسيا وليس عسكريا ولقد كان كينان أحد المخططين الرئيسيين لخطة مارشال في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية كما عارض تشكيل الناتو.

بعد وفاة ستالين تطلع كينان قدما الى مفاوضات مثمرة مع نظام سوفياتي اكثر لينا تحت ادارة نيكيتا خروتشوف. لقد شعر كينان بالندم على كيفية استخدام كلماته الغامضة في " البرقية الطويلة " وفي المقال الذي كتبه تحت اسم مجهول حيث شعر بالاسى ان الديمقراطيات يمكن ان تتبنى سياسة خارجيه فقط على" اساس مستوى بدائي من الشعارات والالهام الايدولوجي الشوفيني".

ان تأملنا في الماضي يجعلنا نتسائل ما اذا كان حلف الناتو أو الدعم الاقتصادي والسياسي الامريكي لاوروبا الغربية هو الذي منعها من اعتناق الشيوعية وعلى اية حال اقنع الطرفان انفسهما ان الاخر يمثل تهديد وجودي حيث قام الطرفان ببناء ترسانات اسلحة ضخمة من اجل ضمان امنهما.

وحتى انهيار الاتحاد السوفياتي كانت كل فترة قصيرة من "الانفراج" يتبعها تكديس جديد للاسلحة. لكن كان هناك شيئا جنونيا فيما يتعلق بالامر كله حيث ان هناك فكرة مقلقة تتمثل في ان الناتو قد اطال عمر الاتحاد السوفياتي وذلك عن طريق منحه عدو جاهز لاستبدال المانيا النازية.

من اجل فهم كيف ينظر الروس لاوكرانيا اليوم يحتاج المرء لمراجعة الاحداث من خلال هذه العدسة ولاحقا "لانتصاره" في الحرب الباردة ، ارتكب الغرب خطأ فادحا وذلك برفضه التنازل عن اية شكل من اشكال السيطرة الاقليمية لروسيا حتى في بلدان مثل اوكرانيا وجورجيا والتي شكلت في الماضي جزءا من الدولة الروسية التاريخية.

وعوضا عن ذلك وتحت شعار الديمقراطية وحقوق الانسان ، سعى الغرب بنشاط من اجل انتزاع دول الاتحاد السوفياتي السابق من الفلك الروسي. لقد كانت العديد من تلك الدول متلهفة للهروب من ثقل الكرملين وقام الناتو بالتوسع شرقا في الكتلة السوفياتية السابقة في اوروبا الوسطى وحتى في الاتحاد السوفياتي السابق مع انضمام استونيا ولاتفيا وليتوانيا وفي سنة 1996 حذر كينان والذي كان يبلغ من العمر 92 سنة من ان توسع الناتو باتجاه المنطقة السوفياتية السابقة كان " خطأ استراتيجي كبير ذو ابعاد محتملة خطيرة للغاية ".

ان من المؤكد ان تلك الاندفاعات الغربية قد الهمت جنون الشك والاضطهاد هذا لدى الروس وكما حذر كينان ضد سياسة خارجيه" طوباوية في توقعها ومتقيدة بنص القانون مع شعور زائد عن الحد بصلاح النفس " ، فإن هدف السياسة الغربية اليوم يجب ان يتركز على ايجاد وسائل للعمل مع روسيا من اجل منع تفكك اوكرانيا الى اجزاء.

ان هذا يعني التحدث الى الروس والاستماع اليها. لقد قدم الروس افكارهم من اجل الازمة وبشكل عام هم يقترحون وجود اوكرانيا "محايدة" طبقا لنموذج فنلندا ودوله فيدرالية طبقا للنموذج السويسري. ان الاولى سوف تستبعد عضوية الناتو ولكن ليس للانضمام للاتحاد الاوروبي. ان الثانية سوف تسعى لتأمين مناطق شبه مستقله ذاتيا.

ان مثل هذه المقترحات يمكن ان تكون ساخرة او غير عملية ولكن يتوجب على الغرب وبشكل عاجل ان يسعى لاختبارها واستكشافها وتنقيحها بدلا من الابتعاد مع شعور بالرعب بناء على شعور مبالغ به بالتقيد بالقوانين من افعال روسيا.

ان الدبلوماسية المنطقية المعلقة بين الشعور بالشك والاضطهاد والاخلاقية لديها مهمة صعبة ولكنها لن تحتاج للذكرى المئوية القادمة لثاني اكثر حرب دموية في التاريخ لتذكر رجال الدولة لدينا ان الاحداث الصغيرة يمكن ان تخرج عن نطاق السيطرة بشكل لا رجعة فيه.

* أستاذ فخري لعلوم الاقتصاد السياسي بجامعة وارويك، وعضو في مجلس اللوردات البريطاني ومؤلف سيرة حياة ثلاثة مجلدات من جون ماينارد كينز

http://www.project-syndicate.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 23/نيسان/2014 - 21/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م