وابي سابي حب الجمال الناقص

بدر شبيب الشبيب

 

مع اتجاه حياتنا نحو التعقيد الشديد والصخب واللهاث الماراثوني لطلب كل جديد في عالم الكماليات وما بعد الكماليات؛ ومع انكماش منظومة المثل والقيم التي كانت تسود مجتمعاتنا لصالح قيم ومثل جديدة طارئة تغلب عليها النزعة المادية البحتة؛ فإننا بحاجة ماسة لكل ما يذكرنا بالجماليات التي نسيناها ذات طفرة عند صخرة الثقافة المعولمة المعلبة، فاتخذت سبيلها في البحر سربا.

وابي سابي هي كلمة يابانية مركبة من مفردتين. عندما تبحث عنها عربيا في «غوغل» فإنك لن تجد عنها نتائج بعدد أصابع الكف الواحدة. أما إنجليزيا فستجد الكثير من النتائج تحت Wabi Sabi. ولأني لا أفقه في اليابانية شيئا، فقد توجهت بالسؤال لأحد أقاربي الذي يتقن اليابانية بحكم تخرجه من إحدى جامعاتها، فكان من مضمون جوابه أنها من الكلمات ذات المدلولات الكثيرة والعميقة في اللغة اليابانية، والتي لا تستطيع شرحها أو ترجمتها بكلمة واحدة، حتى لو كنت ياباني المولد والنشأة. وذكر أن من معانيها الجمال في البساطة، والصدق والنقاء، ورؤية الجمال في الأشياء وإن لم تكن مكتملة أو متقنة تماما، كما تعني أن بعض الأشياء لا تُعرف قيمتها إلا بتقادم الزمن ومرور الوقت.

الوابي سابي تعني المنظور الياباني للجمال، والذي يركز على الهدوء والبساطة والرضا والقناعة والحنين للماضي، وعلى قبول غير الكامل أو المكتمل، أو بتعبير آخر وجدان الكمال في غير الكامل، وبالعبارة الإنجليزية Finding perfection in imperfection.

وكما تقول أيرل فورد مؤلفة كتاب WABI SABI LOVE إن الوابي سابي هو شكل من أشكال الفن الياباني القديم الذي يحتفي بالأشياء القديمة البالية الناقصة غير الدائمة، فمثلا إذا كان لديك إناء فخاري كبير تصدَّع في منتصفه، فإن متحف الفن الياباني سيضع الإناء على قاعدة ويسلط الأضواء على التصدع باعتباره جمالا، أو سيقوم بطلاء التصدع بالذهب من عيار 24 قيراط.

في حياتنا الشخصية يمكن أن نطبق فلسفة الوابي سابي في مجالات عديدة. قد نبحث عن الكمال في علاقاتنا الأسرية أو الاجتماعية، وعندما لا نجده نصاب بالإحباط وخيبة الأمل، وربما نصل إلى مرحلة الانفصال أو الاعتزال. أما حين نأخذ بالوابي سابي، فإن منظورنا للأمور سيتغير تماما، لأننا سنفتش حينها عن جزء الكمال الموجود في الآخر، ثم نقوم بتضخيمه والاعتزاز به، بل ربما نجد في عيب من العيوب جمالا أيضا، تماما كما نرى في لثغة لسان البعض جمالا حين يَعدِلون من حرف إلى حرف.

للأسف، فإنه كثيرا ما يحدث الطلاق، الذي انتشر بشكل مخيف اليوم، بسبب الإغراق في طلب المثاليات. هي تريده كامل الأوصاف، وهو يريدها بأعلى المواصفات والمقاييس. والتركيز غالبا على المظاهر الشكلية مع إغفال الجوهر، خصوصا مع تحول الحياة الخاصة جدا إلى عامة جدا، يتم نشرها ومتابعتها على الانستجرام والفيسبوك والوتساب وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي. ومن ثم تكون الصورة أهم من الحقيقة، فالصورة للناس، وعلى أساسها يكون التقييم والتفاخر و«الفشخرة!!» دون أدنى مراعاة لمشاعر الآخرين المحرومين مما يتم التباهي به.

لو طبقنا الوابي سابي بما يعنيه من البساطة والقناعة وقبول بالآخر كما هو؛ وسَعَينا لالتقاط الجماليات غير المرئية فيه، لَتَغير الحال ولأصبحنا أكثر سعادة وهناء. ولو تأملنا قبل ذلك في قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ لأدركنا حاجتنا لنظرة أعمق للأشياء والأشخاص قبل أن نحكم عليها.

الوابي سابي هو دعوة للتعايش الجميل مع الناقص ومحاولة سبر أغواره لاكتشاف كمالياته، وهو طريق يتقنه الباحثون عن الحب الذي لا تؤثر فيه الظروف والمتغيرات الطارئة.

الحكمة ضالة المؤمن

مفهوم الوابي سابي باعتباره منظورا يابانيا للجمال يقوم على أساس الاحتفاء بالبساطة، وتقبل الأشياء، ورؤية جمالياتها، والتغاضي عن جوانب النقص والخلل فيها، والنظرة للأشياء العتيقة التي تقادمت بمرور الزمن نظرة جمالية مختلفة تركز على أصالتها وليس على شروخها وندوبها وتشققاتها وتصدعاتها وما أكل الدهر منها وشرب.

هل كنا يابانيين بالفعل؟! ربما. فإذا كان الاحتفاء بالقديم واحدا من معاني الوابي سابي، فقد كان من المهن القديمة عندنا شراء الأشياء القديمة من زري عتيق وصُفُر عتيق. أما الزري فهو ”الخيوط الذهبية الموجودة في العباءات الرجالية «البشوت» والملابس النسائية «الأثواب»، وعندما تبلى تلك الملابس وتصبح قديمة تؤخذ خيوطها الذهبية «زريها» ويحتفظ بها حيث يقوم أبناء من يعملون بالذهب «الصاغة» بالتجوال بين الأحياء و«السكيك» منادين «من عنده زري عتيق» فتباع عليهم بمبالغ بسيطة“. وأما الصُّفُر العتيق فيقصد به الأواني النحاسية المستخدمة.

وعندما أعود للشعر العربي أجد الشاعر العباسي علي بن الجهم يابانيا حين يقول:

ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها * كفى المرء نُبلا أن تُعد معايبه

كذلك أجد بشار بن برد هو الآخر «وابي سابيا» في بائيته «موت الفجاءة» حين يقول:

إذا كنت في كل الأمور معاتبا * صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه

فعش واحدا أو صل أخاك فإنه * مفارق ذنب مرة ومجانبه

تُرى هل سبق العربُ اليابانيين في تطبيق هذا المفهوم؟ أم أنهم نظّروا له فقط، وما استطاعوا تطبيقه بسبب مزاجهم الحاد الذي لا يرى من ألوان الطيف إلا الأبيض والأسود؟!

ما ذكره الشاعران يتحدث عن حقيقة جميلة نغفلها كثيرا في معاملاتنا اليومية. الحقيقة تقول: إذا أردت أن تكون ناجحا في علاقاتك الاجتماعية، فتقبل النقص والخلل من الآخرين، ولا تطلب منهم الكمال. وبغير ذلك ستكون كمن يطلب المستحيل. وكما يقول الشاعر أبو الحسن التهامي في قصيدته المشهورة:

وإذا رجوت المستحيل فإنما * تبني الرجاء على شفيرٍ هارِ

والمقصود بالعلاقات الاجتماعية ما يشمل العلاقات داخل الأسرة وبين أفراد المجتمع بعضهم بعضا، أو بين المجتمع والمجتمعات الأخرى.

لسنا بحاجة لتحليل الحمض النووي DNA لمعرفة إمكانية يابانيتنا، فما نحتاجه هو العودة للقيم التي كنا نمارسها عن فطرة ذات حقبة زمنية، ثم تركناها واستسلمنا للاستلاب الثقافي الذي أعاد صياغة المفاهيم والقيم، ونجح إلى حد بعيد في إبعادنا عن الجماليات الحقيقية العميقة لصالح العابر الطارئ. أعلم أن لدينا من التوجيهات القرآنية والحديثية ما من شأنه أن يجعلنا متفوقين جماليا على اليابان وغيرها لو التزمنا به حقا، وما ذكرته عن الوابي سابي هو من باب «الحكمة ضالة المؤمن».

https://www.facebook.com/Bader.AlShabib

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 22/نيسان/2014 - 20/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م